ثلاث مجازفات ورهان رابح نوري الجراح وقصيدة الانتفاضة – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 22 novembre 2012

I

 يشير نوري الجراح إلى أنّ قصائد هذه المجموعة، وهي العاشرة له منذ ‘الصبي’، 1982، كُتبت خلال سنوات 1990 ـ 2012؛ وهذا الخيار ليس جديداً في الواقع، إذْ أنْ جميع أعمال الجراح دأبت على ضمّ قصائد تتراوح آجال كتابتها بين خمس سنوات إلى 13 سنة، باستثناء ‘طفولة موت’، ، التي استغرقت قصائدها سنتين فقط، 1991ـ1992.
الأمر، مع ذلك ينقلب إلى مجازفة محفوفة بالمخاطر، حين تتألف هذه المجموعة من قصيدة واحدة طويلة، ‘الأيام السبعة للوقت’، كُتبت خلال سنة، نيسان (أبريل) 2011 وحتى نيسان 2012؛ و17 قصيدة، متوسطة الطول أو قصيرة، تمتد تواريخ كتابتها على 22 سنة!
هي مجازفة تنبثق من احتمال تقلّب الأساليب، وتلاطمها، وتصارعها، ليس بمعنى التوافق وحده، بل بوسيلة التنافر أيضاً؛ أمام قارىء اعتاد منطق الكتابة المألوف أن يجعله ينتظر من الشاعر، أو من الكاتب عموماً، وكاتب الأنواع الإبداعية خصوصاً، طرازاً من التجانس النسبي في الأسلوب، خلال طور زمني محدد، يشهد صدور عمل محدد. فإذا عكف قارىء ـ عادي أو متوسط، وليس عالي الدربة في تثمين النصّ الشعري ـ على قراءة مجموعة الجراح الأولى، ثمّ انتقل مباشرة إلى التاسعة، ‘الحديقة الفارسية’، مثلاً؛ فإنه، اتكاء على سيرة التذوّق الشائعة والمشروعة، سوف يجد فروقات أسلوبية جلية، وسيحتسبها لصالح الشاعر، لأنه ببساطة سوف يردّها إلى تطوّر فنّ الشاعر، وارتقاء مهاراته في اللغة والموضوعات والصورة الشعرية والتشكيلات الإيقاعية، وما إليها. أما أن يُزجّ القارىء في لجّة 22 سنة من معترك هذه المهارات، دفعة واحدة، على نحو يفسح المجال أمام اشتغال مطحنة أساليب بدل الاكتفاء بالأسلوبية، أو حتى جمهرة الأسلوبيات المتقاربة، الأحدث عهداً؛ فهذه مجازفة شائكة، وشاقة، وليست شائعة في أقلّ تقدير.
صحيح أنّ الجراح استقرّ على شكل قصيدة النثر طيلة 30 سنة من كتابة الشعر، ولم تشهد تلك التجربة انزياحات كبرى ملموسة تفيد الانتقال الطارىء إلى مستقرّ جديد، مختلف أو متنافر أو متعارض أو مباغت، يذهب بالشكل بعيداً عن المألوف، أو يقصيه إلى خيار نقيض ربما. وصحيح، من جانب آخر، أنّ موضوعات الجراح اتسمت بمقدار مماثل من الاستقرار، وسط سيرورة حيوية من الاغتناء والاكتساب والتشعّب المركّب، ناظمها المركزي ثنائية ديكارتية ذات شحنة عالية من تقابل الداخل والخارج، وتآخي الازدواج، واختلاط تاريخ الألم الفردي بتواريخ ألم جَمْعي، أقرب إلى الرثاء الكوني. صحيح، ثالثاً، أنّ قصيدة الجراح ـ وليس على غرار غالبية شعراء قصيدة النثر العربية، الحديثة والوسيطة والمعاصرة ـ اتسمت بنزوع غنائي دافق، بلغ مراراً شأو النشيد العميق ذي الغور السحيق، الذي يتوسل وعي مصائر الروح والجسد معاً، ويلتمس حسّ العذاب الإنساني وكأنه قدر تجب مقارعته من حيث تبدأ التراجيديات الكبرى، وإلى حيث نتهي.
