صادق جلال العظم : نجاح «جنيف 2» مرهون بإنهاء العلوية السياسية على غرار الطائف اللبناني

Article  •  Publié sur Souria Houria le 28 septembre 2013

 بيروت – من ريتا فرج |الراي

لا يبدو المفكر السوري اليساري صادق جلال العظم متفائلاً بحدوث تسوية سياسية قريبة تخرج الثورة من أزمتها. وهو يرى ان «سورية الثورة» تحتاج الى كل انواع الدعم رافضاً مقولة انها أصبحت «كبش فداء» للصراع الاقليمي والدولي في سورية وعليها.
يقدّم العظم في حواراته مصطلحات جديدة في مقاربته لثورة بلاده. ها هو يتحدث اليوم عن «العلوية السياسية» مقارناً اياها بـ «المارونية السياسية» في لبنان على اعتبار ان مؤتمر جنيف 2 اذا أراد ان ينجح لابد له من انهاء هذا النموذج «التسلطي الاستبدادي» كما انهى اتفاق الطائف سيطرة القوى السياسية المارونية كما يقول.
حدد العظم جملة الأسباب التي تدفع بـ «اللاوعي السياسي الغربي» الى عدم حسم الأزمة السورية، مشيراً الى ان هذا الغرب «ما زال في العمق على موقفه المتفرج» وما يحدث «استنزاف كامل ومستمر للقوى المعادية بشراسة» له.
واذ يعتبر العظم في حوار مع «الراي» ان سورية في الغرب الرسمي والشعبي «غير محبوبة على الاطلاق، بل هي مكروهة ومنبوذة» يؤكد ان «أفق الثورة مفتوح وغير مسدود» والمجتمع الدولي مضطر هو أيضاً «الى ضبط حركاته وسكاناته على ايقاعها الذاتي وصيرورتها المستقلة».
يرفض العظم وضع عنف الثورة في موازاة عنف النظام «المساواة الشكلية بين العنفين تعني انكار حق الشعب السوري وغير السوري في الثورة على القهر والاستبداد التي تحملها طويلاً». ويلاحظ بحذر ان الشرخ الراهن بين مكوِّنات الشعب السوري «طفا على السطح من قبيل عودة المكبوت تاريخياً»، مشدداً على ان «التمايزات العادية والفوارق الطبيعية» في سورية «عوملت بالانكار وعولجت بالكبت والتسييس الخبيث على مدى سنوات طويلة».
ويقارب العظم الحدث المصري من زاوية أخرى معتبراً ان قيام المصريين بثورة مليونية ضد الاسلام السياسي «رغم التدين الشديد والمشهود» يشكل في ذاته «تطوراً نوعياً غير مسبوق».
وفي ما يلي نص الحوار:

• بداية كيف تفسرون هذه المماطلة الدولية ازاء الملف السوري رغم الحجم الكبير للمجازر والتي كان آخرها مجزرة الكيماوي؟
– هناك الأسباب الظاهرة والمعروفة مثل تحالفات سورية التقليدية مع الاتحاد السوفياتي، وعمليات التطبيل والتزمير بالاشتراكية واستمرار الحكم العسكري الاستبدادي لفترات طويلة. هناك أيضاً المصالح والتحالفات والحسابات التي تجريها الدول الغربية والتي نادراً ما تكون مع سورية أو لمصلحتها. بالاضافة الى عمق العداء السوري المستحكم لاسرائيل وما تمثله.
هذا كله معروف وأصبح من البدهيات. لذا أريد الاشارة الى سبب آخر لا يظهر بسهولة. ففي اللاوعي السياسي الغربي، رسمياً وشعبياً، سورية غير محبوبة على الاطلاق، بل هي مكروهة ومنبوذة ولا توجد أيّ لهفة عليها. نعرف من تجاربنا الشخصية ان المشاعر الأعمق للسوريين كانت دائماً ضد الغرب وتكرهه بقوة، ويصح هذا على الاتجاهات السياسية القومية واليسارية والاسلامية التي كان المجتمع السوري يعج بها. يضاف الى ذلك نبرة العجرفة الفارغة والادعاء المضحك والتكبر والاستعلاء الأجوفين والجعجعة النضالية بلا فعل والتي طبعت كلها تعامل سورية وتَكلّمها مع الآخرين. أذكر على سبيل المثال انه بعد هزيمة 5 يونيو 1967 كانت سورية أكثر دول العالم انكاراً لحقيقة ما حدث وتبجحاً بمكابرة عدم سقوط الانظمة التقدمية. سمعت متابعين أوروبيين وأميركيين يقولون ان السوريين يشتموننا اذا تدخلنا ويشتموننا اذا لم نتدخل فما الذي يريدونه؟ وفي هذا شماتة واضحة بسورية.
