بإمكان روسيا ان تساعد الشعب السوري ولكن ليس بإطالة عذاباته – سمير التقي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 29 décembre 2011

قد يحتار المراقب للموقف الروسي من القضية السورية في فهم خلفياتها، وقد يكتفي البعض بسردٍ لسيرة العلاقات السورية الروسية منذ منتصف القرن التاسع عشر، او اهمية الوضع الجيو- استراتيجي لسورية.ولكن هل تكفي هذه التفسيرات الشكلية لشرح ما يحدث؟
من الناحية النظرية فان سورية هامة من وجهة نظر الاستراتيجية الكونية الروسية،لكن اين هي هذه الاستراتيجية في الوقت الذي لا تزال فيه روسيا تحاول بصعوبة اعادة تحصين الدائرة الجيو- استراتيجية القريبة منها، ولا يزال أمنها القومي يعاني من ثغرات كبرى، بدءا من الدرع الصاروخي في غرب اوروبا إلى صعود الاسلام الاصولي في جمهوريات آسيا الوسطى، إلى تعثر مخططاتها في كل من جورجيا واذربيجان، إلى وضعها المتردي في البلقان، إلى فشلها في اقامة تحالف صلب مع كل من الصين او الهند
فهل اصبح النظام السوري فجأة ‘صخرة تتحطم عليها مؤامرات الاستعمار والامبريالية’؟
يحيل بعض المراقبين سر تمسك روسيا بنظام الأسد الآيل للسقوط إلى أن مبيعات الأسلحة والموقع الاستراتيجي لسورية كأسباب رئيسية لاستمرار روسيا في دعم نظام بشار الأسد. حيث تبلغ عقود التسلح اربعة مليارات دولار في العقد الحالي والتي تشمل في ذلك طائرات ميج المقاتلة 29، وطائرات التدريب ياك – 130، وأنظمة الدفاع الجوي، الصواريخ المضادة للسفن. ولئن كان هذا السلاح الذي لا يتيح لسورية اكثر من أن تمنع تحليق الطيران الاسرائيلي فوق قصر الرئاسة السوري فانه من المؤكد انه لم ولن يصل إلى حد تمكين الجيش السوري من تحرير الاراضي السورية المحتلة منذ 1967
تستثمر روسيا في البنية التحتية والطاقة والسياحة السورية منذ عام 2009، ولكن ليس بأرقام كبيرة، وتقوم كل من شركات سترويتل غاز ببناء مصنع صغير لمعالجة الغاز الطبيعي 200 كم شرق حمص وبدأت شركات أخرى عملها في مشروعين آخرين لكنها لم تستطع المضي في انجازهما. كما بدأت مؤخراً شركة نفط تتارستان العالمية في مجال ضخ النفط في سورية العام الماضي في يناير كانون الثاني وأعلنت أنها ستنفق 12.8مليون دولار على تطوير الآبار قرب الحدود العراقية. ومن المعروف ان ذلك لم يكن ممكناً لولا الخلفيات التي سمحت لهذه الصفقات بالمرور
ويقدم بعض المحللين الغربيين تفسيرات تشطح بعيداً لهذا الموقف الروسي وينسبونه إلى جنون العظمة الذي ورثته روسيا عن الاتحاد السوفييتي. ويقولون ان ثمة تقليدا روسيا عريقا بتبرير الاستبداد والمجازر وراء غبار من امجاد الأمة والمصالح الامبراطورية. ويؤسس هذا التوجه ل ‘مذهب الروسي’ قديم لإضفاء نظرة قدسية على دور روسيا في العالم، والذين يرون في روسيا ‘روما الثالثة’ بعد ان افسد الغرب قيم روما القديمة
ويمعن هذا المنطق في القول ان ازدراء الديمقراطية على انها نتاج للمسيحية الغربية. إذ يرى ان الديمقراطية تضعف المجتمع وتحط من تلاحمه في حين انه ينبغي للدولة ان تكون هي القوة الأساسية التي تؤول اليها وتخدمها كل الخطط والبرامج ومجمل عملية التنمية. وتشن هذه المدرسة حالياً في روسيا حملة شعواء على من تسميهم بالمتغربين الذين تلوثوا بالثقافة والقيم الديمقراطية الغربية، بدلاً من التركيز على تطوير القوى العسكرية التي يفترض، على حد زعمهم، أن تلعب درواً محورياً في استعادة روسيا لمكانتها في العالم. ويتحدث الخبراء الغربيون ايضاً أن الأوساط القومية الروسية عادت للحديث عن ‘حضارة شمالية’ تقدم بديلاً لديمقراطية الغرب، الآيل إلى التفكك
