خطة أنان وخطط أمريكا: لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً! – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 4 mai 2012

رغم أنّ تطبيق بنودها الستة يمكن أن يُلحق الأذى بالنظام السوري، ولعلّ تنفيذ بعض هذه البنود فعل هذا، وسيفعله على نحو أوضح في الفترة القادمة (ومن هنا، يصحّ القول إنّ المعارضة السورية أصابت حين وافقت عليها)؛ فإنّ خطة كوفي أنان، مبعوث الأمم المتحدة والجامعة العربية، لا يمكن أن تنفصل عن طبيعة الفعل، أو الفاعلية، التي ميّزت عمل منظمة الأمم المتحدة بصفة عامة. كان محتوماً، بذلك، أن تبدأ أولى مظاهر التعثر، أو العرقلة المقصودة، من داخل اجتماعات مجلس الأمن الدولي ذاته (حول مسائل ذات صلة، وأخرى واهية الصلة)؛ ثمّ تمرّ بالوقائع على الأرض (عدد المراقبين، وجنسياتهم، وبروتوكولات عملهم)؛ ولا تنتهي عند المآل الراهن المتوقع: مساواة القاتل بالقتيل، والجلاد بالضحية، والأسلحة الثقيلة للجيش النظامي بالسلاح الخفيف لمقاتلي ‘الجيش السوري الحرّ’…

من جانبه، وعلى غرار ما فهم من قرارات الجامعة العربية ونشر المراقبين العرب، انخرط فريق النظام الأمني في ألعاب الخداع والتضليل المكرورة ذاتها، سواء من حيث استبدال وحدات الجيش الموالي بعناصر الأمن (على قاعدة أنّ هذه العناصر ليست مشمولة بالبند الثاني من الخطة، والذي يشترط سحب الوحدات العسكرية والأسلحة الثقيلة)؛ أو إخفاء الدبابات والمدرعات والمدفعية وراجمات الصواريخ، على النحو الكاريكاتوري ذاته الذي استهوى بشار الأسد نفسه (كما فضحته إحدى رسائله الإلكترونية، حول لعبة إخفاء الدبابة). ألعاب أخرى تضمنت إطلاق سراح عدد محدود من الناشطين، من باب الإيحاء بتطبيق البند الرابع من الخطة، ثمّ اعتقال دفعة جديدة تعوّض الفرق (كأن يتمّ الإفراج بكفالة عن الصبية يارا ميشيل شماس، 21 سنة، علــى أن تتم محاكمتها بسلـــسلة تهم تصـــل عقوبة بعضها إلى الإعدام؛ ولكن ليـــس قــبل اعتقال الناشط المخضرم سلامة كيلة، 57 سنة، واـلطبيب جلال نوفل، 49 سنة).
أحوال خطة أنان هي من أحوال خطط الأمم المتحدة، إذاً، وخير الركائز في استنتاج حصيلتها هي تلك الحكمة العتيقة التي تقول: لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً/ ولكن لا حياة لمن تنادي! ليس الأمر جديداً، بالطبع، ولا هو ناجم عن حال الاستقطاب الراهنة في مجلس الأمن الدولي (بين الغرب من جهة، وروسيا والصين من جهة موازية)، التي تذكّر باستقطابات الحرب االباردة، ولا الأصوات النشاز مقابل ‘أوركسترا الديمقراطيات’ ـ حسب التسمية المضحكة التي أطلقها روبرت كاغان ـ التي تقودها الولايات المتحدة. هي سمة بنيوية، ببساطة، لا تكفّ عن الانقلاب إلى معضلة بنيوية بدورها، ما دامت مصالح الأمم لها الأولوية على أي مصلحة كونية مشتركة، لأي نظام دولي معتمَد.
وقبل ‘قصة النجاح’ في ليبيا ـ وهي في الواقع نقيض التسمية، لأنها قصة كارثة ومأساة وجريمة، فضلاً عن كونها عملية للحلف الأطلسي في الحساب الأخير ـ كانت الأمم المتحدة قد فشلت في فلسطين، ولبنان، والصومال، والبوسنة، وكوسوفو، وجورجيا، وأفغانستان، والعراق؛ وتفشل اليوم في سورية، وستفشل أغلب الظنّ في إيران إذا قرّرت واشنطن إعطاء الحليف الإسرائيلي رخصة بشنّ عدوان على منشآت البلد النووية. ومن المفيد التذكير بأنّ الحلف الأطلسي خاض الحرب في كوسوفو دون ترخيص من الأمم المتحدة، وأنّ غزو العراق نفّذته الولايات المتحدة تحت راية ما سُمّي ‘تحالف أصحاب الإرادة’ المؤلف من 27 دولة، والمبادرة التي تقودها الولايات المتحدة للحدّ من انتشار أسلحة التدمير الشامل تجيز استخدام القوّة في حال الضرورة وبمعزل عن مجلس الأمن الدولي…
الولايات المتحدة، قبل روسيا والصين، هي المسؤولة عن تفريغ المنظمة الدولية من أية فاعلية لا تتطابق مع المصالح القومية الأمريكية، ومصالح الحلفاء الأقربين في المقام التالي. ‘لقد عدنا إلى الانخراط مع الأمم المتحدة، وسدّدنا فواتيرنا’، هكذا أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما، في أوّل خطبة له أمام اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، خريف 2009 (استغرقت 41 دقيقة، أي أطول بـ 20 دقيقة من آخر خطبة ألقاها سلفه جورج بوش، فاعتبرها البعض ‘فأل خير’!). صحيفة ‘نيويورك تايمز’ ساقت عبارة الفواتير إياها، من فرط الإعجاب بها، فاختارتها في ركن ‘اقتباس اليوم’؛ وأمّا الموقع الرسمي للأمم المتحدة فقد احــتــفى بالعبارة إلى درجة التزيّد، وإضافة ما لم يقله أوباما بالحرف: أمريكا سدّدت الفواتير المتأخرة عليها!
