سورية ستبقى عمق فلسطين وستبقى فلسطين سورية الجنوبية: على القوى الديمقراطية ان لا تسكر بوعود الغرب – سمير التقي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 10 décembre 2011
في غابر الزمان كان من الممكن ان تكون مستبداً وأن تدعي الوطنية. في عصور الاقطاع السياسي تعايش الاستبداد والمصالح العليا للدولة. شرعية المستبد كانت شيئا آخر. فإما أنها ولاية سماوية، أو مهمات كونية خارج الحدود، يشتق منها المستبد شرعية استبداده. مع الربيع العربي يغبر هذا الزمان متأخراً جداً عن وطننا، لتستتب أسس مغايرة للشرعية والوطنية. فما عاد من الممكن ان تكون وطنياً وان تزدري شعبك وتستبد به. لقد نضج المجتمع اكثر. نضجت الدولة اكثر، ونضج الانتماء اكثر. صار ‘الشعب يريد اسقاط النظام’ وهذا ما لم يفهمه لا صلف جمال مبارك ولا سيف الاسلام ولا رامي مخلوف حين قال ان امن اسرائيل من امن سورية
وامام هذه اللحظة التاريخية، تلوح جملة انحرافات وشيكة على مسار الحركة التحريرية الديمقراطية في المنطقة العربية ككل. إذ تنمو مواقف تحاول وضع سد بين القضية الديمقراطية والقضية الوطنية. فإما ان تؤيد المستبد ليختطف القضية الوطنية، أو ان تروج لديمقراطية كوسموبوليتية عدمية هي نقيض للهوية والانتماء الوطني. وللأسف، تصطف بعض القوى الوطنية والقومية العربية في الجهة الأولى، وبكل الأسف تنزلق بعض الشخصيات السورية المغتربة للموقف الثاني.
إذ يُخَيّرنا النظام الاستبدادي من جهته بين وطنية ومقاومة يدعيها، وبين ديمقراطية مصطنعة ذليلة تابعة حيث يبيع خصومه القضية الوطنية، ليفتحوا كما يدعي ‘سفارة لإسرائيل في دمشق’. ومن هذا المنطق يطلب منا القبول ان يستمر الاستبداد مختطفاً القضية الوطنية، فإما هو او الطوفان
وتطلع علينا من جهة أخرى بعض فصائل القوى الوطنية في المنطقة لتضع نفسها في مواجهة قوى الربيع العربي وخاصة حينما تطال المسألة القضية السورية بحيث يجب توقف الزمان حتى يحل التناقض وننتصر في الصراع مع اسرائيل ومع الغرب ومع الشرق وبعدها يمكن ان نفكر في الديمقراطية.
ومن جهة ثالثة، وفي خضم هذا السجال، يطلع علينا بعض السياسيين السوريين المغتربين لينبئونا أن علينا أن نبني كل رهاننا على نوايا الولايات المتحدة والغرب لتحقيق العدالة والسلام مع اسرائيل وفي المنطقة. وهكذا وعند اول منعطف وكمن ينزلق بأول قشرة موز، تطفو الطفولة السياسية على المشهد السوري
فلنحاول وضع القضية على رأسها امام هذه الشقلبات
في اللحظات التأسيسية الأولى لسورية العربية كان الاحتلال الفرنسي يسعى لتقسيم سورية إلى اربع دول واستمر خطر التقسيم الطائفي إلى ان وقف كل السياسيين الوطنيين من كل الفئات من اكراد وعرب من سنة وشيعة ودروز وعلويين ومسيحيين، نعم كل الطوائف، وعلى رأسهم فارس الخوري، وقفت لترفع راية الانتماء للعروبة في وجه المشروع الاستعماري، ولولا وعي الوطنيين السوريين الأوائل لكنا دولاً تغرق في حماقة الصراع الطائفي والتبعية.