من الصحيح، في المقابل، أنّ هذه المجموعة لا تسعى إلى ما يُرضي القراءة الميسّرة، أو اليسيرة المألوفة التي تتصالح مع أواليات التذوّق الأبسط؛ بل هي تروم العكس، أغلب الظنّ: استفزاز القارىء، عن طريق اقتياده إلى هذه المطحنة الأسلوبية تحديداً، وهذه الوجهة من حشد خلاصات شعرية تنبسط على عقدين ونيف من كتابة شعرية دائمة التبدّل، رغم نهوضها على عناصر استقرار كثيرة، تخصّ الشكل أسوة بالمحتوى. ليس مرجحاً، في مثال تفصيلي أوّل، أن يظلّ الجهاز التخييلي والتصويري والتعبيري، اللغوي والشعوري، لشاعر مثل الجراح، على درجة من التجانس أو الاتصال أو التقارب في مجموعة واحدة تستجمع 22 سنة من التبدّلات، فتلبّي شغف القارىء إلى تذوّق سلس، غير شاقّ، أو غير مستفزّ. وكيف، في مثال ثانٍ، يفلح القارىء في التصالح مع عقدين ونيف من ثراء لغة شعرية تتسم، أصلاً، ببذخ معجمي كثيف، ميتافيزيقي وفلسفي وعالي الفصاحة، قد يبدأ من السطوح الخام للغة، وقد لا ينهي تمارينه عند أيّ من بواطنها الدلالية الأعمق، مجرّدة أم محسوسة؟
هذه فضيلة فنّية، بالطبع، لأنها في نهاية المطاف لا تدغدغ خمول القارىء بقدر ما تستحثّ فيه رياضات استقبال شتى، إيجابية وديناميكية، تتخذ صفة التحدّي تارة، أو صفة اقتراح تعاقد قرائي من نوع مختلف طوراً؛ أو تكتفي، في مواجهة خاصة أشدّ راديكالية، بانتهاج كتابة شعرية تمارس الفنّ بوصفه لعبة جمالية يقترحها شاعر فرد، وينخرط فيها قارىء فرد، فتسير على ما يرام مرّة، وتتعثر أخرى، وقد تتواصل على وفاق، أو قد تنهار على افتراق! ولقد كان في وسع الجراح، غنيّ عن القول، أن يغفل الإشارة إلى أنّ القصائد كُتبت على امتداد 22 سنة، فيترك للقارىء أن يتبيّن وجود تلك المطحنة الأسلوبية، أو أن يفوته هذا فيقرأ على منوال ما تهديه إليه طبائع القراءة الهيّنة وعادات التذوّق الأثيرة، فلا ضرر عندئذ ولا ضرار. وإذْ ألزم الجراح نفسه بواجب الأمانة لتاريخ النصّ الأدبي، فأشار إلى عمر المجموعة الزمني؛ فإنه، أغلب الظنّ هنا أيضاً، شاء إدخال القارىء في اللعبة الجمالية، فأخفى تاريخ كتابة كلّ قصيدة على حدة (باستثناء قصيدة ‘الأيام السبعة للوقت’، والتي استغرقت كتابتها سنة كاملة في كلّ حال)، واكتفى بإشارة تقول إنّ قصائد المجموعة كُتبت ما بين 1990ـ2012.

