بشار الأسد وجبهة النصرة وداعش والشعب السوري – فلاديمير غلاسمان

Article  •  Publié sur Souria Houria le 13 avril 2014

ترجمة: معن عاقل/ خاص كلنا شركاء

تارة كي يحمي نفسه وتارة أخرى ليؤثر بالمعادلات الإقليمية والدولية، اعتاد النظام البعثي القابع في دمشق أن يستخدم منذ نهاية عقد السبعينات وبداية عقد الثمانينات سلاحين متعادلين في الخطورة للهيمنة: الإرهاب والإسلام.

كان لدى الفريق حافظ الأسد، منذ استيلائه على السلطة بانقلاب عسكري في عام 1970، طموحات كبيرة على الصعيد الشخصي وعلى صعيد سوريا: كان يحلم بالاستحواذ على مكانة جمال عبد الناصر التي تركها بموته قبل بضعة أشهر، ويريد أن يحتكر لنفسه لقب بطل المقاومة والممانعة لإسرائيل عدوة جميع العرب. لكن إمكانيات سورية المتاحة لم تكن على مستوى طموحاته: فشعبها محدود العدد واقتصادها معطل ومصادر الطاقة فيها شحيحة، كما أنها مرتبطة مالياً بأصدقائها ووصل بها الحال إلى استخدام المقايضة مع روسيا التي تعتبر المورد الرئيسي للسلاح إليها، وتعاني من عزلة شعبية في قلب العالم العربي، وسيأتي تحالفها لاحقاً مع ايران الشيعية بقيادة الإمام الخميني ليزيد من ريبة الرأي العام الشعبي حيال النظام السوري.

سيحل الإرهاب والإسلام إذاً مكان الجيش السوري الذي لم يعد بوسع حافظ الأسد  استخدامه ضد العدو الاسرائيلي ولم يعد يريد ذلك، لم يعد بوسعه استخدامه بسبب تحييد الجيش المصري إثر اتفاقات كامب ديفيد عام 1978 التي تركت سورية وحيدة مكشوفة إزاء قوة جارها الجيش الاسرائيلي. ولم يعد يريد استخدامه لأنه ركز جهوده على الداخل وجعل من هذا الجيش وسيلة للحماية ونقل السلطة إلى ابنه البكر باسل، ثم بعد الموت المفاجئ لهذا الأخير، إلى شقيقه بشار، مستعيناً بأجهزة الأمن التي أصبحت القائد الحقيقي للدولة والمجتمع على حساب حزب البعث.

استوعب بشار الأسد دروس والده وآثر هو أيضاً التدخل متخفياً عبر وكلاء، ولم يتردد في بداية أعوام العقد الأول من هذا القرن في استخدام الاسلاميين والأعمال الارهابية في البلدان المجاورة له. نفذ هذه الاستراتيجية في دولتين هما: لبنان، وكان هدف حزب السلطة في دمشق هو تأبيد وضع يدها على الحياة السياسية والموارد الاقتصادية لهذا البلد، والعراق، الذي كان من المناسب فيه أن يمنع الأمريكيين الذين كسبوا الحرب من أن يربحوا السلام أيضاً، وأن  يحول دون سعيهم، انطلاقاً من بغداد، إلى بسط مشروعهم في نشر الديمقراطية على سوريا في إطار الشرق الأوسط الكبير.

هكذا استخدم النظام السوري في عام 2003 الأئمة من أجل تجنيد مقاتلين للجهاد في العراق. ذهب هؤلاء لمساندة البعثيين السابقين والعسكريين الذين سرحتهم سلطة الاحتلال، وأسهموا في تحويل المقاومة الوطنية إلى مواجهة دينية. وفي عام 2005 مَوَّلَ محاولة الاغتيال التي أودت بحياة رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في بيروت وأقصى المعارضة اللبنانية التي تواجه بحزم استمرار التدخل السوري في بلدها. وفي عام 2006 ساعد على إظهار وتثبيت فتح الاسلام في نهر البارد بالقرب من طرابلس ليبرهن أن الوجود السوري ضروري للحفاظ على النظام والأمن في البلد الجار.