أعتقد ان الغرب ما زال في العمق على موقفه المتفرج، أي ما يجري في سورية هو في نظرهم استنزاف كامل ومستمر للقوى المعادية بشراسة للغرب عموماً ولاسرائيل تحديداً. يعني استنزاف سورية نفسها واستنزاف ايران واستنزاف الاسلام الجهادي الشيعي الممثل بـ«حزب الله» واستنزاف للاسلام السني الجهادي، واحراج كبير لروسيا على أقلّ تقدير، فما الداعي للتحرك والتدخل اذاً.
وفي لاوعي الغرب السياسي، العتب مرفوع لانه اذا كانت دولة عربية مثل العراق ذاق شعبها طعم الكيماوي وتعرض لمعاناة كبيرة بسبب المجازر والمقابر الجماعية، وما كان لحكامها الحاليين المعارضين السابقين ان يكونوا في مناصبهم لولا الغزو الأميركي للعراق واحتلاله، فلماذا العتب اذا كانت هذه الدولة تتعمد التصرف بحياد مفتعل وموضوعية كاذبة وحسابات باردة مع ثورة الشعب السوري ومع مآسيها. كذلك أقول لماذا العتب على الغرب اذا كانت حركة التحرر الوطني الفلسطيني وجبهات تحرير فلسطين الثورية تتقصد التعامل مع ثورة الشعب السوري بكلبية وانتهازية وسلبية لا تختلف عن اللامبالاة الباردة ذاتها التي يبديها الغرب والتي رصدناها لدى الحكومة العراقية الحالية. أرجو الا يذهب قادة الفصائل الفلسطينية الثورية الى عناق بشار الأسد كما عانق ياسر عرفات صدام حسين في لحظة اجرامه قبل الأخيرة.
أخيراً في الوعي الغربي أيضاً درس مقتل السفير الأميركي ومساعديه في ليبيا بعد المساعدة العسكرية الغربية في الاطاحة بالقذافي وانقاذ بنغازي من كتائبه المسعورة. في سورية الجميع ضد الغرب ومصالحه بما فيها المعارضة، هكذا يقولون.
• وقعت «الثورة السورية» رهينة الصراع الاقليمي والدولي وستبقى «كبش فداء» الى ان تنضج التسوية السياسية. ما الذي يعجل الخروج بالتسوية ان حدثت فعلاً في الوقت القريب؟ وهل ترون ان المرحلة الراهنة ضبابية نتيجة انسداد الأفق؟
– لا، أبداً الثورة السورية ليست كبش فداء لأحد. خرج الشعب السوري بثورة مفتوح العينين وبوعي حاد وارادة حرة، وهو يضحي يومياً للخلاص من الحكم الاستبدادي الذي طال أكثر مما يجب. كبش الفداء مغلوب على أمره ويساق من الآخرين الى المحرقة أو الذبح. الشعب السوري ذات فاعلة تاريخياً اليوم، وليس مجرد موضوع هامد مستكين.
الصراع الاقليمي والدولي موجود باستمرار ولكنه ليس هو المسؤول عن اندلاع الثورة أو حراكها أو صيرورتها. لا شك ان الصراع الاقليمي والدولي يعمل على استغلال الثورة وتوظيفها واستعمالها واهمالها، ولكنه مضطر أيضاً الى ضبط حركاته وسكناته على ايقاع الثورة الذاتي وصيرورتها المستقلة.
الأفق المسدود هو أفق نظام الاستبداد والعنف وليس أفق الثورة، وهناك اجماع على ان لا مكان لهذا النظام في سورية بعد اليوم مهما حدث ومهما كانت النتائج. حتى أصدقاء النظام أصبحوا يعرفون ذلك. لا أرى تسوية مقبلة في ظل الشروط الراهنة في المستقبل المنظور. فالابراهيمي خارج السمع وخارج النظر عملياً لمدة طويلة وكثيراً ما يُقارن مشروع «جنيف 2» باتفاق الطائف الذي انهى الحرب الأهلية في لبنان على أساس لا غالب ولا مغلوب. في الواقع، نجح اتفاق الطائف لانه انهى المارونية السياسية في لبنان وانهى سيطرتها على مفاصل الدولة ومرافق المجتمع كله. وحتى ينجح «جنيف 2» فلابد من ان ينهي هو أيضاً العلوية السياسية في سورية وينهي سيطرتها على الدولة وعلى أوجه حياة المجتمع السوري كلها، كما انهى مؤتمر دايتون السيطرة الصربية السياسية على حياة اسلام البلقان.