وبعد، فلقد وهبت سورية العربية خيرة ابطال استقلالها لقضية فلسطين. ووهبت خيرة ابنائها في المعارك الوطنية لقضية الاستقلال والحرية والسيادة والقضية الفلسطينية وسيبقى الشعب السوري يجل كل قطرة من دماء ابطال النضال الوطني. ورغما عن كل الألاعيب ومخاتلات الحكام وقصور رؤيتهم وقصور عقلهم او حتى تواطؤ بعضهم، حكمت القضية الوطنية والقومية اولويات الشعب السوري بكل اطيافه. تلك هي الروح الوطنية العالية التي اسست لقيم الشعب السوري والجيش السوري. ولئن حصل انحراف في لحظات ما، فان ذلك لا يمس في شيء جوهر روح الشعب والجيش. وها قد مضى اكثر من ستين عاما على الصراع العربي الاسرائيلي. والعرب من تقهقر إلى تقهقر، ورغم انه امكن تعديل موازين القوى وانقضى أي حلم عملي لإسرائيل في التوسع، واصبحت متخمة تغص بما ابتلعت من اراضي 1967، فلا هي بقادرة على هضمها ولا على ردها، فان الهيمنة الغربية وانكشاف المنطقة العربية على القوى الطامعة يميناً ويساراً دولية بل واقليمية الأمر الذي اصبح محل تندر في العالم بأسره
وفي حين اصبح من الممكن القول ان حرب 1967 كانت آخر حروب اسرائيل الناجحة. من المؤكد أن كل ما تحقق بعد ذلك من انجازات كان الفضل فيه للحركات الشعبية لا بفضل النظام الرسمي العربي المستبد الفاسد. بل اصبح جلياً أن هزائم النظام الرسمي العربي هي هزائم الاستبداد والفساد والفشل التنموي. وما لم تمتلك الأمة العربية الشرط التاريخي الذي انتج تفوق عدوها، فانها لن تستطيع الانتصار. عدونا لم يتفوق علينا بالمال الأمريكي وحده، فلقد انعم علينا ما شاء الله بالكثير من رزقه
عوّدَتنا ديمقراطيات الغرب كل الوحشية والاجرام خارج بلادها، لكن ديمقراطية الغرب سمحت له ببناء مجتمع قوي واقتصاد قوي وإعلام قوي، انهارت تحت حرابه جدران برلين دون طلقة واحدة. هذا سر قوتهم وتفوقهم. بالرغم من ان اجهزة الاستخبارات الغربية عملت كل ما هو ممكن لهدم ذاك الجدار، لكن من الواضــــح ان حجم الظلم والاستبداد والتعسف والفشل التنموي كان هو الأساس الأول والأخير للتغيير. فرغم كل التلوث الاخلاقي والمظالم في المجتمعات الغربية، فان لديهم مجتمعا صحيا اكثر، ومواطنة اكثر عدالة اكبر ومشاركة اكبر
الديمقراطية هي الشرط التاريخي لنهوضنا الوطني والقومي. لا يعني هذا على الاطلاق تناقض القضيتين، ولا يعني على الاطلاق ان الغرب او الشرق او إسرائيل قد صاروا حملاناً ولا أصبحوا الأم تيريزا. بل إن المواطنة والمدنية، الديمقراطية، المجتمع المدني، والمساواة، كلها تُشتق مغزاها من الانتماء للوطن والانتماء القومي. الوطنية هي ام الانتماءات وأسها الأول، وأي وهم حول نوايا القوى الغربية وغيرها من قوى الهيمنة الاقليمية لا ينتقص من الوطنية فحسب بل ينتقص من المواطنة والديمقراطية. والا فلننظر كيف مسخ التفكك الوطني في العراق ولبنان روح الديمقراطية والمواطنة. لا ديمقراطية دون اعلى درجات الوطنية. (ولا اقبل ولا اعني بالطبع أي درجة من درجات التعصب القومي)
ثمة مساران محتملان للربيع العربي. مسار اول يجمع الوطني مع الديمقراطي بشكل متلازم وعميق. ومسار عدمي يمسخ الديمقراطية ويسحب روحها الوطنية والقومية ليولد دولاً مملوكية وكانتونات وعصبيات قبلية وطائفية على نمط اسرائيل. لا ينبغي ان تسكر القوى الديمقراطية المدنية بسراب وعود الغرب. فلو تخلى اليساريون والليبراليون عن رؤيتهم الوطنية والقومية، فان الشعب سيتخلى عنهم وسيختار فقط تلك القوى التي تتمسك بالروح الوطنية وتنادي بالديمقراطية حتى ولو ادى ذلك إلى وصول السلفيين إلى السلطة. فمن يغادر القضية الوطنية يغادر الوطن ولا مجال هنا لحسن النوايا. وكما ان دم شهداء ربيع الثورة السورية لا يصير ماءً، فدم ابطال فتح وحماس والجيش العربي السوري وكل الوطنيين الأحرار على ربى الجولان وفلسطين لا يصير ماءً اولاً وأخيراً. وإلا فإننا لا نفهم شيئا من روح الشعب السوري. واسألوا شبابنا في الداخل عن ذلك. كل معطيات التاريخ منذ اربعة آلاف عام حتى حاضرنا إلى أن سورية ستبقى عمق فلسطين وستبقى فلسطين سورية الجنوبية

كاتب سوري يقيم في الامارات

القدس العربي – 2011-12-09