جدلية التغيير.. هل ستتوقف؟ – عادل داود

Article  •  Publié sur Souria Houria le 17 août 2011

بغض النظر عن المرامي والأهداف للتحركات الشعبية والهبات الاحتجاجية على مساحة الوطن العربي، وبغض النظر أيضاً عن التداعيات هنا وهناك، فإن المطلوب بامتياز منها هو التغيير، ولا شأن البتة للتحريض الخارجي بشكل عام، وهو ليس الأساس والجوهر. والتغيير إنما تمليه الوقائع والضرورات، وليس مقبولاً التفريط بهذه الإمكانية تحت ذريعة أن الداعين لهذا التغيير يقبعون بعيداً وراء المحيط وقبله، وهذا الربيع الذي يطل برياحينه لا يجوز أن يتوقف عند الحدود في هذه المنطقة أو تلك، ولا بد من استقباله في كل بلد، فالربيع ربيع والشتاء شتاء ودورة الأرض لا تتوقف

أرى أن طرفي المعادلة في الحدث التغييري وفي الثوران الداخلي ينحوان منحى متطرفاً أحياناً، والألغام مبثوثة هنا وهناك بهذه الدرجة أو تلك، والاستقطاب الديني والطائفي والمذهبي يمضي في سبيله، ولكنه يبقى محكوماً بالنطاق الوطني والسياسي. وإن كان التنوع وليس النوعية كما يقال هو الذي يميز الحراك، وهو تنوع قائم تحت سقف الوحدة وهو المشاهد والمرئي لكل من له عينان، وكما قال لينين: (إن من يطلب حركة نقية فلن يعيش ليراها)
كما يُظن أن التفرج على هذا المشهد والتوصيف له لا يكفي ولا يقنع، بل ينبغي استيعابه على الرغم من الشطط هنا وهناك، في هذا الشعار أو ذاك، وقد آن لنا أن نتخلص من بهرج الشعارات الزائفة والأطروحات المضللة والقومجية المخادعة واليسارية المحنطة، فهذه كلها ساقطة على جانبي طريق الشعوب الزاحفة إلى أهدافها وغاياتها في الحرية والديمقراطية والمواطنة الحقة، وغير مقبول أبداً وتحت أية ذريعة أو حجة الركض واللهاث وراء الشعارات الخشبية المتعفنة، إذ لم تعد زاداً يشبع من جوع
ويعتقد أيضاً أن فزاعة الحرب الأهلية لم تعد قائمة، بل يمكن القول إن هذه التحركات الشعبية تشكل إرهاصاً لمستقبل أفضل. وقد شكل المشهد العربي دليلاً لا يدحض على تجذر الموقف السياسي المنقّى بامتياز من غبار الطائفية والعنصرية، وما يظهر على السطح لا يعكس جوهر الأشياء وعمقها الحقيقي، ويكوّن البرهان على أن هذه الوقائع فريدة وتعاكس كل احتمالات الاستقطاب المذهبي المتشكل في أنحاء كثيرة من العالم
وإذا كنا نخشى الأصولية وتجلياتها القذرة في التعصب الأعمى والممارسات الوحشية فإن العلّة تكمن في التضييق على الحريات وتكميم الأفواه وإخراس الأصوات الحرة
هذه المسائل التي استمرت عبر عقود وعقود فسطحت العقول ونخرت الأذهان وسمّمت الأفكار، وتتأكد مرة أخرى مقولة إن الديمقراطية هي العلاج الأنجع للتطرف الأصولي والسلفي المتزمت وهي الملين للموجات العالية من ردود الفعل الغريزية التي لا بد أن تتكسر على شاطئ الفكر النهضوي وتتحطم على صخور الثبات على المواقف الطبقية. هذا الفكر الذي تتمازج فيه الأفكار الحضارية والتدين الشعبي تمازجاً يبشر بدنوِّ قطاف مشتهى
وإننا نلمح في الأفق البعيد بروق تغيرات بعد الحدود في هذا البلد أو ذاك، ولا يخيفنا سعي الولايات المتحدة لاستغلال هذا التوق العظيم لدى الشعوب إلى الحرية والانعتاق، ومحاولتها ركوب الموجة. وهي ـ أي الإمبريالية الأمريكية ـ حين تراهن على ترحيب الشعوب بدعوتها إلى التغيير الديمقراطي ستخسر الرهان، لأن رد الشعوب على الخديعة الأمريكية سيكون أكثر قوة من رد الأنظمة الاستبدادية على هذه الخديعة

إن حالة من الفرز في صفوف الحركات الأصولية والشمولية لا بد من أن تعيد المسار إلى وجهته الصحيحة، وإن الإرهاب الفكري لهذه الحركات لا بد واجد من يتصدى له من المثقفين والتنويريين، وسيحصل لهذا المد الأصولي ما حصل لأنظمة الاستبداد الشمولية من انهيار وتداع، وتكون موجة شعبوية جديدة منتقاة ومنقاة من الممارسات الأمنية التي علقت بالكثير من الأيديولوجيات الثورية والتغييرية والدولة البطريركية الحديثة حتى في نوعها التقدمي، الدولة التي تعاني وتمعن في ازدواجية السلطة العسكرية ـ البيروقراطية والتنظيم البوليسي السري الذي يهيمن على الحياة اليومية. فالمواطن العادي ليس محروماً من حقوقه الأساسية فحسب، بل إنه عملياً أسير الدولة، وهو حين يفرُّ من إرهاب الدولة واستبداد الحاكم فإنما يفر إلى علاقات بدائية متخلفة: العائلة والعشيرة والطائفة والمذهب، تفيؤاً بظلالها من لفح الظلم والطغيان
وبمزيد من الثقة أستخلص العبر والعظات من الحراك الشعبي الممتد على مساحة الوطن العربي. وعلى الرغم من التعثر وتداخل السلبي مع الإيجابي في هذه الحركات الاحتجاجية، فإني أميل إلى الاطمئنان لمستقبل الشعوب العربية التي آن لها أن تخرج من إسار الظلم والاستبداد وتطل على آفاق مشرقة من الحرية والعدالة والإنسانية الراقية
إن الشرارة التي انطلقت مع لحظة حرق محمد أبو عزيزي نفسه لن تنطفئ، وإن الحلم بربيع عربي لن يتلاشى، وإن العين التي قيل يوماً إنها لن تقاوم المخرز سينبت لها أكثر من ظفر وناب
لا شك أن المؤامرة قائمة، والأخطار محدقة، ولكن الانسياق وراء نظرية المؤامرة وحدها لن يفضي إلا إلى الوقفة العاجزة عن المواقف الوطنية المطلوبة. والثابت أيضاً أن رياح التغيير التي هبت على جهات المنطقة العربية لن تهدأ. ومهم جداً أن تلاقيها رياح ـ أو قل على الأقل نسائم ـ تنطلق من هذا الداخل أو ذلك لتشكل هذه مع تلك العاصفة التي نرجو، وتجعل من وطننا العربي في عين هذه العاصفة لا ليدمر بل ليؤسسعلى قاعدة جديدة، هي قاعدة الديمقراطية وكرامة الإنسان والمواطنية الحقة

 

النور – 02/ 08/ 2011

http://an-nour.com/index.php?option=com_content&task=view&id=14274&Itemid=1