• ثمة وجهة نظر تقول ان المجتمع السوري اختفى لصالح العسكرة. لماذا تغاضت بعض قوى الثورة عن مخاطر العسكرة؟ أليس من الأجدى لها ان تقوم بجردة حساب علماً ان الوقت قد فات؟
– على العكس تماماً. أثبت المجتمع السوري نفسه في ثورة على العسكرة والحكم العسكري. لم يكن المجتمع السوري حاضراً وقوياً وفاعلاً منذ نصف قرن كما هو الآن في لحظة الثورة. كما ان عسكرة الثورة لا تُقارن أبداً بالعسكرة التي حاول النظام الأسدي فرضها على المجتمع بكامله منذ البداية. لا تنسى كذلك انه ما من ثورة مسلحة الا ولها جانبها العسكري والأمثلة كثيرة. وربما أكثرها قرباً وشبهاً ثورة الحركة الساندينية في نيكارغوا التي أطاحت بالديكتاتور المرذول اناستاسيو سوموزا بشقيها المدني والعسكري. ولا بأس من التذكير هنا بالثورة المسلحة للشعب المجري على الحكم الستاليني في البلاد العام 1956 والتي قمعتها الدبابات الروسية تماماً كما يحدث اليوم في سورية.
المخاطر قائمة بلا شك وجردة الحساب مطلوبة دائماً لكن الوقت لم يفت لان الثورة مستمرة حتى الاطاحة بهذا النظام بصورة أو بأخرى. ليس دائماً يستطيع الشعب الاطاحة بالطاغية الذي يقول للشعب «إما أن أحكمك أو أقتلك». لم يتمكن الشعب العراقي من اسقاط ديكتاتورية صدام حسين الدموية بقواه الذاتية على الرغم من المحاولات الكثيرة للثورة على الطغيان. وأخفق الشعب الكمبودي في التخلص من قاتل ومجرم مثل بول بوت الى ان تدخل الجيش الفيتنامي المنتصر وأزاحه. شيء مماثل حدث لديكتاتور آخر هو الجنرال عيدي أمين حاكم أوغندا حيث تدخل الجيش التنزاني بأمر من جوليوس نيريري أحد أبرز قادة التحرر الوطني في افريقيا. سمعت زملاء ألمان يقولون في هذا السياق ان الشعب الألماني لم يتمكن من الاطاحة بهتلر الى ان جاء الجيش الأحمر وانهاه. الشعب السوري أيضاً يحتاج الى انواع كثيرة من المعونات والتدخلات الخارجية للمساعدة على الخلاص من بشار الكيماوي ونظامه.
• رغم ان صوت العنف والموت يعلو على أي صوت آخر في سورية لكن هذا لا يمنع من طرح المسألة الآتية: هناك شرخ وطني بين مكوّنات الشعب السوري بسبب اشتداد العنف المذهبي وعنف النظام والمعارضة. ما الذي يعيد للمجتمع السوري الثقة بنفسه؟ وهل المصالحة تشكل أولوية الأولويات في المرحلة الانتقالية؟
– وضعك عنف المعارضة وعنف النظام في خانة واحدة، خطأ كبير. عنف النظام تدميري أعمى وطال سورية كلها تقريباً وأصاب معظم شعبها. وعنف الثورة موجّه الى استنزاف النظام والرد على بطشه لاضعافه حتى لحظة تلاشيه وسقوطه. هذه المساواة الشكلية بين العنفين تعني انكار حق الشعب السوري وغير السوري في الثورة على القهر والاستبداد الذي تحمّله طويلاً. كان يفترض ان كتابات فرانز فانون في هذا الموضوع قد حسمت مسألة الفارق الكمي والنوعي بين هذين النوعين من العنف.