II

لكن مجازفة نوري الجراح لا تنتهي هنا، بل تعقبها أخرى لا تقلّ حساسية، لأنها تخصّ مسألة شائكة بدورها، تحوّلت إلى ما يشبه ‘المحرّم’ في قصيدة الحداثة العربية المتأخرة عموماً، وقصيدة النثر المعاصرة بصفة خاصة، وأعني موضوعة السياسة، أو الحدث السياسي الكبير الذي يخصّ حياة الملايين من قرّاء الشعر، في برهة وطنية بالغة الخصوصية. وإلى جانب مقدار هائل من اللبس، الصادق الطبيعي أو الكاذب المفتعَل، الذي اكتنف هذه المسألة، فطمس الكثير من عناصرها الجديرة بسجال رصين؛ شاع، في أوساط الشعراء خصوصاً، نوع من الافتراض المسبق، انقلب إلى ما يشبه التواطؤ الصامت، والمريح، مفاده أنّ هذه القصيدة رديئة بالضرورة، مسبقاً، وبالتعريف؛ أو هكذا يقول الدرس النقدي الحداثي، وتنظيرات بعض ‘كبار’ شعراء الحداثة العرب.
والحال أنّ الجراح، في قصيدة ‘الأيام السبعة للوقت’، يستبطن الانتفاضة السورية الراهنة (‘الثورة’ كما يسمّيها)، وهي ليست الحدث الكبير الفاصل في حياة السوريين، والعرب، والمنطقة بأسرها ربما، فحسب؛ بل هي أيضاً، وهو الاعتبار الأهمّ في فنّ الشعر، حدث ما يزال مفتوحاً على احتمالات شتى، حتى إذا كانت نهاياته تؤكد انتصار الشعب السوري على نظام الاستبداد والفساد والتوريث. ورغم أنّ القصيدة لا تشير، على أيّ نحو تقريري أو مباشر أو خطابي، إلى هذه الانتفاضة؛ ولا تلجأ إلى توصيفها، كذلك، بصفة إسمية واضحة تُدني القصيدة من التسجيل، في أيّ مستوى؛ فإنّ إهداء القصيدة لا يترك هامشاً للشكّ في حقيقة محتواها: ‘إلى رامي ورفاقه في الثورة السورية’. هنا، إذاً، وجه أوّل لمجازفة كتابة قصيدة لا تُشتمّ منها ‘روائح’ السياسة، كما قد يقول قائل من أرباب حداثة الأبراج العاجية، فقط؛ بل تفوح منها روائح الدماء، أيضاً (مفردة ‘دم’ تتكرّر 67 مرّة، على امتداد المجموعة)!
غير أنّ الجراح شاعر حداثي، من رأسه حتى أخمص قدميه، وبالمعنى الأكثر نضجاً على صعيد النصّ الشعري ذاته، وبين الأفضل إدراكاً لمشكلات وإشكاليات حداثة زائفة، ناقصة ومنتقصَة على مستوى التبشير النظري والانحيازات العصبوية. ولهذا فإنّ قصيدته عمل رفيع يتوسل جماليات الشعر أوّلاً، بل لعلّه لا ينساق إلى اعتبارات أخرى غير كتابة قصيدة فائقة القيمة، عالية التعبير، جديرة بواقعة عظيمة الشأن مثل الانتفاضة السورية. إنه لا يقمع ضغوطات التاريخ على الحياة البشرية، وعلى فنون البشر استطراداً، ولكنه لا يكفّ عن مقاومة تكبيل القصيدة بأي نير، أو حتى بخيط حرير رفيع، ذي مدلولات سياسية مباشرة؛ رغم أنّ حدثاً مثل الانتفاضة السورية كفيل بإفراز أنساق متشعبة من أحاسيس الواجب، وفرائض الوفاء لتضحيات الشعب، وإغواءات التقاط الموقف الفريد والانخراط في سياقاته. وهذا التاريخ، بصفته القوّة التي تحرّك المجتمعات وتسجّل صراعاتها المختلفة ونقلاتها الكبرى، هو محرّك السياسة أيضاً، بل السياسات الأعلى العابرة لليوميّ؛ ولهذا فإنه، في الحصيلة المنطقية، كان محرّك أعظم الأعمال الفنية التي كرّمت ثورات الشعوب من أجل الحقّ والحرّية والكرامة، وبينها أمهات القصائد على مرّ التاريخ.
يدرك الجراح هذه المعادلة، وينفّذ حصّته من شروط التعاقد معها، فيقترح قصيدة/ أنشودة طافحة بالقوّة الأخلاقية، قبل الشجن والأمل والألم، وفيّة لكلّ الجماليات الفاتنة التي اتسمت بها قصيدته، حيث المفردة ميدان استعاري في المقام الأوّل، والمعنى مجمع دلالة، والعمارة الإيقاعية زاخرة بتكوينات تشكيلية تعددية، والنبرة تلمّ شتات الأصوات والضمائر، والمشهد يتدرّج وفق متواليات بصرية وصُوَرية تنتظمها تلك الفاتحة/اللازمة المشحونة، التي تنوس بين الترنيمة والكابوس: ‘دمُ مَنْ هذا الذي يجري في قصيدتكَ أيها الشاعر؟’. تمرّ في القصيدة مفردات مثل ‘مركبات’ و’جنازير’ و’شاحنات’ و’جثمان’ و’مشيعون’ و’شهيد’ و’جنود’ و’بنادق’ و’قتل’ و’مقنوص’ و’قبور’ و’رصاص’ و’جسد مسجى’، وسواها… لكنها، كمفردات في ذاتها أو في ما تدلّ عليه، لا تنفرد بأي معنى مباشر يقود إلى حدث الانتفاضة، بقدر ما تقتاد الإيحاء إلى حيث يفعل الشعر الرفيع: فضاءات الدلالة المفتوحة، غير المقيّدة، غير المحددة، غير المنكمشة في أيّ سياق تقريري.
هذا هو الشعر ذو الدور الحيوي الخاصّ، الشاقّ والشيّق في آن: تحويل التجارب المعاشة إلى انسراح طليق للمخيلة، وإلى توسطات فنّية متعاقبة الوظائف، تجسّد ضغوطات الحدث، ومسار التاريخ الراهن ذاته، في قِيَم جمالية وتعبيرية تنتهي إلى إبلاغ سلسلة من الرسائل (تخليد واقعة، نقد مؤسسة أو سلطة، امتداح قيمة، الانخراط في قضية، الحضّ على فعل…). وليس للقصيدة، في تطلعها إلى هذه الوظائف، أن تنجح على النحو اللائق بطموحات وظائفها هذه، إلا إذا أفلحلت جمالياتها في التشديد على المضامين الثقافية والإنسانية الأعمق خلف كل رسالة، وطيّ كلّ اجتهاد أسلوبي لتحويل قوّة الشعر إلى قوّة اجتماعية وبشرية، حيث السياسة محض تفريع واحد بين تفريعات لا عدّ لها. هكذا يصحّ أن يُقرأ، على سبيل المثال، المقطع التالي:

