بعد تفخيخ دمشق تفجيرها – ياسين الحاج صالح

Article  •  Publié sur Souria Houria le 11 novembre 2012

من يحتمل أنه فجّر سيارة مفخخة في حي المزة 86 في دمشق الاثنين الماضي؟ وسيارة أخرى في حي الورود في اليوم التالي؟ المشترك بين الحيين أنه تقطنهما أكثرية علوية.

قبل هذه الحوادث جرى تفجير سيارات مفخـــخة في عدد من المناطق الثائرة، 5 تفجيرات فـــــي المعضمية، وتفجير في برزة البلد، وآخر في حي الزهور أول أيام عيد الأضحى، كان ضحاياه من الأطفال. في الأمر ما يشير إلى نسق ثابت، لا يكاد يمكن التشكك في مسؤولية النظام عنه. وكانت موجة التفجيرات هذه تزامنت مع تفجير في ضاحية جرمانا (متنوعة السكان مع غالبية درزية)، ثم في منطقة باب توما ذات الأكثرية المسيحية (وقع التفجير في ساحة مزدحمة الحركة، ويبدو أن هناك مسيحياً بين الضحايا الـ 16). هذا التزامن ألقى ظلالاً من الشك بأن النظام هو المسؤول عن هذه التفجيرات أيضاً، من باب دفع الأقليات إلى الاحتماء به. وبينما لا مجال للقطع في هذا الشأن، لا يمكن تكذيب الأمر عن النظام، لا قبل ميشال سماحة ولا بعده، وله في ذلك مصلحة ظاهرة.

فهل يعني ذلك أن النظام أيضاً هو المسؤول عن تفجيرات المزة 86 وحي الورود؟ يوم وقع التفجير الأول ذهبت الظنون في هذا الاتجاه فعلاً، ورُبط الحادث بسلسلة التفجيرات السابقة له. ولكن حين وقع تفجير حي الورود، ثم قصف حي نسرين في منطقة التضامن الثلثاء الماضي (سكانه علويون أيضاً)، والمزة 86 نفسها يوم الأربعاء، أخذ يلوح نسق آخر، مغاير، ربما تنتهجه جهات من المقاومة المسلحة للنظام. ولا يبدو أنه يغير من الأمر ما قالته «رويترز» الأربعاء من أن القذائف التي وقعت في المزة 86 كان مستهدفاً بها القصر الجمهوري.

كانت جهود عقلاء محليين في مناطق متعددة من دمشق حالت دون وقوع عمليات انتقام طائفية ضد ما يسمى، تحرّجاً، «أحياء موالية»، عدا عمليات خطف متناثرة. لكن لا وجه للاطمئنان إلى عدم حدوث مثل تلك العمليات، اليوم أو في أي وقت، بينما النظام يستخدم على نطاق واسع ومتكرر سكاناً من «عش الورور» ضد برزة المجاورة، ومن حي الورود ومساكن الحرس ضد قدسيا والهامة، ومن السومرية ضد أهالي داريا والمعضمية، مما هو معلوم ومتواتر في العاصمة التي لا تكاد تنقطع أصوات القصف فيها منذ هدنة الإبراهيمي الشهيرة.

وحين نتكلم على برزة والمعضمية وداريا وقدسيا والهامة… فإننا نتكلم على أهالٍ، لا على «ثائرين»، ولا على «مقاومة مسلحة»، وإن كانت حواضن «طبيعية» لهم. وهم أهالٍ صودرت ملكيات كثيرين منهم في أطوار متعددة من الحكم البعثي والأسدي، لغير أغراض «المصلحة العامة» غالباً، قبل أن تتعرض بلداتهم للقصف العشوائي المتكرر وملكياتهم للنهب، وبمساهمة نشطة من أحياء جوارهم «الموالية» الحديثة النشوء، والتي يبلغ عمر أقدمها 30 سنة بالكاد.