أكد توقيف ميشيل سماحة في آب 2012 أن أساليب بشار ارتقت إلى مستوى أساليب والده. فبعد أن أصبح وزير الاعلام اللبناني السابق عضواً في الفريق الإعلامي للأزمة التي يديرها الرئيس عبر مستشارته السياسية بثينة شعبان، نقل في سيارته من دمشق إلى بيروت أكثر من عشرين شحنة متفجرات. إحداها على الأقل كانت مخصصة لتوضع تحت سيارة البطريرك الماروني بشارة الراعي صديق سورية. لأن موته الدراماتيكي ما كان ليلصق إلا بالارهابيين الاسلاميين، وكان سيؤجج بطبيعة الحال التوترات الطائفية في لبنان وسيحوّل الأنظار في الوقت ذاته عن الجرائم التي يقترفها النظام السوري ضد شعبه.

 ==

 في تلك الأثناء وخلال العام 2011، تقدم بشار الأسد خطوة وجازف لأول مرة في سورية باللعب بورقة الإرهاب الاسلامي في بلده. فحين واجهته ثورة وصفتها معظم الدول الديمقراطية بالشرعية، بدأ فعلاً يشجع على تنفيذ ما تنبأ به قبل ذلك ببضعة أشهر. أطلق سراح مئات الجهاديين السوريين والأجانب الذين اعتقلهم خلال العقد السابق عند وصولهم إلى بلده من العراق أو لبنان.

منذ فترة وجيزة، حاول السفير بشار الجعفري، ممثل سوريا الدائم في الأمم المتحدة وعضو الوفد السوري في مفاوضات جنيف 2، تبرئة أجهزة الاستخبارات مؤكداً أنها لم تطلق سراح سوى مرتكبي الجنح والجرائم وأن تلك الأجهزة تجهل ميولهم الجهادية. وطبعاً هذا كذب، لأن المخابرات في سورية لا تفرج عن أحد قبل أن تحصل منه على جميع المعلومات التي تحتاجها، كما أنها تعرف حق المعرفة عندما تطلق سراح أي مجرم طبيعة معتقداته السياسية والدينية.

باتخاذهم قرار إطلاق سراح رجال يعرفون خطورتهم، تخلى بشار الأسد وبطانته عن شيء حتى لا يخسروا كل شيء. ومقابل الخسائر التي سيكبدها الجهاديون المنظمون في عصابات لقوى الأمن، سيكتفي النظام بحالة انعدام الثقة التي ستلتصق بالمعارضة والجيش الحر جراء مماثلتهم بالجهاديين، خاصة وأن ظهور وتوطد الجماعات الأسلامية سيردع دول أصدقاء سورية عن الايفاء بوعودهم وتقديم الدعم للمعارضة السياسية.

وفي بداية عام 2012 ظهرت في سورية منظمة اسمها الطويل يفصح عن برنامجها: جبهة نصرة أهل الشام من مجاهدي الشام في ساحات الجهاد.  وسرعان ما رأت جبهة النصرة بقيادة أبو محمد الجولاني، وهو سوري الأصل من الجولان، أن النظرات والأضواء مسلطة عليها. وكان الانتباه الخاص الذي حظيت به نتيجة لانتشار سيطرتها وأسلوبها الواضح والمتعمد في الحكم. وقد فاجأت جبهة النصرة منذ إعلان تأسيسها في 24 كانون الأول 2012 كل العالم بتبنيها هجمات واعتداءات نُفّذَت في دمشق في ٢٣ كانون الاول 2011، ولم تردع هذه المفارقة وسائل إعلام النظام عن تركيز انتباهها على الوليد الجديد مؤكدة بذلك شبهة التواطؤ بين جبهة النصرة والمخابرات التي اعتُبِرَت حتى ذلك الحين المدبرة الحقيقية لتلك الاعتداءات إن لم تكن المنفذة المباشرة لها.

