سورية: طائفة تتململ.. وجيش يرتبك.. وحرس قديم يستفيق! – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 12 août 2011
تعود الحكاية إلى خريف العام 2003، حين وُضعت على مكتب بشار الأسد مذكرة أعدّها جهاز أمن الرئاسة الخاصّ، الذي تشمل صلاحياته الإستخبارية كلّ، وأيّ، الميادين في معمار السلطة، سواء على صعيد الآلة موحّدة أم الأفراد منفصلين. كانت المذكّرة توجز سلوك محافظ (ضابط متقاعد، عمل سنوات طويلة محافظاً لواحدة من كبريات المحافظات السورية، ولسنا نعفّ عن ذكر اسمه هنا إلا لأسباب قانونية صرفة)؛ وكيف أنه جمع من الرشاوى والعمولات ما بلغ رقماً فلكياً (وهنا أيضاً، نترك لمخيّلة القارىء أن تحلّق عالياً عالياً في تحديد الرقم). لقد فاحت رائحته أكثر مما ينبغي، قالت المذكرة، وأخذ المواطنون يجأرون بما هو أكثر من الشكوى والدعاء الى الله، اذْ باتت جيوبهم عاجزة عن سداد ‘المكوس’ التي يفرضها سيادة المحافظ
أما العنصر الأهم، وهو الذي طرأ فجعل جهاز أمن الرئاسة يتدخل ويسطّر تلك المذكرة، فهو أنّ السيد
المحافظ ذهب أبعد ممّا هو مسموح به في علاقاته مع الجهات التعاقدية خارج القطر، وباتت صلاته بالدول والحكومات، قبل الشركات، تهدد أمن الدولة بالخطر. إلا أنّ المذكرة لم تذهب بعيداً، في المقابل، فتطلب إحالة المحافظ إلى القضاء ـ لا سمح الله! ـ بل إحالته إلى التقاعد ليس أكثر، خصوصاً وأنه قارب السبعين. تقول الحكاية إن الأسد ـ وكان، آنذاك، ما يزال محطّ آمال الكثيرين، حتى في أوساط المعارضة، بوصفه ‘الشابّ’، و’المعلوماتي’ و’العصري’ ـ ردّ بما يفيد أنّ هذا المحافظ بالذات هو جزء من ‘أمانة الوالد’، وبالتالي لن يخون الفتى أمانة أبيه أياً كانت الحال. وفي توضيح معنى ‘الأمانة’ هنا، نذكّر بأن المحافظ وقف الى جانب الأسد الأب حين قاد ‘الحركة التصحيحية’ سنة 1970، وأنه (أي الضابط، حينذاك) تخلى عن أهله وعشيرته وأبناء
ضيعته من جماعة صلاح جديد، والتحق بصفوف الأسد
نستعيد هذه الحكاية بمناسبة التئام شمل عشرات من رفاق هذا المحافظ، سبق لهم أن شغلوا مناصب مختلفة في السلطة، الحكومية أو الحزبية، تراوحت بين عضو قيادة قطرية لحزب البعث، أو أمين فرع للحزب، أو وزير، أو معاون وزير، أو محافظ. محمد سلمان، وزير الإعلام طيلة سنوات من عهد الأسد الأب، عقد مؤتمراً صحافياً (في بيته!)، أعلن خلاله إطلاق ما أسماه ‘المبادرة الوطنية الديمقراطية’، بالنظر إلى أنّ ‘البلد يمرّ بأزمة وطنية، ويجب على المواطنين المخلصين أن يبادروا لإنقاذ الوطن من أزمته’، مؤكدا على ‘ضرورة أن يبذل الجميع، معارضة وسلطة، الجهود للحيلولة دون وقوع أمرين خطيرين على حاضر الوطن ومستقبله، وهما الحرب الأهلية والإقتتال الطائفي من جهة، والتدخل الأجنبي عموماً من جهة أخرى’. طريف، إلى هذا، أنّ سلمان ربط المبادرة بالأسد شخصياً، داعياً إياه إلى ‘تولي زمام المبادرة’، آملاً في أن يترأس مؤتمراً وطنياً ‘يضع الحلول الناجعة للخروج من الأزمة الراهنة’؛ وكأنه يقول، إذْ يذرّ الرماد في العيون على النحو الأقلّ احتراماً للعقول، إنّ الزمام لم يكن في يد الأسد منذ 11 سنة. كأنه، أيضاً، ينفي عن الأسد صفة رأس الحلّ الأمني، والآمر الفعلي خلف كلّ ألوان السلوك الوحشي في قمع الإنتفاضة؛ منذ اليوم الأوّل، حين أجاز ابن عمّته عاطف نجيب استخدام الذخيرة الحيّة ضدّ أبناء درعا، وحتى اليوم حين يأمر شقيقه ماهر الأسد بقصف مئذنة مسجد عثمان بن عفان في دير الزور