أما بالنسبة للشرخ الحاد بين مكونات الشعب السوري الذي تتحدثين عنه، فهو طفا على السطح من قبيل «عودة المكبوت تاريخياً». فالتمايزات العادية والفوارق الطبيعية بين المكونات السورية عوملت بالانكار وعولجت بالكبت والتسييس الخبيث على مدى سنوات طويلة. وها هو المكبوت يعود للظهور وبقوة بعدما نجحت الثورة في تحييد عملية الكبت التاريخية واضعاف آلياتها.
أما اشتداد العنف المذهبي الذي لا ريب فيه، فعلينا ان نلاحظ انه ليس عنفاً معمماً يطل المذاهب كلها في سورية، اذ ليس صحيحاً ان كل المذاهب منخرطة في الثورة، كما انه ليس صحيحاً ان كل المذاهب عبأت نفسها للقتال الى جانب النظام و الدفاع عنه. لنلاحظ أيضاً ان الغالبية العظمى من المهجرين واللاجئين والهائمين على وجوهم من السوريين هم من مذهب معين، وجدوا مساعدة لدى أبناء المذاهب الأخرى وفي مناطقهم وأحيائهم وقراهم ومدنهم. كما ان المدن والقرى والحقول والمزارع التي ضربها جيش بشار الأسد يعود جميعها الى المذهب ذاته، في حين ان أراضي ومناطق ومدن وقرى المذاهب الأخرى بقيت هادئة نسبياً. والسبب في ذلك يعود الى ان العمود الفقري للثورة هو سنّة سورية في حين ان العمود الفقري للنظام وقواته الضاربة هم علويو سورية. اشتداد العنف المذهبي الذي تشيرين اليه محدد ومحدود وطرفاه معروفان جيداً. لم يعد بالامكان أو من المفيد التستر على هذا الواقع أو اخفاؤه. ليس صحيحاً ان المذاهب تقتتل بشكل عام ومعمم في سورية الثورة. وللأسف فان العنف المذهبي تصاعد ليس في سورية وحدها، فانظري الى العراق ومصر ولبنان واليمن حيث تُهد الجوامع والكنائس على رؤوس المصلين فيها، ويُفجر الانسان وفقاً للدين أو المذهب. هذا حاصل في بقاع أخرى كثيرة في العالم الاسلامي أيضاً. أعترف بان هذا المشهد المفجع أوصلني الى استنتاج ان ادوارد سعيد «غلطان» أن والمستشرقين معهم حق.
لن يكون يسيراً اجراء مصالحة وطنية فورية، ولن تكون سهلة استعادة المجتمع السوري للحمته والثقة بنفسه بسرعة بعد كل الذي جرى. أعتقد ان الشرط الضروري ولكن غير الكافي للبدء باستعادة الثقة واجراء المصالحة هو تحوّل الدولة وقوانينها وأجهزتها الى دولة محايدة ازاء مكونات الشعب السوري الدينية والمذهبية والاثنية، بحيث لا تطغى أيٌ منها على مؤسسة الدولة وأجهزتها وقوانينها، أي ان تكون دولة لكل مواطنيها. هذا هو معنى الدولة المدنية والعلمانية. اذا تحقق 50 الى 60 في المئة من هذا الشرط في سورية التي ستولد بعد عذاب هذا المخاض الدموي العسير والمؤلم يكون المجتمع السوري قد خَطَا خطوة مهمة على طريق النجاة بنفسه.
• تحدثتَ في مقابلة سابقة مع «الراي» عن «اسلام التوتر العالي» (الجهادي) فما الذي يضمن مستقبلاً ألا يسيطر هذا النمط على سورية؟
– لا أريد ان يُفهم من كلامي عن اسلام التوتر العالي بانه يمكن اختزاله الى الاسلام الجهادي وحده. اسلام التوتر العالي هو في الأساس مناخ عام مأزوم، يجعل من السهل جداً توجه شرائح اجتماعية الى الاسلام الجهادي – التكفيري والعنف الأعمي والتطرف العبثي والسلوك الشمشوني الانتحاري.
لم يكن اسلام التوتر العالي حاضراً كمناخ عام في سورية سابقاً ولكنه نما وتوسع بالتدريج كرد فعل دفاعي على العنف الأعمى لنظام أقلوي طائفي مسلح تسليحاً عالياً جداً. كما ان النظام لم يبخل عبر مناوراته في تعزيز الاتجاهات التكفيرية والتلاعب بها من أجل النيل من الثورة.