ثمة مظاهر غريبة اقترنت بهذه الهجمات. فقد نُفذت بمنهجية في أيام العطل، وتميزت بإثارة الكثير من الصوت، لكنها لم تُوقع إلا عدداً محدوداً من الضحايا بين عناصر أجهزة الأمن واقتصرت الأضرار على المادية، إضافة إلى ذلك، بدا منفذو هذه الهجمات أنهم يتصرفون بكميات وافرة من المتفجرات وهو ما يثير الاستغراب بالنسبة لجماعة تشكلت حديثاً، وفي بلد لا تباع فيه هذه الأنواع من المنتجات بحرية في الأسواق ولا في متاجر رامي مخلوف المعفية من الضرائب. وأيضاً لم تكن الجثث التي عُثر عليها في أماكن التفجيرات تخص أحداً، وكانت أحياناً في حالة تفسخ متقدمة، كما أن أصحابها لم يكونوا من المارة أو سكان الحي، وهو ما يوحي أنها أحضرت إلى المكان لزيادة العدد…إلخ، وفي الهجمات التالية المرتكبة فيما بعد، سيسود اعتقاد بأن المخابرات ضاعفت عدد الانتحاريين دون علمهم: صاروا يُقتلون في الطريق وهم متجهون إلى الهدف الذي حدده لهم زعيمهم عن طريق تفجير مركبتهم بالتحكم عن بعد، وبالطبع لم يعودوا موجودين ليفضحوا هذه الخيانة…

ورغم التحريض الإعلامي على جبهة النصرة التي تبنت نحو ستمئة عملية خلال العام الأول من وجودها، إلا أن النتائج لم تكن على مستوى توقعات أولئك الذين شجعوا ولادتها. فقد توقعوا الكثير من إطلاق سراح الجهاديين وخلق هذه الجماعة التي جذبت إلى صفوفها مئات المجاهدين القادمين من العراق وأمكنة أخرى، وبالتأكيد وضعتها الولايات المتحدة في كانون الأول عام 2012 على لائحة المنظمات الإرهابية. وبالتأكيد أيضاً، عدلت الحكومات الغربية عن ترجمة قراراتها، أي تسليم معدات عسكرية للمعارضة السورية مقابل إعادة تنظيمها وهيكلة الجيش الحر. وبالتأكيد أيضاً، لعبت المجموعة دورها كفزاعة بين الأقليات الطائفية التي يحتاجها النظام لحماية نفسه ولاستخدامها في دعايته وتوجيه رسالة إلى الغرب المسيحي على نحو خاص. وبالتأكيد أخيراً، عرف النظام كيف يستفيد من الأحكام المسبقة والنفور الشديد المتغلغلين في الرأي العام السياسي إزاء الجهاديين لينسب لهم جرائم ومجازر اقترفت في مدن أو قرى الحولة والقبير والتريمسة…. في حين أن من ارتكبها حقيقة هم الجيش والمخابرات والشبيحة والمليشيات من الزعران المأجورين عند عائلة الأسد.

لكن جبهة النصرة لم تسبب الاستنكار الكبير الذي كانت أجهزة المخابرات تتوقعه لدى المعارضين والثوار ومعظم سكان المناطق التي تخلصت من سطوة السلطة. ورد هؤلاء السكان على القرار الأمريكي في التظاهرة الاسبوعية ليوم 14 كانون الأول عام 2012 بأننا جميعاً جبهة النصرة وأن الإرهاب الوحيد في سورية هو إرهاب بشار الأسد.

