ثأر «ربيع دمشق»! – ياسين الحاج صالح

Article  •  Publié sur Souria Houria le 17 juillet 2011

في مطلع هذا القرن ارتكب السوريون خطأ جسيماً، وطوال السنوات الماضية منذ ذلك الحين ارتكب النظام خطأ جسيماً آخر. اليوم سورية تدفع ثمن هذين الخطأين.
أخطأ السوريون حين مرروا توريث السلطة من الأسد الأب إلى الأسد الابن بسلاسة ومن دون اعتراض. الواقع أنه لا تتوافر مؤشرات دالة على أن سوريين، أياً يكونوا، تحفظوا على أكبر تحول سياسي عرفته البلاد منذ مطلع الحكم البعثي، أعني تحويلها إلى ملكية وراثية. حتى بين المعارضين، كان الميل المهيمن هو التشكك المتشائم في أن يسجل عهد الابن فرقاً مهماً عن عهد الأب، من دون أن يعمل أحد على جعل التحول الوراثي مشكلة، أو يثير نقاشاً عاماً حوله. وقد كانت تقال أشياء عن توريث السلطة، وعن تعارض التوريث مع المبدأ الجمهوري، لكن بدا أن الأمر يتعلق بواقعة مؤسفة، أكثر مما بتحول سياسي خطير، هو ما يحدد المنطق العميق للنظام. وطوال السنوات الماضية كان معظم الكلام على التوريث يستنفد نفسه في التهكم والهجاء، من دون أن نتبين تغير «القانون الأساسي» للنظام باتجاه إعادة إنتاج الأوضاع التي أدت إلى التوريث، وينبغي أن تؤدي إليه مجدداً، بما يضمن بقاء الحكم في أسرة الأسد. لقد أضحى المنطق الذي يحرك نظام الرئيس بشار هو الحفاظ على الحكم الذي ورثه، وإذا أمكن توسيعه، ثم في النهاية نقله الى نجله هو. هذه واقعة سيكولوجية وواقعة سياسية بنيوية في آن. فالرجل ورث من أبيه سلطة وأجهزة وأوضاعاً امتيازية، سياسية وأمنية واقتصادية، لا يسعه المساس بها من دون أن يقوّض الامتياز الذي حصل عليه هو بالذات، ومن دون أن يظهر بمظهر المفرط بملْكٍ عزيز، انتُزع بالقوة وحوفظ عليه بالقوة. هذا بينما كان من شأن المساس الجدي بهذا الميراث وحده أن يضفي شرعية ذاتية على حكم الرئيس الابن، كما سنقول بعد قليل.
وإذ تعذر عليه توسيع المِلك الذي ورث، بل إذ تقلص هذا الملك في 2005 عبر الانسحاب الاضطراري للقوات السورية من لبنان، فقد اقتضى الأمر ضرباً من التعويض، تمثل حينها بالتحول الاقتصادي الذي جرى رسمياً في صيف 2005 نفسه. كانت السيطرة على الاقتصاد السوري عبر لبرلة اقتصادية مشوهة، استصلحت لنفسها شعار «اقتصاد السوق الاجتماعي»، هي البديل الذي اهتدت إليه غريزة النظام العميقة من الفردوس اللبناني المفقود. وبعد حين قصير، أمكن باحثة سورية مقيمة في لندن، ريم علاف، أن تتكلم على «بيرتتة دمشق»، التعبير الدال الذي يغطي تحول قلب المدينة إلى ما يشبه أحياء بيروت التجارية: مقاهٍ أنيقة ومطاعم غالية وفروع مصارف وسيارات حديثة. لكن هذا الاسم يكشف، ربما دونما قصد، الرابط بين التحول الاقتصادي في سورية وبين فقدان النظام جوهرة تاجه البيروتية. وقد رمز السيد رامي مخلوف الى هذا التحول. الرجل كان يسيطر بأدوات مباشرة وغير مباشرة على نحو 60 في المئة من الاقتصاد السوري، القطاعات الأحدث والمجزية بخاصة. وعلى رغم أن ما أعلن عن تحوله إلى العمل الخيري في 17/6 مثير للسخرية، فإن الإعلان عنه، وقد أريد له أن يكون مؤشراً الى عزم إصلاحي، مؤشر الى وزن المال والقرابة في تكوين النظام وسياسته. وقد لزمت احتجاجات شعبية مكلفة، تهتف ضد مخلوف شخصياً، وربما نصائح محلية ودولية، كي يقر النظام بأن مخلوف ليس «مواطناً عادياً»، على ما كان يقال عنه سابقاً، وكي تُسخّر وسائل الإعلام العامة على مدى يومين للثناء على الخيرية المفاجئة لهذا «المواطن العادي».
