ربيع العرب وخريف البطريرك – الياس الخوري

Article  •  Publié sur Souria Houria le 4 octobre 2011
استعير عبارة خريف البطريرك من رواية غابرييل غارثيا ماركيز، لا لأتبنى الكناية واكتب عن الديكتاتور العربي في متاهة شيخوخته، بل لأكتب عن بطريرك حقيقي
يطلق لقب البطريرك على الرتبة الأعلى في الكنائس المسيحية الشرقية والغربية. وفي مكانين فقط هما روما، مركز الكنيسة الكاثوليكية، والاسكندرية مركز الكنيسة القبطية الارثوذكسية، يضاف الى لقب البطريرك لقب البابا، دلالة على موقع الأبوة الروحية التي يحتلها الجالس على السدة البطريركية
الموقف الذي اتخذه البطريرك الماروني الجديد في لبنان بشارة الراعي من الثورة السورية، يستحق وقفة خاصة، لما يحمله من دلالات عن موقع المؤسسة الاكليركية في لحظة التحولات الكبرى التي تعيشها المنطقة العربية، منذ انطلاق رياح الثورة التي حملت بشارة الربيع الديمقراطي الذي طال انتظاره
اللافت في خطاب المؤسسة الاكليركية المارونية في لبنان، انها انتقلت من الادعاء بالتبشير بالحرية، على اعتبار ان لبنان هو وطن الأقليات التي لا تستطيع العيش من دون حرية، الى خطاب الذعر الأقلوي
لا نستطيع ان نحمّل مسؤولية هذا الذعر للتطورات التي جرت في العالم العربي منذ سقوط الدولة العثمانية فقط، بل ان المؤسسة المارونية حسمت خيارات التخلي عن خطاب النهضة العربية التنويري الذي لخصه فيصل الأول، ملك سورية، قبل طرده من قبل الفرنسيين الى عرش العراق، بعبارة: ‘الدين لله والوطن للجميع’. اذ نجح المشروع الطائفي المتلاقي مع المصالح الكولونيالية الفرنسية في توسيع متصرفية جبل لبنان لتضم مدن الساحل الكبرى: بيروت وطرابلس وصيدا، اضافة الى الأقضية الاربعة وجبل عامل
الاصرار على استمرار تجربة المتصرفية حمل في داخله وهما وحقيقة، الوهم: هو بناء دولة للمسيحيين هي دولة لبنان الكبير، والحقيقة: تمثلت في نقل جرثومة الحرب الطائفية التي اجتاحت جبل لبنان الى كل لبنان
تأسست دولة طائفية، كانت معرضة بحكم تكوينها للاهتزازات المتتالية، وصولا الى الحرب الأهلية الكبرى 1975- 1990، التي اطاحت بالغلبة المارونية على السلطة، وافقدت لبنان استقلاله الشكلي.
كان المتفائلون والعقلانيون اللبنانيون يعتقدون ان دروس الحرب الباهظة سوف تكشف للبنانيين عبث البنى الطائفية المتحكمة بهم، لكن الهيمنة السورية المديدة على لبنان زادت من الاستقطابات الطائفية، التي لم تستطع انتفاضة الاستقلال 2005 ومقاومة الاجتياح الاسرائيلي 2006، المس بها، ان لم تكن قد زادت في تأجيجها
كانت هذه المقدمة ضرورية كي نفهم ماذا يريد البطريرك الماروني الجديد، وما هي المغامرة التي يقود نفسه ومؤسسته اليها
لا بد من الاشارة هنا الى ان المارونية السياسية اللبنانية في محاولاتها المستميتة للدفاع عن امتيازتها، قامت بمقامرتين، لم تكن المؤسسة الكنسية بعيدة عنهما للأسف، رغم ان القيادة كانت معقودة انذاك للرهبانيات وليس للبطريرك: الاولى تغطية الاجتياح العسكري السوري المدرع للبنان عام 1976، والثانية التحالف مع الاحتلال الاسرائيلي للبنان 1982. وفي الحالين كان الاتكال على الخارج كارثة، انتهت الى هزيمة كبرى
ورث البطريرك الراعي انقساما في المؤسسة السياسية المسيحية بين تيارين:
