خطاب سياسي كيماوي – حازم نهار

Article  •  Publié sur Souria Houria le 22 août 2016

خطاب سياسي كيماوي

ظهر بعد مجزرة الكيماوي في غوطتي دمشق خطاب سياسي كيماوي لا يقل سمية عن السلاح الذي استخدم في قتل أهلنا. أصحاب هذا الخطاب الكيماوي ليسوا بالطبع من اعتاد السوريون على تسميتهم بالموالين أو الشبيحة الذين لم تعد لغتهم ومواقفهم تشكل مفاجأة لأحد منذ زمن بعيد، بل أولئك المندرجون في أطر سياسية « معارضة » أو « شبه معارضة »، إلى جانب بعض المستحاثات « الشيوعية » و »القومية »، و »اليسارية » عموماً.

 على العموم، كان من بين استراتيجيات النظام الإعلامية والسياسية في مواجهة الثورة والمعارضين منذ البدايات بذل الجهد في سبيل توفير إمكانية التشكيك، مهما كان هزيلاً ومتهافتاً، لأولئك الذين يبحثون عن « مبررات » تساعدهم في تغطية صمتهم أو حياديتهم، أو لأولئك الانتهازيين الذين يبحثون عن سلاح لمعاركهم الإعلامية ضد الثورة، أو لبعض الفئات المندرجة في الثورة بقصد حثها على التموضع في مساحات قريبة منه في مواجهة « التطرف والإرهاب » أو على الأقل إلى المواقع التي تمظهرت في أشكال ومستويات ودرجات مختلفة مما سمي بـ « الطريق الثالث ». وقد تحقق ذلك للنظام بحكم المراحل المعقدة التي مرت بها الثورة، والأخطاء الجسام التي ارتكبتها المعارضة السياسية بكل صنوفها.

يلجأ أصحاب اللغة الكيماوية، بالاستفادة من عملية التشكيك الدائمة في الحوادث التي يعتمدها النظام، إلى اللعب بالكلمات والتعابير كوسيلة لتغطية العورات السياسية والأخلاقية على حد سواء، على شاكلة التعبير الشائع « أنا من حيث المبدأ ضد القتل »، وبالطبع من دون الإشارة للقاتل وإدانته في كل حادثة، على الرغم من أنه مرت محطات كثيرة كان القاتل فيها واضحاً ومعروفاً ولم يشيروا إليه بكلمة. لقد كانوا، وما يزالون، يفضلون الصورة الضبابية للقتل، فهذا أسهل لهم من حيث البقاء في حدود الحديث العام عن القتل. أو على شاكلة عبارة « أنا ضد استخدام السلاح الكيماوي من أي طرف كان » التي ظهرت في تصريحات وبيانات عديدة، من دون الإشارة مثلاً للمسؤولية السياسية عن استخدام الكيماوي في الغوطة على أقل تقدير. بالفعل ليس من الحكمة توجيه الاتهام الجنائي مباشرة، لكن من الممكن البحث في جانبين اثنين هما: التحليل السياسي للجريمة والمسؤولية السياسية، أما تحديد المسؤولية الجنائية فهي من اختصاص المحققين والخبراء.

لنفترض بالفعل أن هناك احتمال أن يكون السلاح الكيماوي قد استخدم من جانب طرف آخر غير النظام السوري وملحقاته وداعميه. لكن كي لا يصب هذا التحليل، الذي يحاول الظهور جاهداً بلباس الحكمة، في حالة من تمييع المسؤولية، فإنه يفترض على الأقل – إن كان أصحابه صادقين، أو لا يتعاملون وفقاً لمبدأ « الجكارة » كردة فعل انفعالية على الهامشية – أن يقوم بتحميل المسؤولية السياسية للنظام الحاكم، ومن دون ذلك يصبح هذا التحليل فارغاً. أما تحميل النظام المسؤولية السياسية فيعني عملياً المطالبة برحيله، فالنظام الذي لا يحمي شعبه من المخاطر لا يستحق أن يحكم على أقل تقدير.

 لم نسمع أصحاب هذا الخطاب أثناء نشرهم لآيات الحكمة: « أنا ضد القتل » أو « أنا ضد استخدام السلاح الكيماوي »، يطالبون على الأقل برفع الحصار عن الغوطة وتوفير الغذاء والدواء لأهلها، أو إدانة الطائرات التي استمرت بقصف أهل الغوطة بعد استخدام الكيماوي من القوى المريخية، لتزيد من همومهم ومعاناتهم. ونعلم أن النظام لم يكتف بذلك، بل لم يفكر بحركة ذكية مثلاً تدفع التهمة عنه كأن يعلن عن حالة حداد عامة في البلاد، ولم نسمع فناني النظام ولا رجال دينه يترحمون بكلمة على شهداء الغوطة، وأظهر إعلامه أنه لا قيمة لأرواح المجزرة الكيماوية، وكانت السخرية من الدماء في مواقف وتعابير مواليه هي سيدة الموقف. ثم جاءت رواية إعلام النظام المفرطة في الغباء عن البراميل الكيماوية المكتشفة في جوبر التي كتب عليها بخط كبير ملفت وغير مبرر عبارة « صناعة سعودية »، على الأغلب انسجاماً مع انتقال « الملف السوري » –كما يقال- من قطر إلى السعودية، ولولا ذلك لكنا شاهدنا ربما « لوغو قناة الجزيرة » على البراميل بالحجم العائلي. بالتحليل السياسي، ألا يشير القاتل إلى نفسه في كل ذلك؟!