وفي البستانِ حيث سقط كوكب
وتشققت تحت خطى دامية أرضُ المسرّات
قال فلاحٌ لصبيٍّ كُسرت رأسه على صخرة
إنني أسمع رجفة الشتاء في ركبتي
والآن
جسده مستريح في طلقة الجندي

فلا يصل مشهد العنف والقتل والاستشهاد اعتماداً على معجم مباشر، بل عبر تعويضات دلالية، مواربة بالمعنى الأرقى للتعبير، عالية الإيحاء في الآن ذاته. لغة القصيدة تؤدّي، ولا تصرّح عن، مرايا متراكبة من التمثيلات الشعورية (‘العين الغريقة/ في صورةٍ/ اغرورقتْ بالدم’؛ و’شقيقي الذي شقَّ الغروبُ رأسه/ دمُه يقطر في ملابسي’؛ و’الصُوَر شِفارٌ تأكل الواقفين في الصور/ الجنود ينحنون على البنادق والموت يتلفت’…). وهذه لا تحاكي تفصيلاً تسجيلياً، له دالة من أي نوع تفضي إلى زمان سوري على وجه الحصر ـ رغم أنّ مفردة دمشق تتكرر مراراً، ومثلها تتواتر اسماء أمكنة سورية أخرى ـ بل هي توفّر إلماحة، أو تحديقة، أو ومضة، أو علامة؛ أو تُلقي على التعبير، والمشهد في باطنه، غلالات تصويرية متعددة التعويض، كما تقترح اقنعة متحوّلة، وضمائر صريحة أو ضمنية، ولا تتواني عن ملامسة الوعي التاريخي بالحدث، الانتفاضة، دون أن تنزلق إلى شرك اقتباسه على وجه تقريري أو مباشر أو تسجيلي.
وإذا كانت القصيدة/ المستهلّ، ‘الأيام السبعة للوقت’، هي التي تحمل العبء الأهمّ في إدارة ميزان الذهب الدقيق هذا، بين خدمة الشعرية وخدمة البرهة التاريخية؛ فإنّ القصائد الأخرى تتولى، بدورها، أحمال تعميق جملة الخيارات الأسلوبية، الحداثية بعمق، أو عن وعي متعمّق، بطبائع الصلات بين الزمن التاريخي وستراتيجيات التعبير الحداثية. خصوصيتها الإضافية تكمن، إلى هذا، في أنها شهادات تنتمي إلى أزمنة كتابة متفاوتة؛ وبالتالي يمكن الافتراض بأنها شذرات أسلوبية تستجمع خصائصها عند، مثلما تتجمع في، تلك المطحنة الأسلوبية التي سبقت الإشارة إليها. قصائد مثل ‘بعد تأمل (إلى شاعر إغريقي)’، أو ‘طفل تيريسياس (أوديب مرّة اخرى راجعاً على الطريق نفسها)’، أو ‘سيزيف عربي يسكن في مدينة أثرية’، تحيلنا إلى غواية الجراح المبكرة، ولكن المتواصلة حتى اليوم، في تسخير المعطيات الإغريقية، ليس على أي نحو أسطوري، شائع أو مبتكر؛ بل وفق معادِل موضوعي حداثي تماماً، وأصيل أيضاً: تشغيل تلك الثنائية الديكارتية، دون سواها، بحيث تتيح تذليل شبكة واسعة من العناصر والشخوص والأقنعة والسرديات… وجعلها مهاد معاصرة، في المعنى والترميز والأسطرة والدلالة، يمكن تحويلها، أو حتى تحويرها، فضلاً عن البناء عليها.
