توحيد العالم بالدم – الياس خوري

Article  •  Publié sur Souria Houria le 20 novembre 2015

 توحيد العالم بالدم

الياس خوري

Elias Khoury

Elias Khoury

نجح أبو بكر البغدادي في توحيد العالم بالدم. من بيروت إلى باريس صنع انتحاريو «الدولة الإسلامية» معجزة القتل والكراهية، وأثبت ورثاء «القاعدة» أن المسيرة الدموية التي بدأت في الحادي عشر من أيلول- سبتمبر، كانت مشروعاً كبيراً يمتلك قدرته على التأقلم مع المتغيرات، مع المحافظة على ثابته الأساسي الذي يتمثل في مقولة الداعية أبي بكر الناجي (أحد كبار منظري «داعش»)، في «إدارة التوحش».
«إدارة التوحش» ليست تهمة بل هي عنوان صاغه منظّرو «داعش»، من أجل تقديم تصورهم للعالم. فكرة التوحش هي جزء من «فقه الدم» الذي هو الفقه السائد في هذا الجيش الإسلامي الذي يضم رجالاً ونساءً من أمم شتى، وهدفه استعادة الخلافة الإسلامية على منهج ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب، وتأسيس دولة الدم والتوحش والاستبداد.
كل العالم هو ساحات قتال، وكل شيء مسموح في قواعد اشتباك بلا أي ضابط. الأسرى يُقتلون وتُسترق نساؤهم وأطفالهم، الكاميرا تصير سلاحاً لمشاهد وحشية تفوقت على خيال ما بعد الحداثة البصرية بما لا يُقاس، والناس تحت سكاكين قاطعي الرؤوس، ولا تمييز بين المدنيين والعسكريين، كل الأماكن صالحة للدم: الشوارع والأسواق والمسارح والجوامع وإلى آخره…
«داعش» وحّد العالم بدماء الضحايا، لكن العالم عاجز وغير راغب في توحيد مواجهة الهمجية الداعشية. المواجهة الحمقاء التي صنعتها الولايات المتحدة، حين قاد الإلهام الكولونيالي المريض جورج بوش إلى غزو العراق، كانت مواجهة بين همجيتين، لذا كان من الطبيعي أن تخرج الهمجية الفتيّة التي تقاتل على أرضها شبه منتصرة.
أما لماذا لا يتوحد العالم؟ فتلك حكاية مرتبطة بوحشية الرأسمالية والجشع الكولونيالي والصراع على المنطقة العربية.
السؤال ليس موجهاً إلى العالم، أي إلى الغرب وروسيا، بل هو سؤال موجه إلى العالم العربي الذي ينزف دماً وقهراً واستبداداً.
إنه سؤالنا نحن، وعلينا نحن أولاً الإجابة عليه، قبل أن نطلب تضامناً أممياً ليس ممكناً في اللحظة السياسية الدولية الراهنة.
العملية الوحشية في برج البراجنة الخميس 12 تشرين الثاني – نوفمبر استكملت بعمل همجي في باريس مساء اليوم التالي. عملان بربريان يجب إدانتهما بلا تردد أو مواربة.
لكن، وعلى الرغم من الأسى والغضب والذهول في فرنسا، يجب أن نسمي الشيء باسمه، فهذا العمل ليس موجها ضد باريس وحدها، بل هو موجه أولاً ضد العرب والمسلمين، لا لأنه يسيء إلى صورتهم في العالم فقط، بل لأنه سيعرّض الجالية العربية في فرنسا إلى محنة كبرى ويساهم في صعود الخطاب اليميني الفاشي في أوروبا. فالهم الأول لمجانين الموت الداعشي هو قتلنا نحن، وتوحيشنا وسحق الحياة فينا.
السؤال عربي، وعلينا أن نبحث عن جواب عقلاني يؤهلنا لخوض المعركة مع هذا الخطر الأسود الذي يريد إبادة مجتمعاتنا.
الأجوبة التي تُقدّم اليوم ناقصة وعاجزة بل تصبّ في النهاية في مصلحة الإرهاب.
الجواب الطائفي ليس جواباً، فالأرضية التي نمت فيها «داعش» في العراق كانت أرضية الجواب الطائفي الأرعن الذي قدمته حكومة المالكي سيئة السمعة. الأصولية السنية لا تُحارَب بأصولية شيعية. ارتطام الاصوليتين قاد مجتمعاتنا إلى الجنون جاعلاً منها رهينة القوى الأقليمية والدولية. رفع السلاح الطائفي في وجه «داعش» هو داعشية مقلوبة، ويساهم في تبرير الفكر الداعشي.
أما الجواب الاستبدادي فهو وصفة جاهزة لتدعيش كل شيء. الخيار ليس بين الأسد وداعش، كلاهما وحش، وكلاهما آلة للخراب والدمار. لولا الاستبداد واستناده إلى البنى الطائفية سواء في العراق أو سورية زمن البعث، لما استطاع «داعش» أن ينتشر ويمتلك القدرة على بناء تنظيم حديدي مروّع. كل كلام عن تحالف يشترك فيه الاستبداد، وكل محاولة لتصوير العسكريتاريا وكأنها بديل لـ»داعش»، سوف يزيد من دعوشة مجتمعاتنا، محولاً الحروب الأهلية إلى نمط حياة.
السكوت عن، والتواطؤ مع ممالك النفط والغاز التي هيمنت على الإعلام العربي، وتحاول افتراس الثقافة العربية، بقيمها الرجعية وترويجها للظلامية الدينية، هو تعبير عن أننا لا نزال عاجزين عن مواجهة هذا الظلام. فالظلامية الأصولية ليست حليفاً في هذه المعركة، بل هي آلة تفريخ الجنون الأسود، وهي أحد مصادر قوته وتمويله. أسامة بن لادن أتى من رحم هذه الأصولية، وهو المعبّر الحقيقي عن مشروعها الذي افترسه الفساد حين تحوّل إلى آلة سلطة. كما أن الأصولية المضادة التي تحكم إيران ليست أفضل حالاً بكثير، فالعودة إلى الأصل الديني بتفسيراته الرجعية المعاصرة، هو جوهر المشكلة.
الأجوبة السائدة في مصر وسوريا والعراق ولبنان ليست أجوبة، ولن تمكّن أصحابها من هزيمة «داعش»، فالحرب المفروضة علينا تقتضي شروطاً تختلف جذرياً عن هذا الواقع الذي يتعفّن بنا ويعفّن كل شيء.
المشكلة الأولى هي أن هذا الجنون أفقدنا ذاكرتنا، وجعلنا ننسى المعركة الطاحنة التي دارت في ستينيات القرن الماضي بين المؤتمر الإسلامي بقيادة السعودية، وبين الحركة القومية بقيادة مصر الناصرية.
الذاكرة ليست نوستالجيا أو حنيناً إلى زمن ناصر بأخطائه وخطاياه الاستبدادية، لكن علينا ألا ننسى أن هزيمة ناصر لم تتم على أيدي الأصوليين بل على أيدي إسرائيل وحليفها الأمريكي، وأن هذا الجنون بدأ بالتحالف مع الولايات المتحدة في المرحلة الأخيرة من الحرب الباردة.
لا يقود هذا التحليل إلى اليأس بل إلى ما بعده. اذ من الواضح أن القوى الديمقراطية والعلمانية تم طردها من المعادلة، وأنها اليوم في الحضيض، وان المراهنة على صحوة مفاجئة انتهت بشكل ميلودرامي مع الانقلاب المصري الذي امتطى الرفض الشعبي لحكم «الإخوان» كي يجهز على ثورة يناير.
ما بعد اليأس هو أن نبدأ من جديد، بتواضع من تعلّم من أخطائه، وبحكمة من ارتكب أخطاء لا يريد تكرارها من جديد.
البداية صعبة لكنها ليست مستحيلة، وقد شهدنا احتمالاتها في لبنان خلال الحراك الشبابي- الشعبي في مواجهة أزمة النفايات، ونشهد اليوم آفاقاً رحبة في الهبّة الفلسطينية. صحيح أن النفايات لا تزال في الشوارع، وأن وحشية الاحتلال ومشروعه القيامي لم يُردعا، وأن ما نشهده في لبنان وفلسطين هو اعتراض لم يتحوّل معارضة، لكنه يحمل هذا الاحتمال.
هذا الاحتمال هو مشروع بداية لن تبدأ إلا بفكر جديد ورؤية واضحة لعلاقة الحرية بالعدالة الاجتماعية.
مسؤوليتنا كبيرة، ولا يحق لنا أن نموت صامتين.

الياس خوري