أكد النظام في إعلامه خلال اللحظات الأولى على إنكار حدوث الجريمة الكيماوية، لينتقل بعدها إلى نفي مسؤوليته واتهام « العصابات الإرهابية »، وهذا النفي يعتمده النظام بقصد تحقيق « المساواة » بين وجهتي النظر الموالية والمعارضة في الصدقية على أقل تقدير، وبما يخلق الشكوك والإرباك. إن عدم اكتراث النظام بأرواح شهداء الغوطة ليس له من معنى سوى أنه معني بالبقاء فحسب وليس ببناء دولة وشعب، فشعبه هو شعب الموالين، فيما الآخرون « حشرات »، وهذا كاف لأصحاب الخطاب الكيماوي كي يدينوه حتى لو كان هناك احتمال في رؤوسهم ببراءته من جريمة الكيماوي.

بعض أصحاب الخطاب الكيماوي الغارقون في الأيديولوجية والوهم، والانتهازية أيضاً، عاينوا موضوع المجزرة الكيماوية فخرجوا علينا بنظرية أن الإمبريالية الأميركية هي الفاعل، وذلك بالانطلاق من سؤال « المفتش جميل »: من المستفيد؟ بالتأكيد الإمبريالية وجميع الذين يدورون في ركابها هم مستفيدون، ولطالما استفادوا من غباء أنظمة المنطقة، لكن عائلة المستفيدين واسعة، تبدأ ممن خطط للجريمة ونفذها، مروراً بأصحاب الخطاب الكيماوي الذين لطالما أرادوا ستر عوراتهم وجبنهم المزمن بخطاب دونكيشوتي يحارب طواحين الهواء الإمبريالية.

بعض أصحاب هذا الخطاب استخدم مسرعاً، وبخفة سياسية غريبة، تقريراً صحفياً نشرته جريدة السفير عن « رواية روسية مدعمة بالوثائق والصور التي التقطتها الأقمار الاصطناعية لمنطقة الغوطة »، وقالوا أن « الأيام القليلة القادمة سوف تبين من استخدم الكيماوي في الغوطة الشرقية »، وروجوا لما قاله الروس بأن « قوات المعارضة لا توافق على دخول لجنة التحقيق الدولية للغوطة »، بما يخفي فرحاً ضمنياً عارماً بهذا الأمر وانتظاراً لـ « الفضيحة المجلجلة لبعض قوى المعارضة التي اتهمت النظام مباشرة »، وأمنيات خفية بـ « تغير نظرة كثير من الدول تجاه النظام السوري ». إنه تفكير « الجكارة » و »الهامشية » ليس أكثر.

 ذهب البعض أيضاً نحو تحميل جريمة الكيماوي لبعض أهل المعارضة، واستخدم في خطابه تعبير « المتاجرة بالدماء » في وصفهم. أهل المعارضة جميعهم يستحقون النقد، وبعضهم عاجز يستحق الشفقة، وبعضهم يساهم بضحالته السياسية في ازدياد مأساة السوريين، وبعضهم « ركب » على الثورة كما يقال، وبعضهم قد يكون فاسداً، لكن يحتاج الأمر لتحقيق وقضاء يضعان النقاط على الحروف. كل ما سبق ممكن لكن على الأقل كان حرياً بأصحاب الخطاب الكيماوي ألا يغمضوا أعينهم عن « صناع الدماء والجرائم » ويلحقوا « تجار الدماء » فحسب إن أرادوا أن يكونوا منصفين. في العموم كانت المسيرة الاعتيادية أن النظام يرتكب « جريمة » ما، فيخطئ أهل « المعارضة » التعبير والتوصيف، فينبري أصحاب الخطاب الكيماوي فرحين بحصولهم على منفذ لراحة « بقايا الضمير »، فتضيع « الجريمة » وضحاياها، فيسعد النظام باحثاً عن « جريمة » أخرى!

لقد وجد بعض أصحاب الخطاب الكيماوي ضالتهم التي ينتظرونها عندما خرجت تعابير خاطئة ذات منحى طائفي على لسان بعض الذين فقدوا أهلهم وأحبتهم في مجزرة الكيماوي، فالتقطوا أنفاسهم وبدؤوا دروسهم الاعتيادية المثيرة للشفقة ضد الطائفية وتناسوا المجزرة. الخطاب ضد الطائفية هو خطاب صحيح وضروري لكنه كان يصدر أحياناً عن شخصيات طائفية في العمق، كالخائف الذي يريد أن يقتل خوفه في الظلمة برفع صوته، أو استخدم أحياناً أخرى من جانب البعض للتملص من الوقوف إلى جانب ضحايا النظام الذين صدرت عنهم بعض التعابير الطائفية.

 ربما كان أصحاب الخطاب الكيماوي يريدون أن يأتي أهل الغوطة وهم يغنون ويرقصون، بعد قصفهم بالكيماوي، وبعد أن تابعت الطائرات والصواريخ مهمة قتلهم، وبعد الاستمرار في حصارهم وتجويعهم ومنع الدواء عنهم، وبعد المواقف الوضيعة للطبقة « المثقفة » وما يسمى العالم « المتحضر ». في الحقيقة لا نستطيع النظر للتعابير الطائفية على أنها مؤشر على توجه طائفي أصيل في ظل هذه الأحوال، ومع ذلك من المهم الذهاب نحو محاصرة التفكير الطائفي عند البعض اليوم وغداً شريطة تزامنه مع الإشارة إلى من يقتلهم وتقدير آلامهم وتضحياتهم والتوجه إليهم بخطاب أصيل في تواضعه، وعدم نسيان أن أخطاء أهل الثورة تشير بالضرورة إلى حجم ما فعله هذا النظام من سوء بالبشر والحجر على مدار أربعة عقود.