وما هو أشد إثارة للذهول في هذا الشأن أن رئيس الوزراء نادر الحلقي زار حي المزة 86 في اليوم التالي للانفجار، حيث «أكد إعادة تجهيز البنى التحتية والمباني المتضررة من العمل الإرهابي، وإيواء الأسر المتضررة»، على ما قالت «الصفحة الكبرى لمحبي الرئيس بشار الأسد» على «فايسبوك». وهذا حدث لم يسبق أن جرى ما يشبهه لأحياء وبلدات عمرها مئات أو ألوف السنين، تعرضت لتدمير واسع وسقط عشرات من سكانها أو مئات، المعضمية ودوما والتل وقدسيا والحجر الأسود والتضامن والقدم وبرزة…، ومثل داريا التي شهدت مذبحة مروعة أيام عيد الفطر الماضي راح ضحيتها ما قد يبلغ ألفاً من سكانها، وارتكبها هي الأخرى «المتمردون»، بشهادة الأخلاقيات المهنية لإعلام النظام و… روبرت فيسك.

وغير رئيس الوزراء الذي ربما يهتدي في زيارته للمزة 86 دون أحياء وضواحي دمشق الأخرى بأقوال رئيسه الرافضة لأن يكون رئيساً لكل السوريين، يبدو أن رجل البِر الشهير، رامي مخلوف، قدّم، عبر «جمعية البستان الخيرية» التابعة له، مساعدة لسكان الحي المتضرر ذاته. وهو ما لم يحصل مثله أيضاً لأية بلدات وأحياء أخرى، منذورة في ما يبدو للقصف اليومي و «التخطيط العمراني» في آن.

بهذا يضيف النظام الإهانة إلى الجرح، وفق قول سائر في اللغة الانكليزية، ويكشف عن فجور تمييزي في التعامل مع السكان وفق منابتهم الطائفية، من شأنه أن يسعّر أكثر الانفعالات الطائفية التي لا تكاد تحتاج إلى تسعير. ما يتاح الاطلاع عليه في مواقع التواصل الاجتماعي يشير إلى سعار هستيري غير مكتوم. يُسمع أكثر وأكثر الكلام على «مستوطنات علوية» في دمشق، يجب تفكيكها؛ وتنويعات من كلام مقابل موجه إلى «السيد الرئيس»، يرجوه إبادة أهالي دوما وسقبا وحمورية وجوبر وزملكا… عن بكرة أبيهم، وزرع بطاطا مكان بلداتهم!

قد يكون من قبيل افتعال المفارقة القول إن مزيج القصف والرعاية السياسية والمالية هو بمثابة المجاهرة بحرب مفتوحة متعددة الوسائل ضد السكان. الواقع أن الحرب مفتوحة منذ شهور، وأن غوطة دمشق الشهيرة، أو ما بقي منها، تتعرض لقصف يومي من جبل قاسيون الشهير بدوره، مشفوعاً بالطائرات الحربية التي لا تكاد تفارق سماء دمشق. وليس في هذه الحرب المستمرة ما يساعد في تجنب عنف طائفي بالغ الوحشية إن كان هناك من يريد تجنبه، بل فقط ما يساعد في تعميم العنف الطائفي، وتحويل الصراع من مواجهة بين مجتمع ثائر ونظام طغموي امتيازي إلى صراع مطلق داخل المجتمع. ولكن، أليس هذا أيضاً ما عمل من أجله النظام منذ البداية أيضاً؟ وهل يمكن توقع شيء مختلف من معتوه ينذر العالم كله بأنه غير قادر على تحمل أكلاف سقوطه؟ الله يرحم صدام!

وما من أحد داخل سورية اليوم في وضع سياسي أو أخلاقي جيد كي يستطيع فعل أي شيء مؤثر، ولو إدانة مخلصة، إن حصلت عمليــــات انتقام طائفية على نطاق واسع، ما دام النظام قائماً ومستمراً في حربه. لا تكاد تحـــول دون هذه المخاطر راهناً إلا موازين القوى العسكرية بين النظام والثائرين، وهي موازين تميل بصورة ثابتة الى غير مصلحة النظام.

المصدر: http://alhayat.com/Details/451599