وتضافُرُ الامتلاك الاقتصادي للبلد مع امتلاكه السياسي، ومعهما عدوانية إيديولوجية تحديثية لا مضمون تحررياً أو إنسانياً لها، اشتد في السنوات الأخيرة تحت راية علمانية منحولة، وتعليقات حول العقليات والذهنيات صارت تسمع من أمثال بثينة شعبان، ووزير التعليم العالي السابق علي سعد. وهذا التضافر هو أحد المنابع الأساسية للاحتجاجات الشعبية السورية.
وخلال نحو 11 عاماً من العهد لم يتحقق تقدم مهم في أي مجال: بقي الجولان محتلاً، وأمعن التعليم في التدهور وتشكل تعليم نخبوي للأثرياء، وتراجع الدور الاجتماعي للدولة واتسع الفقر، وثابر عدد السكان على الارتفاع بنسبة عالية، ولم يرتفع متوسط دخل الفرد بالأسعار الحقيقية، وازداد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً، وتراجع اندماج المجتمع السوري، وظل وضع الحريات العامة من الأسوأ عربياً وعالمياً. باختصار، لم تُحَلّ أية مشكلة وطنية.
وإنما هنا يتمثل خطأ النظام. فهو لم يدفع ثمناً سياسياً مقابل التوريث. أخذ مكسباً سياسياً هائلاً من دون أن يسدد عنه ما من شأنه أن يجعل هذا الميراث الضخم حلالاً. ولم يتبين أنه لا يستطيع تسويغ امتيازه غير المشروع من دون ضرب أوضاع امتيازية متنوعة، ورثها من عهد الأب. هذا شاق، ولذلك بالذات هو وحده ما كان يمكن أن يمنح نظام الابن شرعية ذاتية.
لكن ما حصل هو أن النظام أظهر ضيق صدر شديداً حيال أنشطة السوريين المستقلة. فقد سارع إلى ضرب «ربيع دمشق»، التجربة السياسية التي ولدت معه، واعتبرته معطى ثابتاً غير منازع، ودعت إلى الإصلاح في ظله. فكان حين ضرب تلك التجربة كأنما ضرب شرعيته هو بالذات. كان من شأن الاعتراف بـ «ربيع دمشق» والتعايش معه أن يوفرا للنظام بيئة سياسة جديدة، تعود عليه بشرعية خاصة غير موروثة، مقابل تنازل سياسي ليس كبيراً جداً: اعتراف بحق الانتظام المستقل للسوريين وبحق التعبير الحر عن الرأي، فضلاً عن معالجة ملفات ثمانينات القرن الماضي. ولكان ذلك مثّل انفصالاً مؤسساً للعهد الجديد، انفصالاً عن القرابة والعشيرة والماضي والعنف و «الطبيعة» لمصلحة المواطنة والدولة والحاضر والسياسة و «الحضارة». من دون شرعية خاصة به، يصنعها لنفسه بنفسه، كان النظام مسوقاً إلى استيراد شرعيته من الماضي. ومعها مشكلات الماضي غير المعالجة وغير المحلولة. لذلك ظلت هذه راهنة على الدوام، كأنها حصلت اليوم.
في المحصلة، كان نظام الابن استمراراً لعقدي ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، العقد المجنون والعقد الضائع، بدل أن يكون بداية جديدة ومنطلقاً مختلفاً. وبدل أن يكون عمره 11 عاماً، ويكون حكماً دستورياً بدرجة ما، فإنه اليوم حكم مطلق، عمره 41 عاماً، قد لا يعيش بعدها.
إنه ثأر «ربيع دمشق».
أما السوريون فيدفعون اليوم بالدم ثمن كفاحهم للخروج من حالة المُلك الموروث إلى مالكي زمام مصيرهم.

المصدر: http://www.daralhayat.com/portalarticlendah/288714