ليس أقلّ طرافة، من جانب آخر، أنّ سلمان انتقد القيادة القطرية لحزب البعث، ليس لأنها سارت وتسير خلف ضابط الأمن، بحيث صار فرع الحزب محض شعبة ملحقة بفرع الأمن؛ أو لأنّ أمثال محمد سعيد بخيتان، الأمين القطري المساعد والرئيس السابق لمكتب الأمن القومي، وهشام بختيار، رئيس المكتب الراهن (بعد أن ‘أصلحه’ الأسد، فأسماه: مكتب الأمن الوطني!) أتوا أساساً من الأجهزة الأمنية. جوهر نقد سلمان مصدره أنّ قيادة البعث الحالية ‘سارت على سياسة الإقصاء لمعظم المسؤولين الذين كانوا في الحزب والدولة، وهؤلاء المسؤولون لا يستطيعون أن يقفوا متفرجين’! كأنه يجهل الجهة التي كانت وراء سياسة الإقصاء تلك، أو كأنّ الأسد الابن لم يكن صاحب القرار الأوّل في تلك السياسة، أو ـ وهنا وجه آخر للطرافة ـ كأنّ عضوية القيادة القطرية ينبغي أن تكون مدى الحياة، على غرار الرئاسة الأسدية
لم يكن طريفاً، مع ذلك، أن يصرّح سلمان بأنه ‘لا تستطيع طائفة لوحدها أن تفكر بحكم سورية لوحدها’، دون الذهاب خطوة إضافية في إيضاح الإشكالية الرديفة التالية: لا تستطيع، بالفعل؛ ولكن هل اشتغلت منظومة أمنية ـ عسكرية ـ استثمارية تضمّ كلّ الطوائف، مثل هذه التي جرى توريثها للأسد الابن من الأسد الأب، على استدراج أبناء طائفة واحدة إلى هذا الوهم؟ وهل جرى منح بعض أبناء هذه الطائفة امتيازات، في الأجهزة الأمنية والجيش والمناصب، فضلاً عن شتى ميادين النهب والفساد والإثراء الفاحش، بحيث يلوح الوهم حقيقة فعلية على الأرض، ويصبح مصير الطائفة مرتبطاً وجودياً بمصير النظام؟ وإذا كانت هذه، بالضبط، حال الأسرة الأسدية، ومن خلفها آل مخلوف وآل شاليش، تجاه شرائح واسعة من أبناء الطائفة العلوية، فأيّ زمام سوف يوضع في يد الأسد، اليوم مثلما الأمس في الواقع؟
وفي استذكار الأمس، وإذا صحّ أنّ جميع أشاوس هذه ‘المبادرة الوطنية الديمقراطية’ هم من البعثيين،
ومن القياديين السابقين في الحزب والسلطة تحديداً، أفلا يصحّ استطراداً أن يطرح المرء السؤال التالي: أين كان سلمان ورفاقه حين شهد العالم بأسره مهزلة انعقاد ما يُسمّى ‘مجلس الشعب السوري’، على نحو كرنفالي أقرب إلى استعراض السيرك منه إلى أيّ اجتماع بشري، من أجل تعديل المادة 83 من الدستور لكي تلائم توريث بشار الأسد، بعد ساعات معدودات على وفاة أبيه؟ أين كان هؤلاء أنفسهم، وسواهم عشرات، حين أصدر الأعلى صلاحية بينهم آنذاك، عبد الحليم خدّام دون سواه، القانون رقم 9 تاريخ 11/6/2000 القاضي بتعديل المادة 83 ليصبح عمر رئاسة الجمهورية الدستوري مطابقاً لعمر الوريث آنذاك (34 سنة)، إلى جانب ترفيع الضابط بشار الأسد من رتبة عقيد إلى رتبة فريق، دفعة واحدة (قافزاً عن رتبة عميد، ولواء، وعماد، وعماد أوّل… وعن فترة في الخدمة العسكرية الفعلية لا تقلّ عن 25 سنة)، وتعيينه قائدًا عامًا للقوات المسلحة؟
ذلك المؤتمر القطري التاسع كان، في حقيقة الأمر، يختتم فصلاً إضافياً في تاريخ ‘الحركة التصحيحية’، دون أن يدشّن في الآن ذاته أيّ فصل جديد في الحركة الجديدة، الوجيزة الخاطفة التي أسفرت عن تنصيب الأسد الابن، وكانت غالبية الرفاق أبطال ‘المبادرة الوطنية الديمقراطية’ هم، أيضاً، أبطال تلك الحقبة. لهذا كان المؤتمر أشبه بترجيع مكرور لصدى المؤتمرات الحزبية السابقة التي عُقدت في عهد الأسد الأب: تصفيق وتهليل وعبادة فرد، وتقارير زائفة عن الأوضاع التنظيمية والداخلية والسياسية والاقتصادية، وإعلان العزم على الإصلاح والتجديد وتقديم الدماء الشابة، ثمّ انتخاب قيادة جديدة ذات دماء شابة في العمر البيولوجي وحده، ولكنها ذات عقول مكبلة طائعة مطيعة، وأيدٍ مغلولة إلى الأعناق، وحناجر لا تتقن سوى الهتاف بحياة القائد
