باصات استبدلت الركاب بمعتقلين وأحياء محررة من صور الأسد: رحلة تهزّ الروح الى دمشق – زينة ارحيم

Article  •  Publié sur Souria Houria le 13 septembre 2011

ليلة عصيبة من الشجارات مع أصدقائي المحبيّن الذين لم يصدقوا أول الأمر قراري بالعودة لسورية، ‘هو جنون ستعدل عنه قبل أن يحين موعد الطائرة المغادرة للندن بعد عدّة ساعات’ قالوا، وما إن بدأ العدّ التنازلي لعودتهم وشاهدوا بريق الإصرار بعيني صامداً أمام كل حكايات التعذيب وشهادات المعتقلين والقصص المروعة لتلك الأقبية التي يتوقف عندها الزمن، انتقلوا للمرحلة الثانية: محاولات لسرقة جواز السفر وحقائبي، انتهت بإعلام أهلي بقدومي وسيل من الهواتف والوعيد والترهيب، فشلت كلها أمام عنادي، حسمت أمري… أنا ذاهبة للشام
أقلعت طيّارتي بمقعدي الخالي بينما رحلت أنا مع اضطراب عواطفي لتلك الغرفة المزدحمة التي تنتظرني خلف الحدود، عشت رطوبتها ووساختها محاولة سرقة بضعة أنفاس، أغمضت عيوني وراجعت تلك اللحظة على كورنيش بيروت، اللحظة القادرة على تغيير حياتي للأبد وقبل أن أعرف فيما إذا كنت سأرطم رأسي بالحائط ندما، أو سأحييّ جنوني وأتحمل عاقبة اختياري، استيقظت
أنظر طويلا لسماء بيروت باحثة عن بريق ‘نجوم الليل’ التي حملها أهلي بحي الرمل الجنوبي في مظاهراتهم الليلة، أودّع الشاطئ والسماء وأغفو على موعدي غدا مع الأقبية، مساكن النبلاء من أهلي
استيقظ دون منبّه، أقصّ أظافري لأجعل مهمتهم في اقتلاعها أصعب، أفكر بقص شعري لأمنعهم من جرّي منه ثم أعدل عن الفكرة فهو حماية لرأسي عندما تتكاثر عليه الهراوات، أتحسر لعدم توافر الاختراع الماليزي الجديد (ثياب داخلية حديدية لها قفل) أجل فكرت بذلك، فالاغتصاب أيضا من سيم الوحوش
ارتديت ملابسي الفضفاضة والمريحة، حزمت حقائبي وعدّلت أسماء أصدقائي على هاتفي وبعد أن أرسلت كمبيوتري المحمول لبريطانيا لم يبق علي إلا تمزيق بعض الأوراق التي كانت تحمل أسماء العائلات السورية اللاجئة في لبنان وتفاصيل عن كيفية مساعدتنا لهم، وانطلقت
تشنجات قوية في معدتي وآيات كنت قد نسيتها تقفز لرأسي وأرردها بنهم وخاصة آية ‘وجعلنا من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون’ من سورة ياسين
وصلنا الحدود وأنا بحالة ذهول ألاحق بحركات لا إرادية المسافرين، ‘لا تستطيعين الدخول بالهوية لسورية وأنت قادمة من مطار بيروت’ قالها الضابط اللبناني، شردت، فسألني ‘فيه مشكلة’ أجبته ‘ربما’ فنصحني بإخبارهم بأنني أضعت قسيمة الدخول. ذاكرتي فارغة تماماً إلا من صوت هاتف السائق الذي لم يتوقف عن الرنين وطلبي، وأصوات مألوفة متعددة تطالبني بالنزول حالا والعودة من حيث أتيت
على الحدود السورية، بدأت الوجوه العابسة تتكاثف، يخفق قلبي وأنا أستذكرها هنا على بعد آلاف الأميال
دخلت الفرع وقد اشتدت مغصات معدتي، ‘سورية لينا وماهي لبيت الأسد’ كنت أسبّح بها داخلي بحالة هستيرية وأنا أشاهد صور الأسد بكل مكان، وقفت عند أطول طابور.. لكن الدور وصلني
أعطيت الضابط جوازي متجاوزة نصيحة الضابط اللبناني، فقد هجرتني فجأة كل الكلمات، رفعت نفسي قليلا لأشاهد ما يكتبه، خرست كل الأصوات حولي فجأةً، وحدها ضربات أصابعه الثقيلة على لوحة المفاتيح وضربات قلبي علت بذلك المكان المشحور، ‘ماذا تفعلين في بريطانيا’ سألني، أجبته ‘أنا طالبة’، ودون أن ينظر إلي تابع ‘وماذا تدرسين’ فحاك لساني كذبة سريعة ‘إنكليزي’، تساءلت بعدها كثيراً، لو لم تحضرني بديهتي بتلك اللحظة ماذا كانوا ليفعلون بي وأنا التي انهيت ماجستيرا في ذلك العلم ‘المغرض’ ‘الهدّام’ ‘المتآمر’ المسمّى تدليعاً إعلام؟
ختم جوازي ورماه لي… وأنا واقفة لم أتحرك، نظر إلي مستغربا، ‘خلصنا؟’ سألته..أجاب ‘نعم’، ‘عنجد؟’ سألته مرة ثانية بتعجب فقطّب حاجبيه مستنكراً بلادتي، فانسحبت مع خليط من المشاعر وهتفت بصمتي ‘يحيا الغباء’
السيارة تسير وعيوني تائهة تبحث عن لافتة شاهدتها العام الماضي على حدود المصنع كُتب عليها ‘سورية الأسد ترحب بكم’ فلم أجدها..هنا فقط توقفت معدتي عن الحشرجة وبدأت التهم الطريق والصور واللافتات
أغلب اللوحات الطريقة كانت لسيرياتل ومبادرة ‘كل مواطن مسؤول’ والتي نشرت لافتات عليها صورة يد مرفوعة كتب قربها عبارات كـ’ ماضي هو ماضيك.. أنا مع سورية’، و ‘متشائم أو متفائل.. أنا مع القانون’
لافتة زرقاء عالية أوعزت لدموعي بالانهمار للمرة الأولى في سوريتنا…’درعا’… تلك الحروف الأربعة هزّت روحي وعلقّت عيني فيها إلى أن غابت تماماً، وما إن بدأت استعيد شجوني حتى بدت لوحة تدلّ لطريق ‘الزبداني’ ومعها صور اللافتات المتقنة الجميلة وأسماء أصدقائي المسجونين هناك منذ شهور خلف الحواجز الأمنية العديدة
هنا الشام

