النظام السوري: السهل الممتنع! – عمر قدور

Article  •  Publié sur Souria Houria le 6 janvier 2013

يجتهد الكثيرون، داخل سورية وخارجها، في تخيل سيناريوهات النهاية للنظام السوري، ويتضح من تعدد السيناريوهات، واختلافها الشديد أحياناً، أن لغز النظام لم يُحَلّ بعد، حيث لا اتفاق سوى على تلاشي فرص بقائه على النحو السابق، أي بوصفه حاكماً لمجمل الأراضي السورية. في الواقع، تشح المعلومات الواردة من القصر، باستثناء تلك القصص المتضاربة التي يسربها أصدقاء النظام، والتي تَناوَبَ على روايتها وزير الخارجية الروسي ومعاونوه، وبعضها كما بات معلوماً يتحدث عن رئيس يريد الهرب لكنه يخشى أن يقتله قادته الأمنيون والعسكريون، وبعضها الآخر يشير إلى رئيس قرر المواجهة حتى النهاية ولا توجد قوة قادرة على إقناعه بالتنحي.

غير أن تعدد السيناريوهات يصدر عن جهات خارجية أكثر مما تذهب إليه الوقائع، والأخيرة وإن لم تكن حاسمة حتى اللحظة، إلا أن سياقها يستبعد بعض الخيارات المتداولة، إذ ليس من المتوقع مثلاً قبول رأس النظام بمغادرة الأراضي السورية وفق صفقة سياسية. وما يعوق هذا الأمر ليست ممانعة أنصاره، بل التطرف المتزايد في أعمال الإبادة، ومن ذلك استخدام الغازات السامة على نطاق محدود، في نقلة لا يمكن أن تصدر سوى عن المستوى الأعلى، المستوى الذي لا يفكر حقاً في أي تسوية. بهذا المعنى، قد يضطر رأس النظام وحاشيته المقربة إلى الهرب فقط في اللحظات التي يتأكد فيها من السقوط، وربما عندما لا تبقى فرص فعلية للهرب، وحينها لن يكون مستبعداً سحب عروض استضافته من قبل بعض الدول.

من بين كل الإشارات التي يرسلها الروس تبدو إحداها أقرب إلى المنطق، وهي التي تقول إن لا نفوذ لهم أو للصينيين إلى درجة إقناع الأسد بالتنحي. هذا التصريح المتأخر يُثبت ما هو معروف لدى عموم السوريين، فانعدام ثقتهم بالنظام أتى من خبرة به تراكمت خلال أكثر من أربعة عقود، وهم مذ نادوا بسقوطه برموزه كافة، كانوا مدركين استحالة إصلاحه أو تغييره سلماً أو تدريجياً. إن فائض القوة الداخلي الذي راكمه النظام خلال وجوده، والذي قارب أن يكون مطلقاً، يغريه بعدم التسليم بفكرة الهزيمة حتى مع تلاشي فرص الانتصار. ولعل أهم ما حظي به التصريحات الدولية المتكررة بعدم وجود نية في التدخل العسكري، فمثل هذه التطمينات كافية لإبقاء مراهنته على ترسانته الأمنية والعسكرية الضخمة قياساً إلى إمكانيات الثوار.

في الواقع، يبدو أن النظام يستبطن المستوى المسموح به دولياً لاستخدام القوة، أو يغامر بشكل مدروس لاختبار النوايا الدولية، ولعل موضوع استخدام الأسلحة الكيماوية أفضل مثال، إذ بينما تعددت التصريحات من مغبة استخدامها، كان النظام يقوم بإعداد قذائف صغيرة منها تغطي دائرة قطرها نصف كيلومتر، ولم يتأخر عن استخدامها في مدينة حمص. لقد نجح في اختباره، حيث لم تضع القوى الدولية تهديداتها موضع التنفيذ، فضلاً عن الصمت المريب الذي قوبل به هذا الانتهاك الفاضح. إن ما يفهمه النظام -محقاً- أن استخدام الكيماوي على نطاق ضيق سيُقابل بالتساهل، الأمر الذي يعزز ثقته بترسانته وبإمكانية استخدامها ما دامت القوى الدولية النافذة تفضّل تدميرها فوق رؤوس السوريين على الخشية من مصيرها وقت سقوط النظام.