أما بالنسبة للضمانات التي تكلمتِ عنها، لا توجد ضمانات مسبقة صارمة بالنسبة لمصير هذا النوع من الاسلام في المستقبل لا في سورية ولا غيرها. كل ما يمكن قوله الآن هو ان حال التوتر العالي في أي مجتمع تبقى عابرة، ولا يمكن ان تدوم. وهذا ينسحب على اسلام التوتر العالي الذي تعيشه سورية في الوقت الحاضر. بعد ذلك أعتقد ان التدين الشعبي التلقائي والعفوي سيعود ويسود سورية، ان كان ذلك في الريف أو المدن أو لدى الطبقات الوسطى والتجارية أو لدى الطبقة العاملة ما ينحو عموماً نحو تحييد النَزعات التسلطية للاسلام السياسي ويحاصره.
• كيف تقرأون ما حدث ويحدث في مصر بعد 30 يونيو في ضوء «الأزمة السورية»؟ وهل عودة الجيش الى الحكم في مصر أعطى جرعة دعم للنظام السوري أم ماذا؟
– لا آتي بجديد اذا قلتُ ان المغزى الأكبر لما حدث في مصر أخيرا هو سقوط الاسلام السياسي في امتحان الحكم وادارة الدولة وتسيير الاقتصاد، أي الاسلام السياسي كما هو ممثل بالاخوان المسلمين، أهم تنظيماته وأقدمها. الأهم من ذلك كله في نظري هو ان ملايين ملايين الشعب المصري خرجت ضد حكم الاسلام السياسي على الرغم من التدين الشديد والمشهود لتلك الملايين ورغم الاحتماء وراء خطابات «الاسلام هو الحل» وتطبيق الشريعة واقامة الدولة الاسلامية وادخال سجادة الصلاة الى القصر الجمهوري، ومواعظ محمد مرسي المشهدية في الجوامع، ورفع الأذان في البرلمان الى آخر ذلك من حركات كان يفترض ان تسلب لبّ تلك الملايين المتدينة، ولكنها في الواقع لم تؤثر فيها على الاطلاق. هذا تطور نوعي غير مسبوق.
استيعاب هذا التطور الخارق أهمّ بكثير لمستقبل مصر من الجدل الدائر عمّا اذا كان ما حدث هناك هو انقلاب عسكري كامل أم نصف انقلاب أو شبه انقلاب. صحيح ان الجيش عاد الى الحكم عبر الاطاحة الشعبية – العسكرية بحكم الاسلام السياسي، ولكنني أعتقد ان الديكتاتورية العسكرية التقليدية كما عرفناها لم تعد ممكنة في مصر بعد اليوم، على الرغم من المصاعب والمشاكل التي نشاهدها حالياً في البلد، خصوصاً ان «القلوب مليانة» من زمان والرغبة جامحة لتصفية حسابات قديمة بين الجيش والاخوان. ولا أكتمك انه في اللحظة التي اصطدم فيها محمد مرسي بالكنيسة والأزهر في الوقت ذاته شعرت بان بداية النهاية قد حلت.
السيناريو الأرجح والأكثر واقعية لمصر هو شيء ما على نسق الوضع التركي السابق على حكومة اردوغان وحكمه، أي عودة الجيش الى ثكناته وترك واجهة المسرح السياسي للمجتمع المدني والأحزاب والدستور وصناديق الاقتراع من دون أي تدخل فج في الحياة السياسية المدنية أو اقتحام خشن لها. وفي نظري تحتاج مصر ربما الى ربع قرن من التطور والتقدم قبل ان تتمكن من اخضاع القطاع العسكري حقاً للحكم المدني الديموقراطي كما حدث في تركيا.
أما علاقة ذلك كله بسورية، فلا شك في ان نظام بشار الكيماوي يبحث عن عزاء ما في عودة العسكر الى الحكم. لكن في الواقع ان ملايين الملايين التي أطاحت بحكم مرسي والاخوان، خرجت ضد عودة الاستبداد بشكله الديني الطائفي. والثورة الشعبية في سورية هي أيضاً جهد هائل وتضحيات كبيرة ضد الاستبداد بشكله العسكري الطائفي العاري والفج. كما ان سقوط الاسلام السياسي المصري سيقلص الى ابعد حد احتمالات سيطرة أي نوع من انواع الاسلام السياسي على الحكم والدولة في سورية الجديدة التي تولد من رحم الثورة وبمخاض عسير ومؤلم جداً.