وينسب الخبراء الغربيون موقف روسيا من الأزمة السورية إلى أنهم ينظرون إلى النظام السوري صخرة فريدة تتحطم عليها مؤامرات الغرب باعتبارها داعيا خاصاًوفريداً لهذا النمط ‘الشمولي المافيوي من الليبرالية’. وتردد هذه الأوساط من جهة أخرى أن روسيا تراهن على العدد الكبير من الشركس الذين يعيشون في سوريا ما زالت علاقات مباشرة إلى ذويهم في آسيا الوسطى الشمالية. فسورية هي موطن لحوالي 150،000 منهم نصفهم تقريبا ويحتفظون شخصياتهم اللغوية من الأديغة في آسيا الوسطى الشمالية. وفي حين تعتبر الشعوب الشركسية شعوباً محاربة قوية الشكيمة وتتمسك بقيم اخلاقية عسكرية عالية وساهمت في عملية بناء سورية الحديثة وشاركت في العديد من المعارك وقدمت فيها بعضاً من اهم شهداء سورية وابطالها
لكن الحقيقة تقول عكس كل هذه التفسيرات. وكل من يمعن النظر في هذه الحجج ومجمل هذه الأرقام يدرك انها طفيفة وعابرة ولا يمكن ان تشكل محوراً مركزياً للموقف الروسي
فصفقات السلاح الروسية مع دول الخليج لا تقارن لا بالحجم ولا بالمدى مع ما يمكن لسورية ان تشتري. ولا تشكل عقود النفط هذه الا نذراً طفيفاً من الاستثمارات المشتركة التي تعمل عليها كل من روسيا وايطاليا وبريطانيا في كل من كازاخستان وتركمانستان وغيرها. كما لا يبدو ان روسيا التي انخفضت حصتها من الدخل العالمي إلى ما لا يزيد عن 4′ مستعدة الآن للعودة إلى حرب باردة جديدة. كما ان روسيا تعلم انها حتى في عصرها الذهبي لم تكن تستطيع ان تؤمن لسورية بديلاً تنموياً عن موضع سورية في العالم
لا يبدو كل ذلك مقنعاً
فروسيا التي خسرت ليبيا لا يمكنها ان تدعي انها خدعت في مجلس الأمن بل لابد انها توقعت ان ينزلق الغرب فيها إلى مستنقع آخر مثل المستنقع العراقي. لكن الأمور لم تسر في هذا المنحى، بل سرعان ما خرجت روسيا عملياً من المعادلة الليبية. وبعد ان خطا الاتحاد السوفييتي خطوة متقدمة إلى الأمام من خلال توقيعه على معاهدة هلسنكي التي كرست حداً ادنى من القيم الانسانية والديمقراطية اعتبرت اساسية كي يندرج أي بلد في المجتمع الدولي وفي وأوربا، فيبدو ان روسيا ومن خلال موقفها الراهن من النظام السوري تخطو خطوتين إلى الوراء من خلال دعمها وتسترها ومراوغتها تجاه مذابح النظام. وبالمقابل لا يحمل التاريخ القديم والقريب للشركس والاديغيين اجمل الذكريات مع السلطة المركزية الروسية كما ان جمهورهم العام قد اظهر ميلاً كبيراً نحو التدين وخصوصاً على ضوء احداث الشيشان
فهل يصدق القول ان روسيا نفسها لا تزال تمر هي نفسها بمخاض تحول عميق تخشى ان تجد نفسها في لحظة معينة في خضم نزاعات اثنية وقومية قد تلجأ فيها هي ذاتها لوسائل شبيهة بوسائل الأسد.وفي هذه الحالة،هل تحتاج روسيا لأنظمة محاصرة مأزومة منبوذة كي تروج بضاعتهاودورها الاقليمي؟
