خطة مزدوجة! – *ميشيل كيلو

Article  •  Publié sur Souria Houria le 18 août 2011
يلزم النظام السوري نفسه بخطة من شعبتين غير متساويتين أو متوازنتين ينفذها على جبهتين: شعبة عسكرية غالبة، تشكل قرابة تسعين في المائة من جهوده الرامية إلى دحر التمرد الشعبي العاصف الذي يجتاح البلاد. وشعبة فرعية لها في المعركة الراهنة فعل الدخان الذي يطلقه جيش مهاجم ليحول بين عدوه ومعرفة حجمه واتجاهات هجومه، وهي تعتبر في العلم العسكري جهدا تضليليا غرضه صرف أنظار الخصم عن حقيقة نوايا الصديق.

بكلام آخر: هناك خطة عسكرية، مدروسة ومدبرة حتى تفاصيل التفاصيل، أعدت كما تؤكد قرائن كثيرة منذ أشهر ربما تكون تلت مباشرة قيام الثورة في تونس، تمثل محور الجهد الرئيسي للسلطة القائمة، التي يبدو من قرائن كثيرة أخرى أنها قررت حسم صراعها مع المتظاهرين المحتملين بالقوة وحدها، واعتمدت بالتالي ما نسميه هنا «الحل الأمني»، فلا عجب أنه بدأ منذ الأيام الأولى للمظاهرات التي عاشتها حوران عامة ودرعا خاصة ردا على تصرفات العميد في الأمن السياسي عاطف نجيب، الذي كان قد اعتقل وعذب أطفالهما وأهان شيوخهما، ثم أمر بإطلاق النيران على مواطنيهما، وليست نظرية المؤامرة التي اعتمدتها السلطة غير تبرير سياسي يسوغ هذا الحل، الذي ما كان يجب أن يكون له دور، لو كانت السلطة عازمة بالفعل على تلبية مطالب الشعب وحراكه السلمي، التي أقرت أعلى جهاتها بشرعيتها وأحقيتها.

في ظل الخيار الأمني المقرر سلفا، من المفهوم وغير المقبول طبعا، أن يكون النظام قد استخدم قوة مفرطة منذ لحظات الاحتجاج الأولى، وأنه ما زال يراهن على العنف لحل مشكلة يستحيل حلها بالقوة، تتعلق بمطالبة الشعب بالحرية واحترام حقه في العمل والعدالة والمساواة أمام القانون وفي الواقع، وبمكافحة الفساد ووضع حد لنظام رئاسي وراثي يراد له أن يستمر مدى الحياة… إلخ. إلا أن النظام يسوغ الحل العنيف برؤية مفادها أنه يكافح عصابات إرهابية مسلحة، لا يسمح قتالها بالتنازل أمامها، مهما كان عدد القتلى والجرحى والمختطفين والمعتقلين والملاحقين من الشعب العادي، وكانت هائلة جموع المتظاهرين، علما بأنه لم يقدم بعد أي أدلة مقنعة على صحة ما يقوله حول حشود المسلحين والإرهابيين، التي كان الأمن ينفي نفيا قاطعا إلى الأمس القريب وجودها في سوريا، وهو المشهود له بالقدرة على معرفة كل ما يدور داخلها وإحصاء أنفاس كل فرد فيها، فلا عجب أن يتساءل السوريون باستغراب: إذا كان قادة الأمن قد قصروا كل هذا التقصير في رصد ومتابعة الآلاف المؤلفة من عصابات الإرهاب المسلحة، لماذا إذن تم إيكال مكافحة هؤلاء إليهم، ولماذا لم يحاسبوا على تقصيرهم في حماية الدولة والشعب والنظام!