يجب ألا تخدعنا هذه الشعارات. فهي تعبر عن التضامن وليس عن الانخراط في جبهة النصرة. لأن غالبية السوريين لا يريدون القاعدة في بلدهم. ولا يريدون في بلدهم الدولة الاسلامية التي يبتغيها أبو محمد الجولاني، الزعيم الخفي لجبهة النصرة الذي لم ير أحد وجهه. كما سنح لهم الوقت ليكتشفوا أن جبهة النصرة تركز هجماتها الانتحارية على المقرات والمراصد والمعسكرات وقوافل قوات النظام وتتبرأ عن الهجمات العمياء التي أغلب ضحاياها من المدنيين وتتجنب تنفيذ عمليات يخشى أن توقع الكثير من الضحايا الأبرياء، ولاحظوا أيضاً انضباط وتفاني وشجاعة هؤلاء الجهاديين في المعارك، ولم يراودهم شك في أنهم يريدون مثلهم تخليص سورية من بشار الأسد وطغمته العسكرية الأمنية. وفوق ذلك استفادوا في أماكن شتى من الخدمات المختلفة التي سعى مقاتلو جبهة النصرة لتقديمها إلى السكان من أجل سد النقص الحاصل جراء اختفاء مؤسسات الدولة. وأدركوا في النهاية أن بعض الشباب وصغار السن غير الجهاديين انضموا مؤقتاً إلى هذه الفزاعة ليساهموا بطريقة فعالة في قلب جماعة السلطة، الهدف الأول للثورة.

 ==

 في هذا السياق، ظهر فجأة تنظيم آخر في شمال سورية حظي على شهرة مشؤومة خلال بضعة أسابيع: الدولة الاسلامية في العراق. يؤكد زعيمه أبو بكر البغدادي صادقاً أن جبهة النصرة ليست إلا إحدى تفريخات منظمته وينذر الجولاني بمبايعته مستنكراً طريقة عمله. إذ ثمة فرق كبير بين ممارسة رجال البغدادي في العراق وممارسة مقاتلي الجولاني في سورية. فرجال البغدادي يتباهون بتزمتهم إلى أقصى حد، وهو ما يقودهم إلى إعدام أولئك الذين لا يشاطروهم أفكارهم وتقترن عملياتهم المنفذة باسم الاسلام بجرائم القتل العمد. أما مقاتلو الجولاني فيلتزمون  بتعاليم المذهبي السوري أبو مصعب السوري ويحرصون على الحفاظ على علاقات طبيعية ما أمكن مع سكان المناطق المحررة، بمن فيهم الأقليات، بحيث يمكن كسبهم أكثر من إخافتهم. حصل أبو محمد الجولاني على تأييد أيمن الظواهري خليفة أسامة بن لادن على رأس القاعدة فيما يتعلق برفضه الخضوع لزعيمه السابق، وسانده في رغبته بالانعتاق منه. وهكذا جعل الظواهري من جبهة النصرة الممثل الحقيقي الوحيد لتنظيمه في سورية وألزم البغدادي أن يقصر عمله على العراق. لكن الأخير لم يذعن، وحتى يؤكد طموحاته، أعاد زعيم الدولة الاسلامية في العراق تسمية تنظيمه بالدولة الاسلامية في العراق والشام، أي في سورية.

على أية حال لا تفسر فظاظة داعش، وهو اسم استخدم مؤخراً للسخرية ويتألف من الأحرف الأولى للدولة الاسلامية في العراق والشام، لا تفسر لوحدها كره غالبية السوريين الشديد، وحتى كره المخلصين للثورة، لهذا التنظيم. ومع أن عدد مقاتليه وتجربتهم العسكرية أكسبته قوة لا غبار عليها، إلا أن سلوكهم انعكس سلبياً على مجمل أولئك الذين ينعتهم النظام بالمتمردين.