فضيلة مبادرة سلمان ورفاقه أنها قد تكون واجهة، مدنية وبعثية في المقام الأوّل، لحال التململ التي أخذت تصيب شرائح النخبة من رجالات السلطة السابقين ومحاربيها القدماء، ليس من حيث الصفة التمثيلية لأسماء على غرار محمد نهاد مشنطط (وزير سابق)، عماش جديع (وزير ومحافظ سابق)، مروان حبش (وزير وعضو قيادة قطرية سابق)، محمود جيوش (وزير سابق)، عادل نعيسة (عضو قيادة قطرية سابق)، وفيق عرنوس (أمين فرع حزب سابق)، أمين أبو الشامات (وزير سابق)، نظمي فلوح (معاون وزير سابق)، حسين عماش (رئيس سابق لهيئة مكافحة البطالة)، سليمان العلي (وزير سابق)، ناظم قدور (وزير سابق) وعلي سليمان (معاون وزير سابق)؛ بل من حيث ما يمكن أن ينطق به هؤلاء نيابة عن، أو بلسان، سادة سابقين: علي دوبا (المخابرات العسكرية)، محمد الخولي (مخابرات القوى الجوية)، علي حيدر وحكمت الشهابي وعلي الصالح وشفيق فياض وإبراهيم صافي (المؤسسة العسكرية المحترفة)، وسليمان حداد (مطبخ القرار السياسي ـ الأمني
هؤلاء كانوا أشدّ سطوة، وظلوا الأقرب إلى حلقة النظام الأضيق حتى دنت ساعة تجريدهم من سلطاتهم وإحالتهم إلى التقاعد القسري، لسبب جوهري هو الخشية من أن يعكروا صفو سيرورات توريث الأسد الابن. وإذْ يرجّح المرء وقوفهم، وسواهم، خلف هذه الواجهة المدنية البعثية التي أطلقها سلمان مؤخراً، فذلك ليس نابعاً من صحوتهم على ضرورات الإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان وكرامة المواطن السوري، بل لأنهم أخذوا يستشعرون تململ شرائح واسعة من أبناء طائفة صارت تتبصّر مصائرها على نحو أوضح، وأخذت تدرك ـ ببطء، ولكن على نحو منتظَم ومتدرج ـ أنّ منابع الأخطار على الوطن ليست تظاهرات الشعب، بل تحالف قَتَلة الشعب وناهبي الوطن. وبهذا المعنى فإنّ هجاء سلمان للحلّ الأمني، والتصريح بأنّ ‘استخدام القوات المسلحة واعتقال الآلاف يضع العصي في عجلة التغيير السياسي المنشود’، هو الوجه المكمّل لاعتزال العماد علي حبيب، وزير الدفاع السابق. الحمقى وحدهم يمكن أن يصدّقوا حكاية المرض، فالرجل ليس مُقعداً لكي يغادر المنصب في هذه الظروف الحرجة، ومنصبه فخري في الأساس، وكان خيراً للسلطة أن تبقيه في الحال الفخرية حتى إشعار آخر. ورغم مسؤوليته الأخلاقية عن كلّ توريط لوحدات الجيش النظامية في أعمال العنف ضدّ الشعب، فإنّ العماد حبيب ليس طراز الضابط العامل المحترف الذي يستسيغ الإنحناء المستديم أمام العميد ماهر الأسد، كما أنه ليس الطراز الذي يمكن أن يرفض تنفيذ الأمر العسكري أو ينشقّ على القيادة؛ ولهذا فإنّ الإعتزال كان الأنسب الذي يلائم شخصيته
اعتزال ليس بينه والعزل كبير فارق، ولكن دلالاته لا تقتصر على حال الإرتباك التي أخذت تصيب بعض قدماء ضباط الجيش المحترفين، إزاء تبعثر المرجعيات التي تصدر الأوامر العسكرية، والطابع الوحشي الذي صار يقترن بالمهامّ الميدانية، واتساع الفجوة بين عقيدة الجيش الوطنية وانحطاط صورته في ناظر الشعب. هي حال مركّبة من التردد، والحيرة، والحرج، والعزوف، تارة؛ والاضطرار إلى الدخول في مواجهات، وإنْ محدودة، مع قوى الأمن و’الشبيحة’، تارة أخرى؛ فضلاً، بالطبع، عن الإنشقاقات، رغم ضعف نطاقها، وتأثيراتها السلبية على الروح المعنوية؛ والتخلّف الواسع عن تلبية الإستدعاء إلى الخدمة الإحتياطية
وتلكم علائم جديدة على اندحار خيار أمني، مدمّر طويل الذراع بقدر ما هو قاصر قصير الأجل، تواصل اعتماده سلطة فقدت كلّ تجانس، ما خلا أنها تتشبث بقاعدة ‘أمانة الوالد’، تلك التي تدفعها حثيثاً نحو الهاوية
صبحي حديدي
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي – 2011-08-11