الاول يقوده الجنرال عون ويدعو الى التحالف مع الشيعية السياسية، ضمن ترسيمة تحالف الأقليات في مواجهة الأكثرية السنية في بلاد الشام والعالم العربي
والثاني يقوده سمير جعجع وامين الجميل يدعو الى التحالف مع السنية السياسية في مواجهة خطر تمدد السلاح الشيعي
التيار الأول صار حليفا للنظام السوري، رغم عدائه المديد له. والتيار الثاني صار حليفا للنظام السعودي، رغم خطابه الطائفي المعلن
التياران صارا بلا مبرر وجود على المستوى التاريخي، الأول يخون ‘قدسية استقلال لبنان’ عبر تحالفه الأقليمي الذي لا مكان فيه لهذا الاستقلال، والثاني يخون منطلقاته الايديولوجية وعصبيته الطائفية
الراعي ورث مأزقا، وورث المؤسسة الطائفية الأم، التي تفرعت منها وقلدتها جميع المؤسسات الطائفية الأخرى. وبدلا من ان يستدير بشكل كامل ويعود الى منطلقات عصر النهضة، محررا طائفته المنكوبة بقياداتها من اسار البنى الطائفية، اعتقد ان هناك كرسيا فارغا لزعيم جديد للطائفة، وانه يستطيع ان يملأ هذا الكرسي بخطاب الرعب والخوف والتخويف، الذي قاده الى احضان السفير السوري في لبنان علي عبدالكريم، والى تشكيكية ممجوجة بالشعب السوري، والى لامبالاة تثير الريبة بآلام شعب يقوم النظام بقتله وتعذيبه، لأنه يطالب بحريته
خطاب الخوف ناجم عن افتراض أن الثورات العربية سوف تقود الى وصول الاسلاميين الى السلطة، وعندها سوف تلاقي الأقلية المسيحية في سورية المصير نفسه للأقلية المسيحية في العراق
كيف نناقش بطريرك الخريف ونحن امام احتمالات الربيع؟
النقاش مع البطريرك ومع مؤسسته بلا جدوى، فالبنى الطائفية لا تصلح أساسا للحياة السياسية. شرط استقامة السياسة هو تجاوز هذه المؤسسات بكل ما يتفرع عنها
لكن الخطر في الخطاب البطريركي الخريفي، ليس انعكاسه على الحياة السياسية اللبنانية المصابة بالعقم، بل اثره المدمر في المحيط. كأنه يحاول ان ينشر تجربة المتصرفية المقيتة في بلاد الشام كلها، خالقا جوا من الريبة حاول النظام الاستبدادي في سورية تعميمه كي يجعل من الاقليات العلوية والمسيحية والدرزية دروعا بشرية تحمي المافيا الحاكمة
البطريرك في خريفه يرتكب الخطأ الذي يمليه عليه هذا الخريف، ويأخذه الى الخطأ الأكبر الذي ترتكبه المؤسسة الطائفية، خطأ استعداء الشعب والتعالي عليه والافتراض المحزن والمخجل ان شرط حرية الاقليات هو سحق الأكثرية ووضعها في اقفاص الاستبداد
والمؤسف هو بروز اصوات بعض الأساقفة ورجال الدين المسيحيين في سورية، التي تصب في المجرى نفسه، الى درجة يصبح من الصعب معها التمييز بينها وبين اصوات ضباط المخابرات
الخريف الخائف لن يستطيع حجب شمس ربيع العرب، هذا هو الرهان والأمل. كما ان لاهوت الخوف لن ينجح في تحويل مسيحيي سورية الى وقود وغطاء للنظام. فالمسيحيون العرب من امرئ القيس الى ابي تمام ومن اليازجيين الى البساتنة، ومن قسطنطين زريق الى جورج حبش، ناضلت اغلبيتهم الساحقة من اجل المواطنة والحرية والعلمنة والدولة المدنية التي يتساوى فيه الجميع، ورفعت راية الانتماء الوطني والقومي من اجل تحرير ديار العرب من الاحتلال والاستبداد
انه خريف البطريرك وليس خريف الشعوب العربية، وعلى ابناء الخريف ان يتوقفوا عن ارتكاب الخطايا والاخطاء ويتعلموا قليلا من الشعب السوري الذي يحوّل ألمه الى بطولة يومية لا مثيل لها في تاريخ ثورات الشعوب
القدس العربي – 2011-10-03