ولا بد من الاشارة هنا أن النظام، مثلما استخدم عبارات المتسللين أو الإرهابيين، يستخدم كلمة المتمردين، وينشرها ليضع في السلة ذاتها جميع الذين يرفضون سلطته ويطالبون بتغيير نظامه السياسي… ومن ضمنهم أولئك الذين طالبوا باستخدام الأسلوب السلمي. وراح يشير بهذه المفردة إلى تشكيلة واسعة من الجماعات والأشخاص الذين لا يربط بينهم أي رابط وحتى لا علاقة لبعضهم إطلاقاً بالحركة الثورية. فعندما بادر المدنيون، بمساعدة المنشقين العسكريين، إلى حمل السلاح دفاعاً عن أنفسهم ضد هجمات الجيش ولضمان أمن المظاهرات وحماية أحيائهم، قلدهم أناس لا يريدون خدمة الثورة، وإنما أرادوا الاستفادة من ظروفها. وكما في جميع حالات الفوضى، لوحظ تكاثر جماعات سميت بالمتمردين مؤلفة من اللصوص وقطاع الطرق ومهربين من جميع الأصناف.

ولوحظ أيضاً بين الجماعات المتمردة رجال يعملون ضد الثورة وليس لصالحها. وبعد أن خلقت أجهزة أمن النظام هذه الجماعات أسوة ببعض الجماعات الاسلامية في الجزائر في وقت سابق ليس ببعيد، أوكلت إليها إثارة الشعور بالنفور من الثورة لدى ضحاياها عموماً ولدى طوائف الأقليات في المقام الأول وذلك عبر ارتكاب ممارسات فظيعة.

ومهما يكن من أمر، فإن الأعمال غير القانونية من ثأر وخطف وسلب وإعدامات بلا محاكمة التي ارتكبتها جماعات مختلفة من المتمردين، نادراً ما بلغت في وحشيتها وطابعها المنهجي الأعمال المشينة لداعش التي يشكل الأجانب نسبة كبيرة من زعمائها ومقاتليها…. وبينهم فرنسيين. وفي غضون أسابيع أثار سلوك هذا التنظيم سيلاً من الأسئلة.

فلاحظ السوريون في المناطق التي أقام فيها تنظيم البغدادي أنه يقاتل قوات النظام بشكل متقطع ويسعى للاستيلاء على جميع المنافذ الحدودية التي تؤمن له الوصول إلى تركيا والعراق. وهو لا يطمح فقط للاستيلاء عليها وإنما يطمح أيضاً إلى احتكار العائدات المالية الناتجة عن حق العبور، وإلى السيطرة على قسم كبير مما يدخل من شمال البلاد كالغذاء والدواء والوقود وأيضاً السلاح والذخيرة وأخيراً على عمال الإغاثة والصحفيين الأجانب، وبينما كان عمال الإغاثة والصحفيون الأجانب يقدمون خدماتهم للثورة، عن طريق اعتنائهم بالجرحى بشكل تطوعي ونقلهم كيفية تنظيم الثوار لأنفسهم في المناطق المحررة إلى الخارج، عمدت داعش إلى احتجازهم وخطفهم، وتردد السوريون في الحديث عن احتجازهم باعتبارهم رهائن. وراحوا يقارنون أسر داعش لهم بالاعتقالات التي تنفذها السلطة في المدن الخاضعة لسيطرتها. فكلاهما، أي داعش والسلطة، يريدان أن يحرما الناس الذين يرفضون سلطتهم من الرعاية وكلاهما يريدان منع نشر أية معلومات خارج سوريا تتناقض ودعايته.

وتساءل السوريون على سبيل المثال إن كان اعتقال الأب المسيحي باولو في الرقة نهاية شهر تموز عام  2013 يخدم مصالح داعش التي لم يُبد مؤسس دير مار موسى رأيه بشأنها وحتى سعى للتفاوض معها لتحرير المعتقلين أم يخدم مصالح السلطة في دمشق؟ في الحقيقة يعرف الجميع أن القس استنكر في أرجاء المعمورة عنف القمع الممارس على الشعب السوري وبرر انتفاضته. ويعرف الجميع أيضاً أنه بذل جهداً للتصدي لدعاية النظام الموجهة للدول المسيحية الكاثوليكية التقليدية وأن اعتقاله ترك الساحة فارغة أمام راهبة تتلاعب بها المخابرات.

