تأويل الموت – الياس خوري

Article  •  Publié sur Souria Houria le 2 juin 2015

منذ عشر سنين قتلوك يا صديقي، سمعت صوت الانفجار وركضت صوب بيتك، كنت أشعر أنني في سباق مع موتك وموتي، وعندما وصلت رأيت وجهك ملتصقا بالمقعد الذي إلى جانبك في السيارة.
كنت جميلاً كطفل وبريئاً كوردة.
ابتسامتك الساخرة ارتسمت على شفتيك، وطنين الصمت الذي أعقب انفجار سيارتك احتلّ المكان.
المكان الذي تظلله اليوم زيتونة سمير قصير، كان مليئا بالناس، لكنني لم أسمع سوى الصمت.
كنت الشهيد الأول يا سمير، لأنك أردت أن تسبقنا دائما. سبقت طفولتك إلى النضج المبكر، وسبقت الحب إلى عشق مواز للحياة، وسبقت شبابك إلى الموت.
اعتقدنا يا أخي الصغير أن موتك جزء من زمن البدايات التي تبدأ، كان ربيع لبنان يصنع انتفاضة الاستقلال، وكنت مع رفاقك اليساريين والديموقراطيين والعلمانيين، ترون في الانتفاضة استكمالا للانتفاضة الفلسطينية وبداية ربيع تزهر فيه دمشق بالحرية. راهنت مع رفاقك ورفيقاتك الذين احتلوا ساحة الشهداء أو ساحة الحرية، على أن النضال الطويل قد وصل اليوم إلى محطة أولى اسمها استقلال لبنان وحرية سورية، فاندفعتم تعانقون الحلم، رغم شعوركم بخيانة الطبقة السياسية اللبنانية الملوثة بالطائفية وعجزها عن قيادة معركة الاستقلال والأفق الديموقراطي.
قبل موتك صرخت برفاقك «عودوا إلى الساحات»، لأنك كنت تعلم، أن الثورة التي تتوقف في منتصفها تنتحر.
اليوم في الذكرى العاشرة لمقتلك وتتويجك شهيداً لبنانياً وسورياً وفلسطينياً، أي بيروتياً، أشعر بوحدة قاتلة، ليس لأنك مت، وأنت الأخ والصديق والحبيب، بل لأنني أتأمل موتك وموتي المحتمل بصفته لحظة لا تكتمل إلا بالتأويل. ومع التأويل الذي يتغير بتغير الأزمنة، يصير الموت حقلاً لاحتمالات شتى، وينضم إلى أسرار الحياة بصفته أحد ألغازها الكبرى.
أكتب عن موتك يا صديقي كأنك لم تمت، وهذا هو درس الموت الأول. فالموتى لا يموتون إلا إذا ماتت أماكنهم في قلوبنا وعيوننا، وأنت تحتل عين القلب، لأنك كتبت التاريخ الأجمل لمدينتك التي تعيش على حافة بركان، ولأن شعورنا بالشقاء بعد موتك، أدخلك في كتاب «الشقاء العربي»، الذي كتبته.
كنت أعتقد أن الزمن يعلمنا النسيان، لكن زمننا اللبناني- السوري- الفلسطيني يا صاحبي زمن عجيب، لأنه يمر كأنه لا يمضي، ويسرع كأنه يبطئ، ويتقدم كأنه يتراجع. أشعر ان 2 حزيران 2005، هو اليوم، وان دمك لا يزال طازجاً على رصيف «الجبل الصغير»، كما أشعر أنك مت من زمان، وان غبار الدم والقهر يحجبك عن عيني.
كنت أتمنى أن أناقش معك مسألة تؤرقني كثيرا، وهي مسألة تتعلق بك وبي وبكل رفاقنا وأصدقائنا الأموات والأحياء، لكن للأسف صار الكلام معك مستحيلاً أو مجرد تأويل لاحتمالات الكلام، لذا أعتذر منك، لأنني أكتب ما أكتب، مفترضاً أن تأملاتي هي حصيلة حوار معك لم يجرِ الا في الخيال.
