رصاص لبناني احتفالاً به – حازم الامين

Article  •  Publié sur Souria Houria le 10 juin 2014

 كانت ليلة قبيحة فعلاً، وكانت الضغينة مستيقظة، والرغبة بالثأر مشتعلة. فليس في لبنان من يساوره شك في أن ما جرى لم يكن انتخابات. المحتفلون على رأس هؤلاء، وهم ما إن تقترب منهم حتى يُخبروك أن المسألة لم تنطلِ عليهم. وهم أيضاً يعرفون أننا حين نشاهدهم محتفلين ببشار الأسد، نكون مدركين أن ما يرقصون من أجله ليس ما كشفته صناديق الاقتراع، إنما هي مجرد فرصة للرقص ولتتكشف الصدور عن كراهية غير مسبوقة لمواطنين مثلهم، يعيشون في المبنى المجاور تماماً.

 كيف يمكن المرء أن يرقص لـ «فوز» بشار الأسد في الانتخابات؟ أي شقاق في النفس يُكابده المقدم على هذه الفعلة؟ يمكن المرء أن يفهم أن تُقاتل أحزاب مع بشار، فهذه مصالح ومذاهب وحروب، ولكن أن يحتفل المرء بما يُغضب الآخرين ولو أدى ذلك إلى دفعه ثمناً أخلاقياً، ففي ذلك إخراج للنفس من شرطها الإنساني. إنه الانقسام المذهبي وقد وصل صدعُه إلى مكان في الوجدان لا يمكن رأبه بغير الجراحة.

 المشهد في بيروت عشية إعلان نتائج «الانتخابات» السورية كان على النحو التالي: لبنانيون يعرفون حقّ المعرفة أن ما جرى لم يكن انتخابات، وعلى رغم ذلك قرروا أن يحتفلوا بنتائجها. أسباب الاحتفال إذاً لم تكن النتائج إنما تحدي مشاعر آخرين. إنه شعور غامض بالضغينة لا تفسّره السياسة. ذاك الرجل الذي ظهر في الشريط يُطلق رصاصاً باتجاه قصر بعبدا وينطق بعبارات الضغينة، ليس جزءاً من مشهد سياسي. هو جزء من شقاء نفسي جماعي، ومن فصام أعمق من الانقسام اللبناني الظاهر. فمن المفترض أن يكون الرجل في حسبة الانقسام مناصراً لـ «حزب الله»، والأخير أيضاً من المفترض أن يكون في سياق تسجيل مزيد من الانتصارات! وفي وعي هذا الجمهور حقائق أن «حزب الله» انتصر على اسرائيل وينتصر على سورية، بل إن جمهور «حزب الله» يعتقد اليوم بأن سورية بنظامها وجيشها ومُدنها صارت في قبضته. اذاً ما جوهر هذه الحاجة الى الانتقام؟ المهزوم هو مَنْ يشعر بهذه الحاجة وليس المنتصر! فهل ثمة هزيمة داخلية غير تلك التي يُفصح عنها الحزب لـ «شعبه» ولنا؟

 علينا فعلاً أن نبحث عن هذه الحاجة للثأر، وأن نتقصى موضوعها. فمُطلق الرصاص، رمزياً، على قصر بعبدا، يعتقد بأن الحزب انتصر على الرئيس، وهو على الأرجح محقّ في اعتقاده، ذاك أن الحزب بقي فيما الرئيس غادر. إذاً أيّ حاجة يُشبعها في إطلاقه أكثر من 500 رصاصة باتجاه قصر بعبدا، أو باتجاه الطريق الجديدة؟ لا شك في أن هزيمة غامضة يشعر بها تدفعه إلى فعل ما يفعله. المُحتفلون بفوز بشار الأسد في «الانتخابات» أيضاً يصدرون عن شقاق مشابه. ثمة هزيمة أصابتهم، وها هم يُشهرونها نصراً في وجه مهزومين مثلهم.

 ثمة قاعدة أرساها «حزب الله» منذ سنوات في لبنان. أساس نفسي تمّت مراكمته على مدى سنوات من «الانتصارات». إنها علاقة مع الآخرين لا تستقيم من دون انتصارات. فـ «حزب الله» لا يمكن أن يكون حزباً من دون انتصارات. على هذا الأساس يُشارك في الحكومات، وعلى هذا الأساس أيضاً يترشح للانتخابات، وعلى هذا الأساس يُقيم أفراده ومسؤولوه علاقاتهم العامة والخاصة. لا يمكن أن تُصادف رجلاً في الحزب من دون أن تتخيّل أن في حوزته حزمة انتصارات، يخرجها من جيبه ويضعها أمامك على الطاولة فتبدآن الحديث انطلاقاً من هذه الحقيقة.

  لأرجح أن الحزب لا يُريد تظهير «انتصاراته» في سورية على هذا النحو، فهو يدفن قتلاه هناك بصمت، ولا يُفصح عن «بطولات» في المعارك على نحو ما يفعل في معاركه الأخرى. لكن الحزب أُسقط في يده، فانتقلت الحاجة إلى الانتصارات إلى بيئته وصارت لغة المخاطبة الوحيدة التي يجيدها هؤلاء. لكن «السيندروم» تطور لاحقاً عندما اهتزّ بفعل اهتزاز النظام في سورية، وهو ما أدى الى استجابات عنيفة لأي انتصار وهمي.

 يُدرك مطلقو الرصاص ابتهاجاً بـ «فوز» بشار الأسد أن ما شهدوه ليس فوزاً في انتخابات، ولكن لشدة ما أعيتهم متلازمة النصر صاروا أسرى اشتغالها في وجدانهم. صار ما جرى فعلاً انتصاراً، ولكي يصير كذلك، كان لا بد من صقله بالرصاص، ولا بد من بعث الآخرين على الانفعال والكراهية. فلكي يتحقق فوز كاذب في وجدان فصاميّ، لا بد من شحنات سلبية تأتي من خارجه فتُستدخل في النفوس ويحصل الصدام وينتصر بشار. فقد كابد هذا الوجدان طوال السنوات الثلاث الفائتة، وهي سنوات دخول النظام السوري في محنته الكبرى، صدمات قاتلة وشعوراً صامتاً بالهزيمة، وأصيب بانعدام في التوازن لا يمكن إلا أن يُنتج هذا النوع من ردود الفعل.

هذا تماماً ما جرى لذلك الشاب الذي كان يُطلق الرصاص، رمزياً، باتجاه قصر بعبدا حين غادره الرئيس الذي لا يُحبه «حزب الله». ففي الوعي الشقيّ لهؤلاء الفتية يقين بأن الرئيس كما كل رئيس يخاف من الحزب، وهو بقي كذلك إلى أن قال ميشال سليمان عبارته الشهيرة عن «اللغة الخشبية للمقاومة». «حزب الله» يمكن أن يستوعب بجسمه التنظيمي والسياسي ارتدادات هذه الصفعة الرئاسية وأن يبني على الشيء مقتضاه. لكن فتية أسطح المباني لا يملكون مما يرأب الصدع الداخلي سوى الرصاص.

 إذاً لنطلقْ الرصاص باتجاه قصر بعبدا بعدما فرغ من شاغله. لنطلقْ الرصاص ابتهاجاً ببشار الأسد. ولتنبعثْ الكراهية من كل اتجاه.