ما ثبت مراراً لكل من يريد رؤية ذلك، أن النظام ممتنع عن السياسة، وهذا يتعلق ببنيته أساساً، لذا لم تنفع المحاولات الخجولة لأصدقائه الروس، ومن قبلها نصائح أصدقاء صاروا لاحقاً خصوماً له، في استجراره إلى ميدان السياسة، بل على العكس، يبدو أن النظام استطاع توريط أصدقائه الباقين في مغامرته، فصار نفوذهم في سورية رهناً ببقائه. باتت التسوية غير ممكنة بالمطلق بين النظام ومجتمع الثورة، وهي تذهب باطراد لتصبح غير ممكنة أيضاً بين غالبية السوريين وأصدقاء النظام، لا لأن الثورة غير ناضجة سياسياً، وهي ربما تكون كذلك، ولكن لانعدام المرونة في النظام نفسه، واختزاله المطلق إلى محض عصابة حاكمة. ولا ينفي هذا التوصيف وجود نسبة من المؤيدين له طالما أن الديكتاتوريات الدموية حظيت بمثلها عبر التاريخ.

سيكون سهلاً فهمُ النظام عطفاً على الخبرات التي راكمتها البشرية، وأيضاً فهمُ امتناعه الجوهري عن السياسة. نحن هنا نقارب التعريف المبسط في الإنكليزية لما يسمى بالسهل الممتنع، ووجه الامتناع في حالتنا ليس تعدد الآفاق «التأويلية» للنظام، بل هو غالباً في عجز القوى الدولية عن اقتراح الفهم البسيط لما هو بسيط حقاً، والبناء وفق مقتضيات هذا الفهم. وهكذا، يظهر النظام سهل الحل تماماً لرجل الشارع العادي في سورية، بينما هو ممتنع عن الحل خارجياً، ولذلك تبدو السياسة على نحو ما يقترحها الخارج، فائضاً لا يتحمله النظام، ومن ثم لم يعد يتحمله الشارع في مواجهة القوة العارية.

سيكون من السهل أيضاً فهم خيبة الشارع إزاء تعدد السيناريوهات الدولية، لا لأن الشارع بطبعه يتوسل العنف، بل لأنه يرى العالم يتوسل أساليب متدرجة من الضغط لم تثبت نجاعتها مع ديكتاتوريات سابقة، مثل صدام حسين أو ميلوسوفيتش. ومن المستغرب أن تقطع قوى عظمى علاقاتها الديبلوماسية مع النظام بعد أن يئست من جدوى التحاور معه أو الضغط عليه، ثم تحاول أن تنفخ فيه نفحة من السياسة بمفاوضته عبر الوسطاء، ومن دون أن تُرفق مقترحاتها باللغة الوحيدة التي يستوعبها، أو حتى أن تلوّح بها.

وامتناع النظام عن السياسة، مشفوعاً بالتخوفات الدولية من سقوطه، يعني في ما يعنيه، منع المنظومة الإقليمية بأكملها من الدخول في عملية سياسية حقيقية، ويعني أيضاً استسهال منطق القوة كمنطق حاكم للتوازنات ضمن الإقليم. على ذلك، يأخذ بعض السيناريوهات المتخيلة عن سقوط النظام منحى الترهيب، أو على الأقل يُؤول بوصفه كذلك من قبل شريحة كبيرة من السوريين، إذ يفترض ضمناً أو علناً عدم قدرة السوريين على الاجتماع السياسي بالأساليب الديموقراطية المعروفة.

لقد كانت الخدعة المعروفة مدرسياً للويس الرابع عشر تتلخص في عدم إقفال باب الزنزانة، بينما السجين يجهد في البحث عن منافذ سرية للهرب. السوريون أدركوا حل هذه الأحجية منذ بدأ النظام بالاستخدام المفرط للعنف، بقي أن يجرب العالم فتح باب الزنزانة.

المصدر: http://alhayat.com/Details/469471?fb_action_ids=405439186205799%2C405438902872494%2C405438352872549&fb_action_types=og.likes&fb_source=other_multiline&action_object_map=%7B%22405439186205799%22%3A414171825329600%2C%22405438902872494%22%3A117745651729990%2C%22405438352872549%22%3A204373996353996%7D&action_type_map=%7B%22405439186205799%22%3A%22og.likes%22%2C%22405438902872494%22%3A%22og.likes%22%2C%22405438352872549%22%3A%22og.likes%22%7D&action_ref_map=%5B%5D