لا شك ان الكرملين يرى يوماً بعد يوم استحالة انقاذ النظام. ويعلم انه لن يكون قادراً على الاصلاح ولا على مصالحة شعبه. وهويعلم ولاشك أن النظام السوري قد ينزلق أيضا إلى ذات مصير النظام الليبي، وبالرغم من ذلك يرسل الكرملين الطراد الصاروخي، الاميرال كوزنيتسوف، واثنين من السفن المرافقة في جولة لمدة شهرين للبحر الأبيض المتوسط يرسو خلالها في طرطوس حيث يعمل ستمائة من الفنيين الروس لتجديد القاعدة للسفن الروسية
بغض النظر عن المبررات فان الحصيلة هي ان روسيا اتخذت موقفا مناصراً للجلادين وحاولت مساواتهم بالضحايا ودعمت استمرار سفك دماء السوريين ويعمل الكرملين بقوة ضد فرض عقوبات تستهدف الحاق ضعف شديد بحكم بشار الأسد الآيل إلى السقوط. وها هم المتظاهرون السوريون الذين يضعون دمهم على اكفهم في سبيل سورية حرة ومستقلة ومزدهرة،ويا للأسف، يحرقون الأعلام الروسية غضباً من روسيا
ولو قلبنا اوجه العلاقة بين الطرفين لوجدنا ان المواقف التي تحكم السياسة الروسية تحتاج لمراجعة بلا شك. إذ يمكن لروسيا ان تلعب دوراًبناءً لا غنى عنه في تسهيل مسار خروج سورية من ازمتها ويفتح الطريق فيها نحو انتقال طري في فترة ما بعد حكم الأسد. وبدل من ان تشكل روسيا سداً منيعاً أمام انهاء الأزمة السورية، يمكن لها ان تساهم بل ان تكون شريكاً في صياغة طريق الخروج من المأزق الحالي
تعلم قيادة الكرملين ان النظام السوري آيل للانهيار لا محالة، وذلك قبل كل شيء لأنه يرفض حتى الآن الاعتراف بمجرد وجود الأزمة، ولأنه قطع كل الطرق على قدرته بالذات لإصلاح نفسه وللتصالح مع المجتمع الذي عاث فيه ذبحاً واجراماً، ولأنه ان خطر بباله الاصلاح يوماً فانه الطريق اليه يمر بالضبط عبر الاطاحة بتلك الطغمة الحاكمة وأجهزتها الأمنية التي اصبحت تأخذ سورية شعباً ومجتمعاً وجيشاً رهينة لإجرامها. وتعلم روسيا كل ذلك اصبح مستحيلاً
لن ينسى الشعب السوري موقف الشعب الروسي والدولة الروسية من قضيته. ومن المحزن ان نرى سوء فهم الأوساط الروسية لجوهر القضية والأزمة السورية يدخل العلاقات السورية الروسية في مأزق عميق يعتبر من اصعب اختباراتها. وسيكون من السذاجة الاعتقاد بأن الشعب السوري سينسى اية قيم حكمت السلوك الروسي تجاه عذاباته الراهنة
نعم يمكن لروسيا ان يكون لها دور بناء يساعد فيه الشعب السوري وان تحافظ على مصالحها ورؤيتها لمخارج الأزمة. وفي وقت تظهر فيه اهمية تعزيز الوحدة الوطنيةوضمان هبوط طري لعملية انتقال السلطة والتغيير الديمقراطي في سورية تبرز أهمية تأمين كل الضمانات الممكنة لمنع انزلاق البلاد إلى الحرب الأهلية ولضمان امن واستقرار وسلامة كل مكونات الشعب السوري الطائفية والاثنية، فرداً فرداً وجماعة جماعة سواء في ما قبل السقوط او في مرحلة الانتقال او في سورية الجديدة، وباستثناء تلك الزمرة التي تلطخت ايديها بدماء الآلاف من ابناء شعبنا. بل يمكن لروسيا ان تكون طرفا مسهلاً وضامنا وشريكاً في عملية الهبوط الطري وسيكون الشعب السوري ممتناً لها. وعندها ستصبح سورية صخرة تتحطم عليها كل محاولات كسر هذه الصداقة العريقة بين الجار الشمالي الكبير وسورية الجديدة. فهل تقبل القيادة الروسية بمقاربة اكثر استشرافاً وبصيرة لمستقبل العلاقات مع سورية والمنطقة العربية؟

كاتب سوري

القدس العربي – 2011-12-28

http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\28qpt479.htm&arc=data\2011\12\12-28\28qpt479.htm