سوريا الخارج والداخل

Article  •  Publié sur Souria Houria le 28 avril 2011

ربما يكون نزيف سوريا بسبب هجرة عقولها فى الخمسة عقود الأخيرة من أعلى النسب فى العالم العربى، ليس من حيث الأعداد وإنما من حيث النوعية وهى من أخطر ظواهر الاستبداد الذى يمسك بالمجتمع من خوانيقه.
فهناك على سبيل المثال خمسة آلاف طبيب سورى يعملون فى فرنسا وحدها، وما لا يقل عن خمسة عشر ألفا فى الولايات المتحدة، بينما قطاع الصحة فى سوريا متدنٍ وأى مريض يستطيع السفر من أجل العلاج فى الخارج لا يتردّد فى القيام بذلك.
الجامعات الأمريكية والأوروبية تعج بأساتذة سوريين من المستوى الرفيع فى كل الميادين، بينما لم يبق فى الجامعات السورية أساتذة علوم وعلوم اجتماعية لأن انعدام النشاط الفكرى والبيئة العلمية يولدان الإحباط وموت العقل.

يروى بعض المهندسين المتخرجين فى جامعة دمشق أنه على مدى عشرين سنة تقريبا كان طلاب قسم الهندسة الذين يحصلون على شهاداتهم يخرجون إلى سوق العمل وهم عاجزون عن وضع مخطط أو تصميم مشروع، وأن هذا الوضع البائس قد تحسن بعض الشىء فى السنوات الأخيرة نتيجة وجود الإنترنت وتوافر برامج تعليمية متخصصة على الشبكة يلجأ إليها الطلاب لكى يتعلموا مبادئ الهندسة.
هذه جامعة دمشق التى كان يأتيها طلاب من جميع أنحاء المشرق والمغرب ليدرسوا فيها وينالوا شهادة منها.

فى إمارة دبى على سبيل المثال، السوريون منتشرون فى كل القطاعات المهنية وخاصة فى قطاع الأعمال على أعلى مستوى فهم يملأون مناصب مديرى شركات وبنوك ومصالح كبرى. الحديث معهم محبط.
هكذا دار النقاش مع مجموعة منهم: أمام الغليان القائم فى كل أنحاء البلاد يقولون إن عدد المتظاهرين قليل جدا وهذا دليل على عدم وجود بوادر الثورة التى يتكلمون عنها، هناك عناصر مجهولة تثير الفوضى وأخبار عن اكتشاف ترسانات من الأسلحة المهرّبة مودوعة فى الجوامع.

ويبدو أن الشيوخ الذين أصدروا بيانا لدعم المتظاهرين قد تراجعوا عن تصريحاتهم واعتذروا. كل هذه مشاغبات سوف تسيطر عليها السلطات وها هو بشار قد أعلن عن إصلاحات ستلغى كل مبررات الاحتجاج.
اصبروا قليلا. نقاش عقيم لم ينتج عنه أن غيّر أى منا وجهة نظره من الأحداث الجارية فى وطننا. فكل منا يستمع إلى المصادر الإعلامية التى تؤكد وجهة نظره.
ثم انتقل النقاش من الجدل حول مصادر الإعلام وحرب الأخبار المتناقضة إلى طرح أمر وجدنا أننا متفقون فيه على التشخيص لأزمة سوريا العميقة.
لماذا كل الحاضرين وهم حاملو شهادات من أعرق الجامعات فى العالم موجودون فى دبى؟ لماذا لا يفكرون أبدا فى العودة إلى البلد؟ وإذا كانت الثروة النفطية جذبتهم إلى الخليج، لماذا لا يستثمر أحد منهم فى سوريا، فيقيم مشروعا أو يضع مالا فى مشاريع قائمة؟ صحيح أن كل واحد منهم له بيت فخم فى سوريا يقضى فيه مع عائلته إجازاتهم السنوية، ولكن من فيهم مستعد اليوم أن يضع جزءا ولو بسيطا من ماله فى الاقتصاد السورى؟ يجيب أحد الحاضرين أن عائلته اضطرت إلى إغلاق عدة مصانع نسيج لأن الحكومة سمحت لشركات تركية أن تقيم مصانع منافسة لها بالقرب منه، ويقول الآخرون إنهم لا يرون أى قوانين تحمى أموالهم، فإن اليد العملاقة للسلطة ممكن أن تنهال على أى جهة تختارها دون إمكانية للمواطن أن يشكو من المفترين. بالنسبة لهؤلاء أصبحت سوريا مجرّد مصيف، البلد الذى يحنّون إليه ويحلو لهم الاسترخاء فيه وقضاء إجازات للاستراحة دون أن يتدخّلوا فى الشأن العام لا السياسى ولا الاقتصادى.