في الآن ذاته كان الكثير من المعلّقين قد افتُتنوا بواقعة التصفيق الشديد الذي لقيه أوباما (وبلغ دقيقتين متواصلتين في ختام الكلمة، عدا التصفيق المتقطع لهذه الفقرة أو تلك)، مقارنة بنوبات الصمت التامّ، أو التصفيق البارد العابر، حين كان سلفه يعتلي منبر الأمم المتحدة في اجتماعات سابقة. وبذلك لاح أنّ الرئيس الأمريكي اكتسب مزيداً من الشعبية هنا، في المحفل الدولي؛ هو الذي أخذت شعبيته تتآكل تدريجياً هناك، في بلده، وخاصة في تلك الأوساط الشعبية المهمشة التي صنعت الكثير من أسباب صعوده وفوزه.
ولاح، أيضاً، وكأنّ الأولويات الأربع التي حدّدها (الحدّ من التسلّح النووي، سلام الشرق الأوسط، التغيّر المناخي، ومعالجة الفقر في البلدان النامية) ليست قديمة العهد، معادة، مكرورة، شهد هذا المنبر النطق بها على لسان رئيس أمريكي تلو آخر، مع تنويعات في الصياغة الخطابية وحدها، وبراعة أو رداءة الأداء الخطابي عند رونالد ريغان، جورج بوش الأب، بيل كلنتون، جورج بوش الابن، باراك أوباما… هذا إذا لم يعد المرء بالذاكرة إلى أحقاب أخرى أبعد زمناً في تاريخ منظمة الأمم المتحدة، والعلاقات الدولية عموماً، سواء في ما يتصل باتفاقية الحدّ من انتشار الأسلحة النووية (1968)، أو التغيّر المناخي (بروتوكول كيوتو، 1992)؛ بعد أن يدع جانباً سلام الشرق الأوسط وفقر البلدان النامية، فهذه أشبه بقضايا عالقة في المطلق الأبدي!
كان من المشروع ـ حينذاك، وكما برهنت الأيام بعدئذ ـ أن يُقرأ خطاب أوباما على نقيض الرسالة المركزية التي أراد الرئيس الأمريكي إيصالها، ومفادها أنه رجل التغيير هنا أيضاً؛ وسياسة الولايات المتحدة تجاه المنظمة الدولية قد تبدّلت، وصارت إيجابية ومنخرطة وفاعلة، بعد أن كانت سلبية عازفة جامدة. فهو، بادىء ذي بدء، أعاد إنتاج مفردات الإدارة السابقة حول السلام في الشرق الأوسط، وخاصة التشديد على يهودية دولة إسرائيل، واستخدم صياغة عالية التهذيب في الإشارة إلى عدم شرعية المستوطنات (دون أن يمنعه هذا من إعطاء الضوء الأخضر لاستئناف البناء في ما أسماه ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ‘مخادع النوم في ضواحي القدس’). قبل هذا كان أوباما، خلال القمة الثلاثية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس ونتنياهو، قد أكّد التزام الولايات المتحدة بأمن الدولة العبرية، على نحو قاطع وصريح وبليغ، أطرب الأخير فضحك ملء شدقيه أمام الصحافة، وأتعس الأوّل فاكفهرّ وعبس!