في المقابل، ثمة قصائد مثل ‘موعد مع قابيل في مقهى عند النهر’، أو ‘قال أخوة يوسف’، أو ‘مساء في دمشق’ أو ‘قصيدة إلى غراب’؛ تعيدنا إلى طراز خاصّ من الاشتباك مع حزمة التداعيات الأولى التي توحي بها مفردات مثل قابيل، او أخوة يوسف، أو دمشق، أو الغراب: نحن في قلب الموضوعة التي تسوقنا إليها هذه التداعيات، ولكن كلما تعاظم انسياقنا إليها، تعاظمت من جانب آخر مهارات شعرية خافية تنأى بنا عن الموضوعة؛ كأنها، في الخيار وضدّه على حدّ سواء، لا تطوّر الموضوعة إلا لكي تتفلّت منها! حكاية يوسف لا تعيدنا إلى ابن يعقوب، وتآمر أخوته، والجبّ، والذئب البريء، والسيارة؛ بل توجّه رسالة إلى الآباء (كما يقول العنوان الفرعي للقصيدة)، وتتوسّل افتراض سردية مضادة، وتقول: ‘لماذا أحببته أكثر مما أحببتنا، يا أبي؟/ لماذا أرسلت إلى قلوبنا غصن الغيرة وإلى بيوتنا عربة النار؟’. ‘قصيدة إلى غراب’، من جانبها، لا تعيد إنتاج حكاية مقتل هابيل بيد أخيه قابيل، وكيف تولى الغراب تعريف القاتل على طريقة دفن الميت، بل تجهر، بضمير المتكلم المفرد، ذي النبرة الجَمْعية: ‘أعود وفي جعبتي مخرزان تيبّس فيهما دمٌ/ وإطار فارغ كان يوماً قشرة فاهية لصورة قابيل في جوار هابيل’، ثمّ تختم بالقفلة الصاعقة: ‘تعلّمْ أين تحفر، وأحفر هنا، يا غراب!’.

III

المجازفة الثالثة يختصرها هذا السطر، من قصيدة ‘سيزيف عربي يسكن في مدينة أثرية’: ‘ليس ثمة فنّ أعمق من أن يكون فنّكَ مرثية مفتوحة’. فأية مرثية، أو تنويعات عليها، أو أنساق لها، شاء نوري الجراح أن يقترح في هذه المجموعة؟ وهل أفلح في أن يبلغ بها مستويات عالية من ‘فنّ أعمق’، شاء أن تصبو إليه قصيدته الرثائية؟ وهل كانت بالفعل مفتوحة، وكيف؟ ثمّ لَمَ يتوجب أن تكون مجازفة في المقام الأوّل؟
وفي الابتداء من السؤال الأخير، هنالك تلك الخلاصة النقدية التي تقول إنّ القصيدة الحديثة، أو تلك المعاصرة الحداثية التي يكتبها الجراح وسواه من شعراء قصيدة النثر تحديداً، انفكت عن مقولة ‘الغرض’ الشعري، أياً كان. لم يقع هذا التطوّر لأنّ هذا الغرض أو ذاك ينطوي على معضلات في التعبير الشعري أكثر مشقة، أو أقلّ جاذبية في مناخات الحياة الإنسانية الراهنة، أو أشدّ تعارضاً مع منظورات جمالية محددة مشتركة تقاسمت توفيرها تيارات رئيسية في الكتابة الشعرية العربية خلال العقود القليلة الماضية، أو أعلى إشكالية من حيث الأسباب الأخرى المحاذية للنصّ الشعري (التنظير الإيديولوجي، أو مقاربات علم النفس التحليلي، لمسائل العاطفة والفقد والحزن والتأبين…). الأمر، في جانبه الأبسط والأهمّ، يعود إلى أنّ الغرض الواحد، المنفرد، لم يعد مستحباً، أو ممكناً اصلاً؛ فضلاً عن عجز أي غرض شعري مستقلّ عن عكس الطموحات الفنية الواسعة، والمعقدة المتشابكة، التي تتطلع إلى إنجازها القصيدة المعاصرة.
بهذا المعنى فإنّ الجراح يشتغل على ما يشبه المرثية المضادة، أكثر من اشتغاله على أية تقنيات رثائية تردد اصداء، أو تعيد إنتاج، تقاليد سابقة، أو حتى لاحقة؛ حظيت بمقدار ملموس من الإجماع على حُسْن تمثيلها للغرض، واستقرّت بصفتها هذه، فصارت أشبه بـ’نوع’ كافٍ ومكتفٍ، ينجح أو يفشل، وتتسع حدوده أو تضيق، تبعاً لمهارات زيد أو عمرو من الشعراء. ولكن، حين يكتب الجراح، في قصيدة ‘أنشودة الراجع من الكهف’:

جاءتْ ريحٌ عاصفٌ والموجُ بلغ فم الكهف،
نهضنا من تراب الأمس،
نهضنا بما ملَّكنا صفير الريح، وما أودع البرق في محاجرنا
نهضنا من عتمة ورأينا في الشقوق الصخر نور العاصفة
لكن السماء سكرى، تلقتنا بالزورق،
لننزل بالراحةِ فارغةً وننزل بالدرهم القديم،
لنطوف على من مات غداً.. من قال أنه رأى في النقش وجه أصغرنا،
أماه.. في أي هاوية تنامين،
والخالُ ذو الأكتاف،
هل كان له تحت قوسِ السوقِ ظلٌ،
هل رجَع بالميزان؟

فإنّ مناخات الفقد والغياب، حين تتصل بمعنى الموت على وجه الدقة، لا تتصاعد وفق معجم رثائي تقليدي، ولا اتكاء على استثارة العواطف، أو تبجيل الغائب، أو حشد مشاهد جنائزية وتأبينية؛ بل على ما يلوح أنه إمعان قصدي في تجاوز هذه كلها، بل انتهاكها، بغية ترقية الأسى الرثائي ليس عن طريق التسامي على الألم، بل بوسيلة أدائه جمالياً، شعرياً، وفنّياً في نهاية المطاف.

تنويع آخر يستكمل المرثية المضادة، هو رثاء الذات، واستنفار الصوت الناطق بضمير المتكلم، المفرد أو الجَمْعي، ثمّ رثاء هوية الشاعر بصفة مخصصة، هو الذي يحدث مراراً أن يُتهم، وقصيدته، ليس بالعمى فحسب؛ بل بما هو أدهى وأمرّ: ‘ها إن يدَك التي كبُرتْ واخشوشنت/ تتلطخ بدمي/ أخرجُ من باب وتخرجُ من باب/ لا أكون صورتَكَ ولا تكون صورتي’! تلك عتبة دنيا من اختلاط الحداد العميق بالرغبة العارمة في تأسيس فضاء مشترك مع الغائب، أو تأصيل مفهوم الغياب عموماً؛ واستحالة بلوغ ذلك الفضاء ضمن علاقة متقابلة، ومتضاربة أحياناً، بين الأنا الناطق والآخر المخاطَب. وتلك معضلة المكوث، الاختياري او القسري، في برزخِ ذَنْبٍ وسيط، يتقاذفه قطبان: الحاجة إلى استيهام الحضور (حتى في صورة دم الشاعر، على يد كبرت واخشوشنت)، والحاجة إلى الإقرار بالغياب (حتى على صعيد تنافر الصور، وتنائي الأبواب). بل إنّ الجراح ـ كلما تواترت، وتوترت، استقطابات هذا البرزخ، فاختلط الفردي المنكمش بالكوني المنفتح ـ بدا أقرب إلى إطلاقِ ضدٍّ لمرثية الضدّ الذاتية هذه: لا يمحض نفسه عزاءً كافياً، ولا يتسامى على الشجن المتصاعد، إلا إذا ذهب بالشعر إلى مستويات أعلى، وأشدّ وطأة، في مساءلة الذات، وملامة القصيدة، عن غياب الغائبين؛ وربما اتهام أيّ من أنساق العزاء الشائعة، والتي لا يغيب بعضها عن ترسانة الجراح الدلالية، بالقصور في تخفيف الآلام العميقة، أو بالعجز عنها أيضاً.