هذه السياسة الأمنية الصرفة، وهي محور جهد رئيسي يعتمده النظام لمكافحة التمرد واحتجاز أي تغيير في بنيته ومؤسساته، غطتها «تدابير إصلاحية» لم يكن لها أي مردود غير إقناع السوريين بأن الخيار الأمني هو وحده الحل الذي قرره النظام، وأن إصلاحاته غير جدية، وإلا لما كان تبنى قانون أحزاب قدمت مسودته الأولى إلى مجلس الشعب عام 2005، وها هو يصدر اليوم، في عام 2011، كأن شيئا لم يحدث خلال هذه الفترة الطويلة، أو كأن ما كان يصلح لتلك الأيام يصلح الآن أيضا، علما بأن الشعب كان صامتا خائفا آنذاك، ولم يعد كذلك اليوم، حيث ينزل إلى الشوارع مطالبا بحقوقه وفي مقدمها حقه في بناء أحزاب حرة، أي غير تابعة للبعث، وفي أن يقيم نظاما من اختياره يتفق مع إرادته. بدوره، يثبت قانون الانتخاب الجديد أنه لم يكن خطوة إصلاحية، ما دام يعطي 50% على الأقل من مقاعد مجلس الشعب إلى العمال والفلاحين، أي إلى أتباع النظام القائم، كأن الشعب لا يعترض على تركيبته وبنيته أو يقبل أن يتمثل شكليا وصوريا بأقل من نصف النواب.

أخيرا، فإن من شاركوا في صياغة قانون الإعلام من صحافيين وإعلاميين يقولون إن القانون الذي قد يصدر قريبا ليس هو الذي اقترحوه، وأنه حذفت منه فقرات مهمة تقر بحرية الصحافة، وتوصي بإلغاء وزارة الإعلام وتأسيس مجلس أعلى يشرف على شؤونه يتألف من شخصيات مستقلة وقضاة ومثقفين… إلخ.

باختصار: هذه التدابير لا وظيفة لها غير أن تكون وجها «سياسيا» للحل الأمني وأن تحجب بالأحرى حقيقة عدم وجود حل سياسي، لأنه لو كان هذا الحل هدف السلطة، لما قال الرئيس في آخر خطبة له إنه لا يستطيع مواجهة العصابات المسلحة، ولما كان تم استخدام العنف المفرط ضد المدنيين العزل، ولوضع الأمن في خدمة السياسة بدل أن توضع السياسة في خدمة الأمن، ولما صار الحقل السياسي مجرد فرع منه يراد به حجب الحقيقة ونشر الأوهام حول وجود إصلاح سياسي أصيل يطبق في موازاة حل أمني عابر ومؤقت، تمليه المؤامرة الخارجية وامتداداتها الداخلية، وتحتمه حماية المواطنين من المسلحين، حسب أقوال النظام، فهو ليس إذن خياره الحقيقي، كما يزعم المغرضون من المعارضة والشعب!

يتمسك النظام بسياسته حيال الأزمة الراهنة، ويرفض تغيير نظرته إلى ما يجري والتخلي عن أطروحاته حوله، على الرغم من نزول نيف ومليون شخص في مدينتين فقط هما حماه ودير الزور إلى الشارع طيلة أسبوعين، للمطالبة سلميا ومدنيا بالحرية، ودون أن يقع أي حادث يكدر صفو الناس أو يهدد حياة وسلامة وأمن المواطنين. هذا الإصرار على حل أمني دائم بتغطية «إصلاحية» شكلية لا تهدد طابع النظام وإنما تكرسه وترسخه، هو اليوم أخطر جزء في الأزمة التي تعصف بسوريا وتهدد كيانها، ويرجح أن تستمر وتتفاقم ما دام أهل القرار لم يعترفوا بعد بأن معالجتهم للأحداث لم تكن صائبة، ولم يقروا أصلا بأنها نتجت عن أزمة مستعصية، وبأن مطالب الشعب، التي وصفوها ذات مرة بالمشروعة والمحقة (الرئيس في أول خطبة له أمام مجلس الشعب) لا تلبى بالدبابات، بل بحل يقوم على خطة مزدوجة معاكسة: تسعون في المائة منها سياسي يقوم على إصلاح يبدل أبنية النظام، يبطل الحاجة إلى العنف، ويستخدمه بحساب وحذر، فيحاصر المسلحين، إن كانوا موجودين حقا هنا أو هناك، بحرية الشعب وكرامته ووحدته، وفي نهاية الأمر بالشرطة والقضاء!

* كاتب سوري معارض

المصدر: http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=636208&issueno=11950