حوران: عود على بدء صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 27 août 2012

قيل (والقول مصدره حوار مع مستشار سياسي لزعيم عربي كان، إلى عهد قريب، صديقاً للنظام السوري، مقيماً في دمشق) إنّ بشار الأسد، فور فرار زين العابدين بن علي من تونس، أوصى جهاز استخبارات روسياً بإجراء دراسة استقصائية سريعة، تجيب عن السؤال التالي: ما هي، في سورية، البؤرة الشعبية، البلدة أو المدينة أو المنطقة، التي يمكن أن تقتدي بما جرى في سيدي بــــوزيد التونســـية، ومنها تنطلق شرارة ‘العصيان’ ضدّ النظام؟ وقيل إنّ الدراسة تلك خلصت إلى نتيجة أولى، صحيحة، مفادها أنّ محافظة ريف دمشق هي الأخطر على النظام (لاعتبارات كثيرة، وجيهة بالفعل، ليس هنا المقام المناسب لاستعراضها)؛ كما بلغت نتيجة أخرى، اتضح أنها باطل الأباطيل، تقول إنّ منطقة التوازن المضادة، أي تلك التي ستواجه ريف دمشق لصالح النظام، هي… حوران!
والحال أنّ أقدار حوران شاءت أن تكون مدينة درعا، عاصمة المحافظة ودرّة السهل الخصيب بأسره، هي أوّل بقعة سورية تقود الانتفاضة السورية فعلياً، بعد الحراك الشعبي المحدود الذي عرفته دمشق قبلها بأيام قليلة؛ وأن يسقط من صفوف أبنائها أوائل الشهداء، ويختار لهم بغاة النظام وأبواقه تسمية كنّا نظنّ أنها طُويت إلى غير رجعة: ‘المندسّون’! كذلك كانت درعا أولى المدن السورية التي أُذيقت الغاز المسيل للدموع، بعد الرصاص الحيّ، بأيدي وحوش السلطة الكواسر. ذلك لأنّ حوران سيّرت أكبر مظاهرات الإنتفاضة السورية حينذاك؛ كما أنها، من جانب ثانٍ، ردّدت تلك الشعارات، الفصيحة البليغة الشجاعة، التي أوجعت النظام أكثر: بعد الهتاف ضدّ رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة وتمساح النهب والفساد، شدّد المتظاهرون على أنّ الخائن هو ذاك الذي يقتل شعبه.
التنكيل بحوران سوف يتواصل منذئذ: تارة تتساوى، في العقاب الوحشي الجماعي، مع حمص وحماة ودير الزور ومناطق أخرى؛ وطوراً يفرد لها النظام أفانين خاصة مختلفة، مردّها هذا السبب الباعث على الحقد، أو ذاك. آخر الجولات الفاشية، التي تتعرّض لها منذ أشهر بلدة الحراك على سبيل المثال (هذه التي استحقت، بجدارة، لقب ‘بلد الفزعة’، أي النجدة والغوث والسند)، شهدت قصفاً على الأحياء السكنية، بالدبابات والمدفعية الثقيلة والطيران المروحي، أوقع عشرات الشهداء؛ كما نفّذ عسكر النظام إعدامات ميدانية شملت العشرات، بعضهم قُتل مكبّل اليدين، بينهم رجل مسنّ تجاوز الثمانين. وفي أواخر تموز (يوليو) الماضي، أودى القصف الصاروخي وقذائف الهاون بحياة مجموعة أطفال من عائلة السلامات، تتراوح أعمارهم بين 3 و5 سنوات.
‘بطولات’ كواسر النظام هذه، ضدّ المواطنين العزّل في تسعة أعشار الوقائع، واستخدام مختلف صنوف الأسلحة الثقيلة، بما في ذلك الحوّامات والقاذافات المقاتلة، جرت وتجري على مبعدة كيلومترات قليلة من أرض الجولان المحتلة، حيث لا يتجاسر فرسان الأسد على استخدام بندقية صيد. بل إنّ النظام لم يتردد في سحب بعض الوحدات الموالية من مواقع انتشارها الأصلية في الجولان، ونقلها إلى حوران وريف دمشق وحمص ودير الزور وحلب، لتقاتل ضدّ ‘عدوّ الداخل’، بعد أن صار العدوّ الإسرائيلي شريكاً صامتاً للنظام.
البعض يرى أنّ الحقد المضاعف على الحراك، وحوران عموماً، لا يعود إلى أنها كانت ‘سيدي بوزيد سورية’، فحسب؛ بل كذلك لأنّ أبناءها اعتادوا افتداء أرواحهم من أجل تأمين عبور الناشطين والمعارضين والمنشقين عن جيش النظام، إلى الأردن. وجرعة الحقد الراهنة، القصوى، قد تجد بعض تبريرها في ما يتردد من أنّ فاروق الشرع، نائب الأسد، قد يكون انشقّ بالفعل، وتعثرت عملية تهريبه إلى الأراضي الأردنية، وما يزال في ضيافة أهل حوران حتى الساعة. البعض الآخر يساجل على نحو أبسط، وأبعد عن مطحنة الشائعات والأقاويل: ‘من حوران هلّت البشاير’، كما تقول الأهزوجة الشعبية، التي تصف واقعة صحيحة وبليغة في عمر الانتفاضة السورية، فكيف لا يحقد عليها النظام؟ وكيف لا يسعى، دون كلل أو ملل، بمزيج من الذعر والبغضاء، إلى ترويع أهلها، شيباً وشباباً، نساء وأطفالاً؟
وفي العودة إلى ذلك التقدير الاستخباراتي الروسي الأخرق، وبصرف النظر عن الملابسات الملموسة التي كانت وراء انطلاقة الانتفاضة من حوران، فإنّ من العجب أن تُصنّف هذه المحافظة ـ أو أية منطقة سواها، في أربع رياح سورية ـ كنقطة توازن لصالح النظام. وحين رفع متظاهرو حوران شعارات تخصّ مطالبهم المحلية، إلى جانب المطالب الوطنية التي تشمل سورية بأسرها، فلأنّ هذه المحافظة الأصيلة ظُلمت مراراً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً أيضاً؛ رغم أنها خيّرة معطاءة، ليس في إنتاج الحنطة الحورانية المميّزة فحسب، بل أيضاً في إنتاج الشعير والزيتون والعنب والخضروات واللوزيات.
ويبقى، في الاستئناس بدروس التاريخ، أنّ سهولها احتضنت معركة اليرموك، الشهيرة الفاصلة، التي انتهت إلى هزيمة الروم، أقوى جيوش العالم آنذاك؛ فأصغت حوران إلى تنهيدة هرقل الجريحة والكسيرة، حين غادر إلى غير رجعة: ‘السلام عليك يا سورية، سلاماً لا لقاء بعده (…) لا يدخلك روميٌ بعد الآن إلا خائفاً’. ويبقى، كذلك، ما ذكّرنا به أبو الطيب المتنبي ذات يوم: وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ/ فعلى أيّ جانبيك تميل!

http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\26qpt998.htm&arc=data\2012\08\08-26\26qpt998.htm