على أتوستراد المزة، تلبّستني حالة من الذهول سترافقني طوال زيارتي، لم تيقظني منها لفحة الشمس الحارقة التي نسي جلدي ملمسها منذ سنة، ولا ضجيج الشارع وأبنيته التي لم ألحظ قبلاً أنها بهذه الوساخة. كانت حركة الشوارع والمقاهي طبيعية نسبة ليوم رمضانيّ صيفي، لافتات ‘سورية بخير’ تحتل لوحات الإعلانات، وحدها البنوك كانت تشهد حركة غير طبيعية، عدة أشخاص يجادلون الموظفين مطالبين بسحب أموالهم أو يحتجون لعدم قدرتهم على ذلك والكثير من المنتظرين
صور قليلة للأسد توزعت على مفارز حراسة السفارات وبناء شركة للكابلات إضافة لأحد البيوت الذي نشر صورته مع علم البعث على حبل الغسيل
كل الكآبة التي عصفت بروحي بالمزة تلاشت عندما دخلت حيّ الميدان، حججت للجوامع الثائرة من زين العابدين إلى الحسن ومنجك والدقاق وطفت بعلاقتي الجديدة مع الجوامع التي حفظت أسماءها عن ظهر قلب، من العمري بدرعا لجامع سعد بإدلب ومن قاسمو بالقامشلي للرحمن في اللاذقية
عبثاً بحثت في حارات الميدان عن صورة منسية للأسد، فحتى تلك الصورة الوحيدة التي بقيت عند محلات أبو عرب حيدر والمعروف بعلاقته بالنظام تم استبدالها بعلم سوري ‘سادة’، (ويسمّى العلم السوري بالسادة للتفريق بينه وبين العلم الممهور بصورة الأسد). تحت المتحلق الجنوبي ينتشر عدد مهول من الشبيحة يرتدون لباسا عسكريا يشبه بذّات الفتوة التي اعتدنا ارتداءها بالمدرسة، ومعهم أسلحة لامعة وعصيّ والبعض يحمل روسيّات، وبجوارهم تقف عشرة باصات فارغة معدّة لاستقبال المعتقلين الجدد. في شوارع دمشق، استبدلت باصات النقل الخضراء والبيضاء ركابها التعبين بوجوه مدمّاة، يحكي تحدّي عيونها خلف النوافذ حكايات حياة ملّونة وظلم أسود يقتادون إليه
لحظة التقت عيوننا بساحة الأمويين المزدحمة تفتت قلبي بألم لم أشعر بمثله في حياتي، اعتصر العجز أنفاسي، ذراع واحدة وحقول مثمرة بالشجاعة تفصلني عنهم، عيون غاضبة وراءهم تستنكر دفق المشاعر بعيني، لا أستجيب، ألاحقهم حتى يغيبوا في الزحام. تطاردني عيونهم في أحلامي، تؤرق ابتسامة خاطفة ارسمها للقاء عزيز، لن أركب تلك المعتقلات المتحركة بحياتي أبداً
أعادني الشعلان لواقع دمشق (قبل اقتحام مسجد الرفاعي)، متسوقون ‘للعيد’، شباب يتسكعون ويعاكسون بينما يُقتل أصدقاؤهم على بعد بضعة دقائق في برزة والقابون والقدم والميدان، على طول الشارع الرئيسي للسوق تنتشر وبشكل متناظر صور للأسد مكتوب عليها ‘نحنا رجالك سوريّة’ لُصقت بلؤم على الأعمدة الفاصلة بين المحال التجارية، تستطيع أن ترى بوضوح محاولات تمزيقها الفاشلة حيث تم وضع اللاصق على إطار الصورة ووسطها أيضا
موعدي الثاني مع البكاء كان هناك، عندما التقيت صديقي عامر مطر، كان نحوله قد ازداد وبقي على قصة الشعر القصيرة من اعتقاله السابق، لكنه احتفظ بضحتكه ولهفته، وكأن العتم لم يخطفه منّا شهراً، كنا نتحدث بسرعة وضجّة لنعوضّ الكثير الذي فاتنا، كان الوحيد الذي فرح بقدومي بظل مقاطعة كل المحبين من أهلي وزوجي لما أسموه ‘جنوني’
جنوني الذي تٌوّج ذاك اليوم بمقابلتي لأم جوزف، الصبية الحرّة التي سأخوض معها أول مغامراتي الاندساسية في دوما المحررة مساء

القدس العربي – 2011-09-12

http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\12qpt476.htm&arc=data\201199-12\12qpt476.htm