وكذلك في المناطق المحررة نفسها، شعر السوريون بالصدمة من مواقف داعش إزاء المجتمع المدني الذي كانوا يحاولون أن يؤسسوه. وجدوا تشابهاً محيراً مع ما تمارسه أجهزة استخبارات النظام في أمكنة أخرى. فلم يكتف مقاتلو الجماعة بالتصرف على هواهم والتوقيف التعسفي وممارسة العنف ضد من لا يطبقون المبادئ التي يفرضونها، بل ورفضوا أيضاً سلطة المجالس المحلية واللجان القضائية مع أنها تطبق العدالة على أساس الشريعة والقانون الاسلامي. ومثل المخابرات، أعطى مقاتلو الجماعة الأولوية لاستهداف المعارضين السياسيين والناشطين، فاعتقلوهم وحطموا حواسبهم وأجهزة اتصالاتهم وأغلقوا مكاتبهم الإعلامية الجديدة وحظروا الجمعيات الخيرية والجمعيات غير السياسية، وعذبوا سجناءهم ولم يترددوا في قتلهم بالعشرات عندما واجهتهم صعوبات عسكرية. وهاجموا أخيراً قادة المجموعات العسكرية الذين رفضوا مبايعتهم أو أصروا على عدم التنازل لهم عن السلطة في المناطق التي يطمحون لاخضاعها لقواعد دولتهم حسبما يرونها: الدولة الاسلامية في العراق والشام.

 ==

 كثير من السوريين مقتنعون أن داعش صنيعة أجهزة استخبارات النظام، وهم واثقون أن التنظيم استفاد من مساعدة ايران للحصول على موطىء قدم له في سورية اذ أن عدداً من مقاتليه مر عبرها … كما تؤكد جوازات السفر التي عثر عليها في حيازة بعض قتلاهم. ويعتقدون أيضاً أن تنظيم البغدادي حظي بدعم العراق الذي سهل عبور مئات الاسلاميين إلى سورية للانضمام إلى صفوفه بعد إخلاء سبيلهم من سجن أبو غريب إثر الهجوم الارهابي عليه في تموز 2013.

بينما لا يرى سوريون آخرون في داعش إلا حليفا ً موضوعياً للسلطة الحاكمة. وإذا كان هذا التنظيم قد ساعد النظام فبغير قصد، لأنه ينفذ برنامجاً استبداديا معادياً للديمقراطية ويشبه إلى حد بعيد الحزب القائد للدولة والمجتمع، كما كانت هي حال حزب البعث قبل تغيير الدستور في شباط 2012. ومع أن المحرك الإيديولوجي لداعش يناقض المحرك الإيديولوجي للنظام إلا أن ممارسات كليهما متشابهة تماماً.

 إذاً لأسباب واقعية وعملية وليس لأنهم متواطئون، تجنب الجيش السوري قصف مواقع ومقرات داعش المعروفة للجميع. واكتفى النظام بالاستفادة من ممارسات جماعة كان يرغب بوجودها وينتظر منها أن ترهب السكان بتعصبها وأن تشوه صورة المتمردين والثورة وتحرض عدداً من السوريين على التقارب منه وتبرد حمية الدول الميالة الى التدخل.

وفي نهاية عام 2013، وصل ابتزاز داعش إلى حد أن سكان العديد من المناطق المحررة أظهروا غضبهم وطالبوا بسحب جميع مقاتليها من مدنهم. ومن جهة أخرى، قررت المجموعات المسلحة، ولا سيما الاسلامية منها التي عانت من ممارسات تنظيم البغدادي، قررت أخيراً الانتقال إلى الفعل. وقد تأخرت هذه الخطوة لعدة أسباب: التفوق العسكري الرادع لداعش، وأولوية القتال ضد النظام على الصراعات الداخلية، وصعوبة التوحد ضد هذا العدو المشترك وصعوبة الاتفاق مسبقاً حول الجماعة التي ستسفيد من إضعاف داعش أو من طردها، وربما الأهم مشكلة الفتنة الحساسة، الفتنة بين أفراد الجماعة التي ينبغي تجنبها بأي ثمن لأنها تعتبر إثماً عظيماً في الاسلام.