تنويع ثالث، لعلّه حامل العبء الأكبر في تحقيق انفتاح المرثية المضادة، هو نقل الشجن العميق، ومجمل متواليات الحداد والأسى والحزن والألم المرتبطة بالغياب عموماً، وهذه الأنماط من الموت خاصة، من حال ‘الخصخصة’ التي اعتادت أن تُحبس بين جدرانها (ومن هنا ضيق الطرائق التقليدية التي رسّخت الرثاء كـ’غرض’ شعري)، إلى حال أخرى عامة، بمعنى ما يمكن أن يمارسه الفردي من تعميم على الجماعي؛ وعمومية، بمعنى أنها تخصّ العموم، الأفراد والجموع، على حدّ سواء. قصائد مثل ‘أغنية في مركب’، ونشيد متأخر لبحار قديم’، و’مرئيات من وراء زجاج في يوم بارد’، و’كلمات الشقيق’… تُبقي تلك المتواليات تحت قواعد ضبط عالية، تكفل عدم انفلات المشاعر أو انزلاق اللغة إلى التهويل العاطفي؛ ولكنها، في الآن ذاته، تستحثّ بواطن شعورية أعمق تبيح تكشّف تلك المتواليات، وتذكّرنا بأنّ المرثية المضادة ليست ملاذاً للشعائر الجنائزية، والنحيب على الغائب، وامتداح خصاله وتبجيل شخصه؛ بل هي فضاء جمالي وثقافي وإنساني مركّب، معقد العناصر، شديد الاضطرام والاعتمال، لا يترفع عن أهوال التاريخ وخشونة دروبه وحوادثه ومساراته، ولكنه أيضاً لا يزعم امتياز تدوين التاريخ، ولا يتيح ذلك في الأصل.

يكتب الجراح: ‘أصغرنا تركناه في المدينة/ وتركنا في عهدته قمحاً/ ودّعناه بالأكباش، وودّعناه بالرنين/ ولمّا تلفّت../ رأينا في يديه الغياب’. ويكتب، في قصيدة أخرى: ‘في المدينة الدامية، المدينة الدامية/ القمرُ صخريٌ/
والضوء يسيل من عنق الفتى/ يدي/ في الوريد/ معصم الموجة’. وفي قصيدة ثالثة: ‘لأني رأيت مصرعي في ساعة/ على مقعد في حنان الشمس/ مصرعي/ الذي/ رأيته/ يوماً لاعباً في زقاقٍ غريب/ رأيته/ ومشيت/ في إثره’. هذه أمثلة، لامعة الصياغة وجلية الوظيفة، تبيّن مقدار النجاح الذي يحققه الجراح في نقل الرثاء بعيداً عن مواضعات المرثية التقليدية، وفي ترجمة ما هو ذاتي وفردي وشخصي، تأبيني أو حدادي، إلى تمثيلات كونية، تشاركية، جَمْعية، سياسية، تاريخية… ولكنها، أوّلاً وآخِراً، صناعة جمالية حاذقة، تتوسل فنّ الشعر، وتروم كتابة قصيدة رفيعة.

* * *

في غمرة هذا الإبحار الصعب عبر لجّة المجازفات الثلاث، ينجز نوري الجراح الكثير من شروط رهان، مجازف بدوره، طرحه قبل مئتَي سنة الشاعر والناقد الألماني فردريش شليغل: ‘إذا أردتَ الدخول إلى أعماق العالم المادّي، فدَعْ نفسك تتدرّب على غوامض الشعر’. وفي الإنجاز الكبير، هذا، ثمة ربح وفير نجنيه، نحن القراء؛ ويجنيه الشعر أيضاً، غنيّ عن القول.(*)

(*) مقدّمة ‘يوم قابيل والأيام السبعة للوقت’، مجموعة نوري الجراح الجديدة، التي تصدر عن دار راية للنشر.

http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\21qpt899.htm&arc=data\2012\11\11-21\21qpt899.htm