وسؤالي هو كيف نستطيع تأويل موتك اليوم؟
قبل أن ألجأ إلى احتمالات التأويل أريد أن أعترف لك بذنب أشعر به حتى لو لم اقترفه سوى كافتراض. كنت في جلسة مع بعض قدامى الأصدقاء، حين تكلمنا عنك وعن عدد من أصدقائنا الراحلين، ولا أدري من أين جاءني نزق الجرأة كي أقول إنني أغار منكم، فأنتم متم قبل أن تعصف بمنطقتنا رياح هذا الموت الجارف، وهذا الانحطاط المروع. نعم، قلت انني أغار من الأموات، لأنهم مضوا قبل أن تنطفئ شعلة الأمل في عيونهم، ماتوا وهم على اقتناع بأننا محكومون بالأمل، مثلما كتب صديقنا سعدالله ونوس. ماتوا قبل أن يصير الأمل سراباً، وتدخل منطقتنا في ما بعد اليأس.
أعتذر، لم يكن يحق لي أن أقول ما قلت، فنحن الأحياء محكومون بأن ننزل إلى قعر الشقاء العربي، وندفع ثمن نهضة عربية أجهضها الانقلابيون والضباط، ويأتي الأصوليون اليوم من أجل إيصالها إلى القعر.
نعم يا صديقي، موتك منذ عشر سنين، كان بداية الموت الذي يلف منطقتنا، ولا أستطيع تأويله اليوم أو اكتناه معناه العميق إلا في هذا السياق. كنت يا صديقي طليعة الضحايا، لذا نجوت من التهميش الذي يخنق اليوم الديموقراطيين واليساريين والعلمانيين من أمثالك. موتك اغتيالاً، كان إشارة إلى قدرة قوى الاستبداد والظلامية على تدمير حلم الملايين الذين احتلوا ساحات المشرق العربي من بيروت إلى تونس والقاهرة ودرعا وحمص… انفجرت مجتمعاتنا بالحرية، واشتعلت الثورات من دون أن تجد الثوريين الذين يستطيعون حمايتها والانتقال معها من الاحتمال إلى التحقق.
تعال معي إلى تأمل هذا الشقاء، ليس من أجل أن نيأس، بل من أجل أن نحلم من جديد. الأمل ليس نقيض اليأس، بل قد يكون أحد أشكاله. لذا لا أدعوك إلى الأمل الساذج، بل إلى الحلم. قل لي هل صحيح أن الموتى حين يخرجون من الحياة يدخلون في حلم طويل لا نهاية له. يتحولون من بشر يبحثون عن حلم إلى حلم لا يبحث إلا عن نفسه؟
قل لي كيف نصنع حلماً جديداً، وكيف نحمي حياتنا من الوحش الذي ينهش مجتمعاتنا، ويدفع بها إلى الهاوية؟
اتخيل ابتسامتك التي تمزج الذكاء بالمكر وأنت تدعوني إلى تأمل مصائر المستبدين والطغاة والغزاة، وكيف هزمتهم المدن التي اعتقدوا انهم هزموها.
عشر سنين يا صديقي، والدم الذي سال في بيروت يغطي اليوم المشرق العربي، ويكتب ملحمة بحث عن الحرية ستكون بواباتنا للعبور من ضحايا التاريخ إلى صانعيه.
نتعلم من موتك وكل هذا الموت الذي نعيشه فضيلة التواضع، فالموتى هم الأكثر تواضعا، لأنهم الأكثر حكمة، وفي مدرسة التواضع هذه علينا أن نكتب حكاياتنا من جديد، وهي حكايات لا تصنعها سوى مقاومتنا للاستبداد والاحتلال.

الياس خوري

المصدر: http://www.alquds.co.uk/?p=350499