في بداية عام 2014 أزيلت الصعوبة الأخيرة بواسطة الآراء القضائية والفتاوى الصادرة من مختلف العلماء السوريين وغير السوريين الذين نعتوا رجال داعش بالخوارج، أي الناس الذين يقصون أنفسهم بأنفسهم عن الجماعة، وبالغلاة، أي المتطرفين في دين يدعو إلى التوازن والاعتدال والوسطية المثالية. إذاً صار بمقدور المعارضين أن يقاتلوا. وبعد أسابيع، في منتصف شهر آذار، اضطرت الدولة الاسلامية في العراق والشام لسحب الكثير من مقاتليها من المدن التي  تسيطر عليها في غرب وجنوب حلب وأعادت تجميعها في محافظة الرقة التي بقيت مع القرى المحيطة بها معقلهم الرئيس في سورية.

بالتأكيد لم يتخلص السوريون من داعش التي بدأت تغير من استراتيجيتها وتسعى الآن إلى التجذر عوضاً عن الانتشار بحيث ترسخ أسس دولتها الاسلامية. غير أنهم ، أي السوريون، قد أثبتوا في هذا الشأن عدة أشياء مهمة للغاية:

أثبتوا أن الشعب السوري ليس أرضاً خصبة للقاعدة والمجموعات الجهادية. وإذا كان السوريون قد احتضنوا جبهة النصرة خلال عام ٢٠١١، فذلك بسبب عدم رؤيتهم للدول التي يعتمدون عليها، والدول الديموقراطية بشكل خاص، تقدم لهم العون لأنهم يحتاجونه للفرار من الموت. كانوا تائهين في المحيط وأمسكوا بخشبة النجاة الوحيدة التي وقعت تحت أيديهم، لكنهم بعد وصولهم سالمين إلى بر الأمان لا ينوون إطلاقاً استخدام هذه الخشبة في إعادة بناء وطنهم.

أثبتوا بعد ذلك أن الثورة السورية لن تؤدي حتماً إلى إقامة دولة اسلامية في سورية، كما تروج دعاية النظام لإخافة المجتمع الدولي وكبحه عن الفعل. إن سكان المناطق في شمال غرب سورية بوقوفهم ضد داعش، مع أنهم أناس بسطاء محرومون اقتصادياً، يؤكدون عدم استعدادهم، بعد أن دفعوا أثماناً باهظة للتحرر من نظام سياسي مستبد، للخضوع لتنظيم قمعي أيضاً ولا يحترم الحريات الفردية والعامة.

أثبتوا أيضاً أن النظام يكذب في إدعائه أنه يحارب الإرهاب ليشتري نجاته من الدول الغربية، كما فعل في افتتاح مفاوضات جنيف في مونترو في شهر كانون الثاني 2014. وقد أكدت سنوات الثورة الثلاث أن بشار الأسد لا يقاتل ضد الإرهاب وإنما يتلاعب بالإرهابيين، وأنه يتحمل المسؤولية الأساسية، بسبب شراسة القمع الذي ما زال يمارسه على شعبه وبسبب إطلاق سراح جهاديين خطرين، في ظهور جماعات راديكالية في سورية، كما يتحمل مسؤولية وصول الشباب المسلم من جميع البلدان، الراغبين في تقديم الدعم والمساندة لشعب خذله المجتمع الدولي.

أثبتوا أخيراً أن الشعب السوري عموماً والجيش الحر خصوصاً يشكلون تحالفاً أكثر جدية وديمومة من النظام حامي الأقليات الذي لم تمنعه علمانيته المزعومة أبداً من التحالف مع الجهاديين ومن استخدامهم ضد شعبه ليضمن بقاءه، وأثبتوا أن هذا التحالف كفيل بمواجهة التيارات الاسلامية ومكافحة الإرهاب الذي يقلق اليوم عدداً كبيراً من الدول.

http://all4syria.info/Archive/141648