في القضايا الأخرى التي تضمنها خطاب أوباما، وهي جديرة بأن تُستعاد لأنها بمثابة ‘خريطة طريق’ جديدة تعيد وكانت إنتاج سياسات الإدارة السابقة، أو تعيد صياغتها على نحو تجميلي منافق دبلوماسي، كان طريفاً أن يدعو الرئيس الأمريكي المجتمع الدولي إلى استشراف القرن الجديد تحت خيمة الأمم المتحدة، من جهة؛ وأن يقرّع العالم لأنه يعادي سياسات أمريكا، ولا يساندها في حروبها، ولا يمنحها ترخيصاً خالصاً بالعمل الأحادي، أنى ومتى ارتأت أمريكا استخدام أيّ من خياراتها في التدخل الخارجي، من جهة ثانية. ولقد فسّر حكاية العداء تلك كما يلي: ‘بعض السبب فيها يعود إلى سوء الإدراك أو سوء المعلومات حول بلدي. بعضها الآخر يعود إلى معارضة سياسات محددة، واليقين بأنّ أمريكا تصرّفت لوحدها في بعض القضايا، دون الاكتراث بمصالح الآخرين. وهذا ما أدّى إلى نزعة عداء شبه انعكاسية، كانت غالباً تُستخدم كذريعة لامتناعنا عن المشاركة في العمل الجماعي’.
من الجلي أنّ أوباما تعمّد أن يتناسى كيف وقف أقطاب ما يُسمّى ‘المجتمع الدولي’ خلف إدارة بلاده، حين اعتزمت غزو العراق، فاختارت حفنة من أبرز قيادات الديمقراطيات الأوروبية (كانوا سبعة بالتمام والكمال: الإسباني خوزيه ماريا أثنار، البرتغالي خوزيه مانويل باروسو، الإيطالي سيلفيو برلسكوني، البريطاني توني بلير، التشيكي فاكلاف هافل، الهنغاري بيتر ميجيساي، البولوني لاشيك ميللر، والدانمركي آنديرس راسموسن)، توقيع بيان مشترك يدعو إلى الحرب ضدّ العراق. ولقد تجرّد هؤلاء، علانية، من الضمير (القياسي البسيط المتفق عليه كونياً، والذي يحدث انه ضمير أوروبا القارّة العتــيقة العجوز، وضمير فلسفات العقل والحداثة وحقوق الإنسان…)، ومارسوا، على الملأ، قلّة احترام الذات، واحتقار الشعوب، وغضّ البصر عن عذابات البشرية.
وفي تلك البرهة من اصطفاف معظم الديمقراطيات الغربية خلف الولايات المتحدة، كانت الأرقام تقول إن أمريكا تنفق على السلاح والجيوش والقضايا الأخرى الدائرة حول فكرة ‘الأمن القومي’ ما يزيد على مجموع ما ينفقه العالم بأسره. وفي المشهد ذاته، قبل نشر عشرات الآلاف من القوّات الأمريكية والبريطانية في الخليج للانقضاض على العراق، كان أكثر من نصف مليون عسكري أمريكي ينتشرون في 395 قاعدة عسكرية كبيرة، ومئات القواعد الثانوية الأصغر، في 35 بلداً أجنبياً. ومنذ الحرب العالمية الثانية وحتى عشية اندلاع حرب الخليج الثانية، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 200 مليار دولار لتدريب وإعداد وتسليح جيوش أجنبية في أكثر من 80 بلداً، أسفرت عن أكثر من 75 انقلاباً عسكرياً، وعشرات الحروب الأهلية التي تسببت في مئات الآلاف من الضحايا.
وفي غمرة ذلك كله كانت تجري عمليات ‘تصنيع’ العدو وتأثيمه إلى المدى الأقصى الذي يبرّر التدخل العسكري، والغزو، والانقلاب، وإشعال الحروب الأهلية… كانت هذه هي الحال مع بناما، مصر، البيرو، البرتغال، نيكاراغوا، التشيلي، جامايكا، اليونان، الدومينيكان، كوبا، فييتنام، كوريا الشمالية، لبنان، العراق وليبيا… والولايات المتحدة، آنذاك كما اليوم أيضاً، تنفرد وحدها بموقع رائدة ‘العالم الحرّ’ بامتياز، التي تفرض الثقة أو تحجبها، وتوافق أو لا توافق على هذه أو تلك من التعاقدات الدولية، بصرف النظر عمّن يبرمها. لكن أجهزتها الأمنية ـ وتحت ستار ‘الأمن القومي’ الأمريكي دائماً، هذا الذي لا يكفّ أوباما عن التأكيد بأنه لن يتراخى في الدفاع عنه ـ شاركت في إسقاط أنظمة ديمقراطية أو إصلاحية منتخَبة، في عشرات البلدان.
الولايات المتحدة ليست اختزال الأمم المتحدة، بالطبع (وإلا فإن اللعبة سوف لا تنكشف فقط، بل ستفسد قواعدها تمامأ)؛ ولكنها، في المقابل سيدة الساحة، والحَكَم، وأحياناً الخصم والحكم أيضاً. وليست منازعاتها، من حين إلى آخر، مع روسيا أو الصين مثلاً، سوى جوهر الحدّ الأدنى من التوازنات التي توحي باستمرار اللعب بين أطراف أو فرقاء، وليس بين طرف واحد يلعب مع الذات، أو الحلفاء، أو الإمّعات! وخطة أنان في التعامل مع النظام السوري واحدة من خطط، ليس أكثر: تشغل الوقت الضائع، وقد أسمعتْ لو نادتْ حياً!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس