حوار حول الثورات العربية مع الكاتب ياسين الحاج صالح

Article  •  Publié sur Souria Houria le 6 août 2011

– برأيك لماذا الثورات الآن في العالم العربي؟
• هذا سؤال صعب جدا، وسوف يكون موضوعا لعمل المؤرخين في المستقبل. يزيده صعوبة، اليوم، أن هذه الثورات لم تكون متوقعة، وكان يسيطر في الثقافة العربية العالمة، المعنية بتقدير التطورات المحتملة، مزاج قاتم، غاية ما كان يأمله هو تجنب الأسوأ.
أقدر عموما أنه تقاطعت عدة سلاسل سببية لتفجير الثورات. أولاها شعور عام بالمهانة من دور القرابة في السياسة العمومية ومشاريع التوريث، فكأن الحكام مالكين لبلدانهم وليسوا مجرد حاكمين، بتفويض محدود ومؤقت. ونلاحظ أن البلدان الخمسة التي شهدت تفجرات ثورية كانت بصدد التحول إلى الملكية (تونس، مصر، ليبيا، اليمن)، أو هي أنجزت هذا التحول (سورية). وثانيها سخط قطاعات واسعة من السكان على إدارة الشؤون العامة في بلداننا، وبخاصة تلاحم احتكار السلطة مع الاستئثار الواسع وغير الشرعي بالثروة. والسلسلة الثالثة تتصل بالمحرك الظرفي العارض الذي يستحيل التنبؤ به وتقدير آثاره، وقد تمثل في تونس بإشعال محمد بوعزيزي جسده احتجاجا على مهانة تعرض لها، يلتقي فيها الحياتي بالسياسي، وتمثل في غير تونس في المثال التونسي الذي حظي بانتباه واسع عربيا، فلعب دورا محرضا في مصر، ثم في اليمن وليبيا وسورية وغيرها.
وفي العموم، أتصور أن الثورات شبت لإسقاط أنظمة كانت ممعنة في السقوط في ضمائر محكوميها، لشدة تفاهة حاكميها وأعوانهم.
تبقى الإجابة على سؤال « لماذا الآن؟ » شاقة دوما. فالحدث التاريخي لا ينضبط بعقل عليم كامن خلفه، بحيث نحيط بالحدث بقدر ما نتمكن من تَمثُّل ذلك العقل. هناك دوما نصيب لغير المحسوب وغير المتوقع في تحقيق ممكنات كامنة، وتشكيل واقع آخر، مغاير.

– هل تشعر بغياب المثقفين في هذه المرحلة، أم أن التكنولوجيا كأدوات يستعملها الانسان تجاوزت أفكار المثقفين وأحلامهم؟
لا أرى وجاهة في رسم تقابل بين التكنولوجيا وأفكار المثقفين. التكنولوجيا لا تصنع قيما، وإن كانت تتيح نشر القيم. وهي تسهل إنتاج الأفكار والمعارف ونشرها وتعميمها، لكنها لا تنتجها. وهي لا تفجر ثورات، وإن أمكنها أن تكون أداة مساعدة في كفاح ثوري. وتقديري أن مزيدا من الثقافة، اليوم، يمر عبر علاقة أقوى بالتكنولوجيا، وأن « تحالفا » بين الثقافة وتكنولوجيا المعلومات على يد جيل جديد من المثقفين، هو ما سنشهده بعد الثورات.
أخمن أيضا أن الثورات تعلن نهاية نموذج المثقف المرشد، الذي، حين لا يرى نفسه إلها، يعتبر نفسه نبيا هاديا. لكنه في الوقت نفسه يحب المال حبا جما، ويعشق الشهرة بالقدر نفسه. نموذج هذا المثقف هو جابر عصفور المصري، الذي استوزر في الأيام الأخيرة من نظام مبارك، ثم استدرك نفسه فاستقال. أمثاله يتكلمون كثيرا على الفكر والثقافة والعقل والمعرفة والتنوير، لكنهم لا يؤمنون بشيء، ولا قضية لهم تعلو على أنفسهم. وهؤلاء ليسوا غائبين كما يقول السؤال. الواقع أنهم حاضرون حضورا مضادا، متشككا في التغيرات التاريخية الجارية، حين لا يكون منحازا صراحة إلى الطغم الرجعية الحاكمة.

– آلا تلاحظ أن الثورات العربية قامت من دون كتاب أو نظريات أو منظرين، وهي نتاج العفويات أو ردات الفعل على أنظمة متسلطة ومستبدة ومزمنة؟
هل تلزم نظريات ومنظرين من أجل الثورات؟ الثورات تفجرات غضب ضد أوضاع قائمة، فيها دوما قدر كبير من الانفعال، ومن العفوية، ومن رد الفعل، ومن الشجاعة والإقدام. وهي أساسا حركات تقويض، تعمل على إزالة ما يقيد الناس ويمتص قواهم. فإذا التقت بمناخ ثقافي متفتح وخصب، كان الفرصة كبيرة لأن يتحول الغضب والتقويض إلى قوة بناء وتجدد، وإذا لم تلتق كان واردا أن تستنفد نفسها في إزاحة الأوضاع التي قامت ضدها.
وتقديري أنه يجتمع في ثوراتنا الغضب والانفعال والتقويض من جهة، وزاد ثقافي حديث وتقليدي من جهة ثانية، وستتمخض عن بنى اجتماعية وسياسية تعكس هذا الاجتماع. لكني أتصور أنها ستحرر طاقات ثقافية جديدة وتفتح آفاقا جديدة للفكر والثقافة، وأن هذه الطاقات ستوجهها عبر مسارات تاريخية أبطأ إيقاعا من عملية الثورة ذاتها إلى أوضاع جديدة أكثر إنسانية وتقدما.
أما افتراض أن الثورة نقيض العفوية فهو وريث المفهوم اللينيني للثورة التي تقوم بها قوى ثورية منظمة، مسلحة بنظرية ثورية جاهزة. هذا مفهوم مجادل فيه، ومحصلاته تفضي في كل الأمثلة التي نعرفها إلى استبداد جديد.
وعلى كل حال لا تتوافق تغيرات أميركا اللاتينية وأوربا الشرقية وكل ما نعرفه في ربع القرن الأخير مع النموذج اللينيني الذي يفترض وجود قوى تغيير من أجل حدوث التغيير. ما يحصل فعليا هو أن التغيير يحدث بفعل تلاقي عمليات داخلية وخارجية تخص البلدان المعنية، ثم تظهر قوى تغيير كانت كامنة أو ضعيفة أو غير منظمة.

– هل يؤثر غياب النظريات على مستقبل الثورات العربية؟
بل هو ما سمح بانتشارها العام. لو كانت مؤطرة بنظريات أو مذاهب معينة، ولو إسلامية، لحد ذلك من انتشارها الاجتماعي والجغرافي. لكن زهدها الإيديولوجي، ونزوعها الأخلاقي المتطلب للكرامة والعدالة والحرية، هو ما جعلها تخاطب حساسية واسعة في مجتمعاتنا. أما من أجل المستقبل فلا بد من تنشيط الفكر النقدي والعمل الثقافي المنتج للقيم. الثقافة الغنية، وليس « النظريات الرمادية »، هي ما يلزم لتعطي الثورات العربية أينع ثمارها.

– هل كان للمثقفين » العرب دور في الترويج للاستبداد؟
اعتقد أن أسوا ما أصاب الثقافة والمثقفين العرب خلال العقدين الأخيرين، بين نهاية الحرب الباردة ومطلع هذا العام الثوري، هو الداء الثقافوي، أعني تفسير المجتمع والتاريخ بالثقافة (مقلصة إلى الدين، مقلصا إلى الإسلام، مقلصا بدوره في سورية إلى الإسلام السني)، واعتبار مجتمعاتنا إسلامية بمعنى ماهوي، تتكون من نوع خاص من البشر هو الهوموإسلاميكس Homoislamicus، غير قابل للتطور دون الانسلاخ من ماهيته بالذات، وربما دون التخلص من من الإسلام ذاته. ولقد سار هذا المذهب الركيك جنبا إلى جنب مع تضييق المنظورات الفكرية للمثقفين، بحيث يقع الاقتصاد والسياسة والدولة والعلاقات الدولية خارج مقارباتهم، وما يتوافق أيضا مع الابتعاد العملي عن القضايا السياسية العامة، بما فيها ما يتصل بالحريات والمواطنة، إلى درجة الامتناع عن كتابة مقالة تتناول الشؤون السياسية الوطنية، أو حتى التوقيع على بيان تضامني مع زميل معتقل. وعموما يقترن هذا الداء الوبيل مع الانحياز إلى النظم الدكتاتورية الحاكمة، ومع العداء الصريح للديمقراطية، ومع نشر مناخ من التشاؤم التاريخي.
هذا التيار، نعم، روج للاستبداد بذريعة مواجهة الأصولية والإسلام السياسي الذي اعتبرها العدو الرئيسي المطلق، مقللا عموما من الفرق بين الإسلام ذاته وبين الإسلام السياسي. لا يغير من ذلك أنه ربما يفضل « الاستبداد المستنير » الذي يناهض « الظلامية » مقتبسا « النور » منهم. ومن الثوابت المنهجية عند هذا التيار أنه يختزل مجتمعاتنا إلى « دولة »، وإلى مجتمع مستسلم للظلامية والأصولية، وهو يصطف إلى جانب « الدولة »، التي قد يقر بأنها استبدادية، احتماء من هذا « المد الأصولي » الجارف. أعتقد أن الثورات أبطلت هذا التمثيل المعرفي المبتذل، وأظهرت مجتمعاتنا أكثر تركيبا وتنوعا، وأن الهوموإسلاميكس خرافة، وأن مجتمعاتنا تشبه مجتمعات الناس في كل مكان. لدينا مشكلات نوعية، لكنها تشرح بالعقل التاريخي النقدي ذاته الذي يشرح مشكلات أية مجتمعات أخرى.

– هل ما يجري في العالم العربي « ثورة » أم « تمرد »(بحسب أدونيس) أم « مؤامرة » بحسب بعضهم، أو موجة تشبه مرحلة سقوط جدار برلين؟
أشتبه في أن مقصد القائل بالتمرد هو التقليل من شأن ما يجري، الأمر الذي يضيق المسافة بينه وبين القائلين بالمؤامرة.
المسألة اصطلاحية على أية حال. والكلمات التي نفضل استخدامها ليس خالصة من انحيازاتنا الفكرية والسياسية. يسمي ما يجري ثورات من يتحمسون لها، وربما يسميها تمردات من يخشونها، ولا يملكون الجرأة الفكرية والأخلاقية للقول إنهم ضدها، ويسميها مؤامرات من يعادونها ويعملون على تجريمها وتحطيمها. المهم في كل حال هو أن نُعرِّف الكلمات التي نستخدم، وأن نستخدمها بصورة متسقة، فلا نقفز خلسة من معنى للكلمة إلى معنى آخر، مختلف.
استخدم شخصيا تعبير انتفاضة، وأرى أنها تكون ثورة ليس فقط حين تنجح في إسقاط النظام، ولكن حين تؤسس حياة سياسية وثقافية واجتماعية جديدة أرقى وأكثر تقدما وديمقراطية. مفهوم الثورة يتضمن أبعادا تاريخية. لكني استخدم أيضا تعبير ثورة سياسية، يؤمل أن تكون فاتحة تغيرات اجتماعية وثقافية كبرى يحتاجها العالم العربي بقوة.
– ثمة من قال أن العالم العربي يختلف عن أوروبا الشرقية، ذلك أن العالم العربي يحتاج عشرات السنين لتتحقق الثورة فيه على عكس أوروبا الشرقية التي كانت وصلت إليها من الأنظمة الشيوعية الحداثة والحياة والفردية وهي ليست بلاد التعقيدات والقبائل كما هو الحال في العالم العربي.
لكن الشيء المهم هو أن نتحرك، أن نحقق شيئا، وأن نراكم وننجز، وأن نتفاعل مع العالم المعاصر بإيجابية، ونستجيب للتحديات التي تواجهنا بصورة أكثر ديناميكية. أوضاعنا أكثر تعقيدا من أوربا الشرقية، لأسباب تاريخية وثقافية، من أهم نتائجها أننا لا نستطيع التماهي بالغرب بيسر، أو أن عتبة التماهي به أعلى بكثير مما كانت بخصوص شعوب أوربا الشرقية، علما أن التماهي وسيلة تعلم لا نظير لها. وعلى كل حال، ليس من الصواب أن نقيس إنجازنا بأوربا الشرقية أو غيرها كي تكون له قيمة. قيمته تتمثل في ما يعالجه من مشكلات وما يزيله من عوائق أمام تحرير الفاعلية التاريخية لمجتمعاتنا وشعوبنا. ونوعية مشكلاتنا هي ما تحدد المطلوب منا إنجازه، وليس التماثل مع نموذج ناجز، أوربيا شرقيا أو غربيا أو غيره.
لم نكن نتحرك، وكنا نتعفن لأننا لا نتحرك. اليوم نتحرك ونواجه مشكلاتنا، وهذا هو المهم.
– برأيك آلا يعتبر إسقاط الأنظمة في العالم العربي هو الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر يكون في الثورة الاجتماعية؟
بكل تأكيد. لكن الجهاد الأصغر هو جهاد أكبر إلى أن يحقق هدفه: « إسقاط النظام »! وهو منذ الآن عملية مركبة فعلا، لا تقتصر على مواجهة النظام، بل تشمل أيضا نقد القيم السياسية والثقافية التي تحمي الاستبداد، وكذلك نقد الميول الاستبدادية التي قد تظهر أثناء سير الانتفاضة ذاتها. فرصنا في صنع مستقبل متحرر أكبر كلنا كانت ثوراتنا اليوم أكثر تركيبا، وحائزة على وعي ذاتي بصفتها المركبة، السياسية والثقافية والاجتماعية.
في النهاية ثوراتنا تشبهنا. وهي لن تكون معجزات تنقلنا إلى ملكوت الحرية والمساواة والتقدم دفعة واحدة. إنها جولات في صراع مفتوح، غاية ما يؤمل منها أن تزيل أسوأ العوائق أمام الإصلاح السياسي والاجتماعي والثقافي في بلداننا.

– كيف تنظر إلى الشعارات الجديدة للثورات وهي الحرية وما شابه على عكس الثورات القديمة التي كانت ترفع شعارات عريضة مثل الوحدة العربية ومناهضة الاستعمار والامبريالية؟
اليوم نحن في قلب معركة « الاستقلال الثاني »، أي التخلص من الاستبداد. ثوراتنا اليوم وطنية بمعنى أنها موجهة لبناء الأمة والدولة الوطنية داخل كل بلد، وهي موجهة نحو الداخل، أي بناء الداخل الوطني القائم على المواطنة والحريات العامة والمساواة وحكم القانون، وفتح الملعب الداخلي ليكون مركز ثقل السياسة الوطنية. وهذا بالتقابل مع ثورات كانت موجهة نحو الخارج، أو آلت إلى أن تكون موجهة نحو الخارج، هي التي قامت ضد الاستعمار. كانت الحرية هي حرية الوطن، اليوم هي حرية المواطن التي إن لم تتحقق فقد نخسر حرية أوطاننا أو تتفكك هذه الأوطان إلى قبائل وطوائف. الإشكالية مختلفة كليا عن إشكالية القومية وحركات التحرر الوطني. ورأيي أن أحد جوانب الثورات الحالية هو حسم مسألة الشرعية الكيانية لدولنا القائمة. إنها ثورات سورية أو مصرية أو تونسية… وهي ستتجه إلى تصور جديد للرابطة العربية، غير قومي وما بعد قومي عربي. تصور دستوري، إن صح التعبير، تكون العروبة فيها أحد أسس الشخصية الوطنية لدولنا، لكن مُهيْمنٌ عليها من قبل الوطنية المصرية أو السورية أو التونسية.

– أين أهل الثقافة من الثورات، آلا يشعر المثقف بفقدان دوره وحضوره أمام شجاعة الجمهور في مواجهة التسلط والأنظمة؟
لا ينبغي أن ننتظر من المثقف أن يكون قائدا للثورات. ما يُعرِّف المثقف هو أن يكون « قائدا » في مجال الرأي والقيم، وأن ينتقد ويقاوم كل ما يحول دون تحرر الإنسان وانطلاق عقله ومخيلته واستقلال ضميره. المثقفون متفاوتون في هذا الشأن، لكنهم جملة أقرب إلى التقصير الشديد. في العقود الأخيرة أفسد المثقفين العربَ مزيجٌ من الخوف والمال، ومن عقائد المطلق، فضلا عن النرجسية أو الشخصية المنتفخة الشائعة في أوساط المثقفين. اليوم يتشكل جيل جديد من المثقفين أقل تمركزا حول الإيديولوجية وأقل خوفا. ولعل من شأن إعادة بناء سلم القيم الاجتماعية حول العمل والكفاءة، وهو ما يؤمل من ثوراتنا، أن يحررهم أيضا من التبعية لأصحاب الأموال، ويجعلهم أفضل تأهيلا لزمن جديد ومجتمعات جديدة. خاصة أنهم أفضل علاقة بتكنولوجيات المعلومات الحديثة، وأفضل إجادة على العموم للغات أجنبية.

– هل هناك خوف من سيطرة الاسلام السياسي على الثورات؟
جزئيا. الثورات تحرر الديناميات الاجتماعية والسياسية في مجتمعاتنا، فتدفع الإسلاميين، وقد كانوا الضحية الأولى للأنظمة المتهاوية، تدفعهم إلى واجهة الأحداث، وتقر لهم بالشرعية السياسية. لكن تحرر هذه الديناميات نفسها يعمل لصالح التيارات الفكرية والسياسية الأخرى، وقد يتبلور في المحصلة استقطاب إيديولوجي سياسي جديد، يتواجه فيه تيار إسلامي مع تيار علماني في نطاق ديمقراطي. ولعله لأول مرة تنشأ ظروف سياسية مؤاتية لتقارب الديمقراطية والعلمانية، إذا شغل الإسلاميون مواقع مهيمنة في حكم بلداننا بعد تخلصها من الدكتاتوريات الوراثية القائمة.
وفي هذا السياق أرى أنه كلما سحبت ورقة معاداة الإسلام ذاته من التداول الإيديولوجي والسياسي، كان ذلك أنسب لمواجهة الإسلام السياسي، وأكثر مؤاتاة للعلمانية والديمقراطية معا.

– هل يمكن قيام الدولة المدينة في العالم العربي في ظل الاسلام سواء أكان سياسية أم تقليدياً؟
لا أرى ما يمنع. الإسلام ليس جوهرا لا مدنيا متعاليا على التاريخ. هو لا يكف عن التشكل بالتاريخ في صور متغيرة. أثناء الانتفاضة السورية تداول المحتجون على نطاق واسع الآية القرآنية: « لئن بسطت إلي يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك »، للتأكيد على الطابع السلمي للانتفاضة. وتعلم أنه في سنوات ما بعد11 أيلول كان يجري تعريف الإسلام بآيات أخرى، أبرزها « آية السيف »، بغرض التأكيد أن عنف « القاعدة » ومتفرعاتها واجب ديني إسلامي. هذا مثال واحد على إعادة هيكلة التعاليم الدينية بمبادرة من السياقات التاريخية العينية، ومن نوعية مطالب الناس فيها.
وقد يكون من شأن التخلص من الدكتاتوريات العدوانية التي نعيش في ظلها الثقيل اليوم أن يخفف الضغط السياسي عن الثقافة، وأن يدفع باتجاه مزيد من الاشتغال الفكري والثقافي على الدين، بما يؤنسنه أكثر ويجعله شأنا مدنيا ومجتمعيا أكثر. إعادة الهيكلة الدينية أو الإصلاح الإسلامي هي من القضايا التي ستفرض نفسها بقوة قريبا. تفرض نفسها منذ الآن، ومن الأمس، برأيي.

– هل النموذج التركي قابل لأن يطبق في العالم العربي، وهل هناك خوف من « خمينية جديدة »؟
نحتاج إلى توازن قوى مجتمعي مناسب من أجل النموذج التركي. الثورات والانتفاضات الجارية خطوة في هذا الاتجاه. وسيقع على عاتق النخب السياسي والثقافية أن تعمل من أجل نظام ديمقراطي، لا يتنكر للهوية الثقافية، لكنه يفصل بين الدين والسيادة (وليس السياسة)، أي يفصل الدين عن الإكراه والولاية العامة. وهذه هي الملامح الأساسية للنموذج التركي.
أما الخوف من خمينية جديدة فليس له ما يبرره في نظري. في الثورة الإيرانية، التقى تمرد على الاستلاب الثقافي (إيديولوجية نظام الشاه انبنت على تعظيم التاريخ الامبراطوري ما قبل الإسلامي)، مع حركة تحرر وطني لم تعرفها إيران لكونها لم تستعمر بصورة مباشرة، ومع وزن كبير للإكليروس الشيعي الأكثر تنظيما وتمأسسا بكثير من نظيره السني. لا شيء يشبه ذلك في العالم العربي. بل إن الميل الغالب في الانتفاضات هو عكس ذلك في تقديري.
أستبعد أن تشبه مصر إيران الإسلامية في أي مستقبل منظور. من المحتمل أن نرى نظاما سياسيا مصريا يشغل الإسلاميون دورا مركزيا فيه، لكنه لن يكون إسلاميا خالصا لاعتبارات اجتماعية وسياسة داخلية، ولارتباطات جيوسياسية معروفة. أما تونس وسورية فهما أقل احتمالا بعد لتطور من النوع الخميني بحكم تكوينهما الاجتماعي والتاريخي.

أسئلة محمد الحجيري

المصدر: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=269836