أما حياتهم المهنية وقدرتهم على الإنتاج وسنين العمل المثمر يقضونها فى الخارج وتبقى سوريا محرومة من قدرات هائلة من أبناء شعبها.
هؤلاء بعيدون عن المعاناة اليومية التى يعيشها المواطن السورى، الذى يضطر إلى التعامل مع منظومة الأمن وأساليبها المهينة، فربما يفسّر ذلك عدم تقديرهم لغضب الشعب.
هؤلاء يسكنهم خوف دائم طالما استمر الوضع على ما هو عليه، وخوف من المجهول إذا تغيّر الوضع. الكلام فى السياسة فى سوريا معيب والتدخل فى الشأن العام جريمة، عقابها مرير لا يستحق المخاطرة.

يكفى أن ننظر إلى المعارضين السياسيين فى الداخل فهم يألفون السجون والتعذيب، محرومون من جواز سفر، يخضعون للرقابة الدائمة لدرجة أن يخشى آخرون مجرّد الاتصال بهم.
وعندما يكون الأمل بالتغيير معدوما تصبح معارضة النظام شأنا عبثيا. هذا هو المنطق السائد عند سوريى الخارج.

ومن المعروف أن السوريين الذين يعيشون فى الخليج هم أولاد طبقة تجار المدن السورية الكبرى، الذين خسروا ممتلكاتهم فى بداية الستينيات ثم قبل بعضهم بالصفقة التى عرضها عليهم حافظ الأسد فى بداية حكمه لكى يتمكن من السيطرة على البلد والمجتمع.

هذه الصفقة التى تقضى بالسماح لتجار المدن بالاستمرار فى إدارة أعمالهم مقابل ابتعادهم عن الشأن السياسى. ابتعدوا فعلاً عن السياسة لكنهم اضطرّوا للقبول بالانصياع شبه الكامل لشروط العمل المفروضة عليهم، فلا مجال مثلاً لأى صاحب مشروع ذى حجم معيّن ان يتجنّب الشراكة المفروضة عليه مع أحد أعضاء النظام، أو أن يدفع رشوة لمسئول فى الحكومة أو المحافظة أو الجمرك، وإذا رفض ذلك تُلفّق له تهمة تعطّل عمله، وإذا حاول اللجوء إلى القضاء وجد المحامون ينصحونه بعدم إضاعة جهده ووقته وبدفع الرشوة المطلوبة.

البلطجة منظومة متكاملة ولا تقتصر على مجموعة من قطّاعى الطرق يرسلهم النظام لمواجهة المتظاهرين.

لقد اعتاد السورى ذو الكفاءة العالية واليائس من مستقبل بلده على اتباع استراتيجية فردية لبناء مستقبله ومستقبل عائلته، فهو يسعى إلى وظيفة محترمة فى بلد المهجر الذى يعيش فيه، تضمن له دخلاً يسمح له بتعليم أولاده على أحسن مستوى ممكن وإتقانهم اللغات الأجنيبة التى تؤهّلهم للعمل فى أى بلد فى العالم، أى بلد وارد ما عدا وطنهم.

لقد ثار الشباب السورى وبفضل شجاعته انفتحت أبواب سوريا من جديد أمام كل هؤلاء الذين كانوا قد أخرجوها من استراتيجيتهم. فنحن مدينون لهم بأنهم أعادوا إلينا تطلّعنا إلى ممارسة مواطنتنا المفقودة.

لذلك أصبح من الممكن لكل سورى فى المهجر أن ينظر إلى وطنه الأم بأنه مقبل على التحرّر من قبضة الأمنقراطية القائمة التى استولت على البلاد ومواردها وأساءت إدارتها ثم انقلبت ضد الشعب عندما قرّر ان يسائلها.

الخوف زال عند الشباب داخل البلد وها هم يعرّضون أنفسهم للموت فهل يعقل أن يستمر السوريون فى الخارج بالخوف من المجهول بينما هم قادرون على المشاركة الآن فى صنع مستقبل مختلف لسوريا عن ذلك المرسوم لها فى غيابهم؟

Sources : http://www.shorouknews.com
Bassma Kodmani | 27.04.11 | 10h00 
http://www.shorouknews.com/Columns/Column.aspx?id=441406