صبحي حديدي – شروخ في بنيان النظام السوري

Article  •  Publié sur Souria Houria le 26 mai 2011

أولى العلائم الدالة التي تشير إلى ابتداء الشروخ في بنيان النظام السوري، وفي القطاع الصيرفي من مركّبه الأمني/ العسكري/ الاقتصادي تحديداً، ذلك الخبر الذي يقول إنّ آل مخلوف قد عرضوا للبيع شركة ‘سورية للأسواق الحرّة’، المعروفة باسم ‘راماك’؛ وأنّ مجموعة من المستثمرين الكويتيين قد اشتروا كامل أسهم الشركة، وسيعلنون قريباً تفاصيل الصفقة، وسياسة التشغيل الجديدة.
ورغم أنّ هذه الشركة ليست أضخم الصروح الإستثمارية لآل مخلوف، صيارفة النظام الأبرز؛ وأنّ الصفقة قد تنجلي عن لعبة مافيوزية للتحايل على العقوبات الأمريكية والأوروبية التي طالت رامي مخلوف، عن طريق ترحيل الملكية إلى شركة وهمية، فإنّ ذلك كلّه لا يقلل من المغزى الكبير لخطوة كهذه.
المغزى، ذاك، لا يقتصر على الصعيد الرمزي وحده، بالنظر إلى أنّ ‘راماك’ تحتكر إدارة الأسواق الحرّة في مطارَيْ دمشق وحلب، وفي منافذ الحدود البرّية مع الأردن ولبنان وتركيا (درعا، وجديدة يابوس، وباب الهوا)، ومينائَيْ اللاذقية وطرطوس. هو، قبلئذ، مغزى سياسي يخصّ المراجعات التي لاح أنّ الصيارفة انخرطوا فيها منذ تصريحات مخلوف إلى صحيفة ‘نيويورك تايمز’ الأمريكية، حول خياراتهم المستقبلية في ضوء تعاظم الإنتفاضة الشعبية في سورية، مقابل تخبّط تكتيكات النظام في مواجهة الإنتفاضة، واهتراء آلة القمع، واشتداد عزلة السلطة داخلياً وإقليمياً ودولياً.
صحيح أنّ بيع ‘راماك’، وثمة تقارير عن توجّهات مماثلة بصدد مؤسسات أخرى، قد لا يعني أنّ مخلوف وأمثاله سوف يحزمون حقائب الفرار من البلد عمّا قريب (بافتراض أنهم سيجدون الفرصة لهذا بالطبع، وأنّ الشعب السوري لن يكفل لهم مصير سوزان وجمال وعلاء مبارك). لكنّ الصفقة تذكّر، من جانب آخر، بتلك المقولة العتيقة الصائبة: لا دين للمال ولا ناموس، كما قال الفيلسوف الفرنسي فولتير، والدرهم يهاجر عند أوّل غيمة عاصفة! يُضاف إلى هذا افتراض لاحق، متلازم منطقياً مع طبيعة المواقع التي يشغلها آل مخلوف في معمار السلطة؛ مفاده أنّ خلفيات الصفقة أبعد، في النطاق والسياق والتوقيت، من واجهتها المباشرة التي تخصّ ‘راماك’ اليوم، في المدى المنظور.
علامة أخرى تفيد انحطاط خيارات السلطة، وانتقالها من صفة التخبّط واختلاط التكتيكات وتناقضها أحياناً، إلى اللوذ الخارج واستجداء الدعم عن طريق عرض المزيد من التنازلات في ورقة استئناف المفاوضات مع إسرائيل أوّلاً، أو التلويح بإعادة النظر في مواقف النظام السابقة بخصوص ملفّات أخرى عربية وإقليمية، حيث الغرض الأعلى هو ترقية العلاقات مع واشنطن. في الآن ذاته لا نعدم مَنْ يعزف على النغمة، المكرورة المستهلكة المفتضَحة، التي تقول إنّ الولايات المتحدة والغرب عموماً عادت إلى سياسة الضغط على النظام السوري لإجباره على ‘فضّ الشراكة’ مع إيران و’حزب الله’ و’حماس’، وربما مع أحمد جبريل أيضاً!
ومن المعروف أنّ ما سُمّي ‘عقوبات’ على رجالات النظام السوري، وعلى بشار الأسد شخصياً، ليس سوى الإجراء الرمزي شبه الوحيد الذي يمكن للحكومات في أوروبا والولايات المتحدة تقديمه إلى الرأي العام الغربي، خصوصاً بعد أن أخذت صور الفظائع تقضّ المضاجع وتضغط على الضمائر. وكان خيراً لهذه الحكومات أن توفّر على نفسها إجراءات النفاق الهزيلة تلك، لا لأنّ حيتان النهب ليسوا حمقى إلى درجة ترك الأموال في انتظار قرارات الحجز الأمريكية والأوروبية، فحسب؛ بل لأنّ تلك ‘العقوبات’ سوف تنقل المياه إلى طواحين التضليل الديماغوجية، إذْ لا ينتظر النظام ذريعة أفضل من هذه لكي يسرد المطوّلات حول كيل الغرب بمكيالين، وهذا حقّ حتى إذا أُريد منه الباطل.
الثابت أنّ شاغلي البيت الابيض، ربما منذ الأطوار الأبكر في علاقة واشنطن مع حافظ الأسد ونظام ‘الحركة التصحيحية’، توافقوا على طبيعة الشطرنج السياسي الذي أداره النظام مع واشنطن وتل أبيب (أو مع جارة مثل تركيا، عبر أكراد الـ PKK وعبد الله أوجلان) من وراء استضافة هذه المنظمة أو تلك، في هذا الطور أو ذاك. كان ذلك الشطرنج يشمل المحيط الإقليمي أيضاً، العراق ودول الخليج والأردن، فضلاً عن منظمة التحرير الفلسطينية والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات شخصياً. وكان شطرنجاً يقوم على قواعد لعب مكشوفة مفضوحة، رديئة إجمالاً، وإنْ كانت لا تُسقط عن الشطرنج سمة اللعب ذاته، من حيث المناورة والكرّ والفرّ والخسارة والربح.
وفي ربيع العام 2005، في ذروة حقبة شهدت ‘أقصى الضغوط’ الأمريكية، حسب التعبير المعتمد لدى النظام وحلفائه، صدر عن آدم آيرلي، نائب الناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية آنذاك، تعليق بالغ الدلالة على لقاء موظفين كبار في الإدارة (إليزابيث شيني وجون هانا) مع ‘نشطاء مجتمع مدني وأكاديميين’ أمريكيين من أصل سوري.
لقد نفى آيرلي أنّ يكون هدف اللقاء هو دراسة خطط بديلة عن نظام الأسد، مؤكداً على نحو صريح واضح أنّ ‘النقاش دار حول كيفية مساندة رغبة الشعب السوري في الإصلاح، وفي حرّيات أكبر، وفرصة أفضل… من داخل النظام القائم هناك حالياً’.
هذا إلى جانب الدعم، المكين الثابت، الذي ظلّ العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز يخصّ به النظام السوري على صعيد إقليمي ودولي، بصدد مسائل بالغة الحساسية والخطورة (مثل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، واستشراس المحقق الدولي الأسبق ديتليف ميليس، وقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة بتقليص النفوذ السوري في لبنان، وسواها). وكذلك كانت حال الموقف الإسرائيلي، كما تجلى في أوضح صياغاته عند أرييل شارون، رئيس الوزراء الأسبق، الذي ناشد إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن عدم الذهاب خطوة أبعد من ألعاب النفاق والضغط اللفظي ذاتها، في التضييق على الأسد؛ بل حدث وأن طُولبت مؤسسات اللوبي اليهودية الامريكية بأداء دور مباشر في تحقيق هذا الغرض.
والمتابع لتاريخ أربعة عقود من عمر العلاقة بين البيت الأبيض والنظام الحاكم في دمشق، منذ ‘الحركة التصحيحية أواخر العام 1970 وحتى الساعة، يدرك أنّ التعاون والتفاهم والشراكة، وليس العداء والتناقض والقطيعة، هي الطبائع الأدقّ في وصف تلك العلاقة. هذه خريطة جيو ـ سياسية تشمل لبنان أوّلاً، منذ دخول القوات العسكرية السورية بإذن أمريكي سنة 1976، مروراً بضرب تحالف القوى الوطنية والمقاومة الفلسطينية، وحرب المخيمات؛ ثمّ ‘عاصفة الصحراء’، حين انخرطت وحدات من الجيش السوري في تحالف ‘حفر الباطن’؛ ولبنان ثانياً، عند تصفية سلطة الجنرال ميشيل عون وسقوط بيروت الشرقية؛ وفي العراق بعدئذ، رغم مدّ هنا وجزر هناك.
والعلامات التي تركتها مشاركة وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق مادلين أولبرايت في التعزية بوفاة الأسد الأب، كانت تشير إلى عزم واشنطن مواصلة التعاقد ذاته مع الوريث، الأمر الذي تبدّلت بعض عناصره مع مجيء بوش إلى البيت الأبيض، دون المسّ بشروطه الجوهرية التي ما تزال قائمة حتى اليوم. فهل كان استئناف المباحثات السورية ـ الإسرائيلية في تركيا، حتى في طورها غير المباشر، نقيض ما يرغب البيت الأبيض، أيام بوش مثل خلفه باراك أوباما، على حدّ سواء؟ أو هو تطوّر لا يخدم مفهوم الخارجية الأمريكية، حول تحسين سلوك النظام… من داخل النظام ذاته؟
أو، في استئناف المنطق ذاته، كيف أمكن لحليف أمريكي مثل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، أن ينفتح على النظام السوري بما يناقض مصالح واشنطن؟ أو أن لا يكون إخراج الأسد من القوقعة بمثابة أداء بالإنابة للعمل ذاته الذي تقرّه واشنطن، لأنه ببساطة يخدم النظرية دون سواها، حول التغيير من الداخل؟ والشخصية التي صار الأسد يذهب بها إلى طهران، بصفة حامل رسائل الغرب الشفهية (وليس الحليف، شريك خندق الممانعة الواحد؟)؛ ألم تكن ترضي بوش وساركوزي، أكثر من إرضاء أحمدي نجاد وحسن نصر الله؟
وخلال سنوات ‘الضغط’، ذاتها، كانت تقارير صحافية جادة تتحدث عن مناشدات حارّة توجّه بها بعض القادة الأوروبيين (فرنسا وبريطانيا وألمانيا، خاصة) إلى الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش، لتخفيف الضغط عن نظام الأسد، كي لا ينهار فجأة أو يتشقق أو يتداعى.
وبعض التصريحات الأمريكية أكدت لهؤلاء الحلفاء أنّ واشنطن على وعي تامّ بهذه الحال، حتى أنّ وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس انخرطت في ما يشبه التفكير بصوت عالٍ، على أعمدة صحيفة ‘واشنطن بوست’، فقالت: ‘ما نحاول القيام به هو تقييم الموقف حتى لا يُباغت أحد، لأنّ الأحداث تتسارع بشدّة وفي اتجاهات غير متوقعة، بحيث يقتضي الحذر معرفة ما يجري في هذه الآونة’.
وأمّا الآونة الراهنة، فإنها تقتضي المزيد من الحذر، وهذا ما تُتاح قراءته في تصريحات الرئيس الأمريكي أوباما، حين طالب الأسد بأن يقود الإصلاح، أو يتنحى جانباً (ليتولى سواه القيادة، من فريق الأسد وبطانته، ومن داخل نظامه كما للمرء أن يفهم)؛ وتصريحات وزيرة الخارجية هيلاري كلنتون، حين اعتبرت أنّ الإدارة سمعت من الأسد الكثير من الأمور التي لم تسمعها من زعماء آخرين في المنطقة، حول نوع التغييرات التي يريدها البيت الأبيض. التغيير من داخل النظام، إذاً، وليس على أنقاضه أو بعد الإطاحة برجالاته. لا بأس، لهم دينهم ومصالحهم في هذا، وللإنتفاضة السورية دينها ومصلحتها في سواه؛ وإذْ لا تريد الإنتفاضة منهم عوناً (وحذار أن يزوّر أحد إرادة الإنتفاضة في هذا!)، فليس لهم أن ينتظروا منها اختزالاً للحقوق، وتفريطاً بالتضحيات.
وقبل أيام نقلت صحيفة ‘يديعوت أحرونوت’ الإسرائيلية، عن مصادر أمريكية، أنّ الأسد أرسل ما يفيد استعداد نظامه لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل؛ وتشديده على أنّ 98 في المئة من مواضيع الخلاف تمّ الاتفاق حولها في الماضي؛ وأمّا النقطة الأهمّ فقد كانت إشارة الأسد إلى أنّ استئناف جولات التفاوض لن يكون ميسّراً إلا إذا ‘هدأت الأوضاع الداخلية’ في سورية. والحال أنّ التفاوض مع إسرائيل، وما ينطوي عليه من التلويح بالتنازلات، كان على الدوام أحد الركائز الكبرى التي يعتمد عليها النظام في تأمين منافذ النجاة، كلّما لاح خطر داهم؛ فكيف إذا كان الخطر الراهن داخلياً صرفاً هذه المرّة، يأخذ صفة انتفاضة شعبية شملت وتشمل سورية بأسرها؟
وكيف إذا كانت الأيام السبعون من عمر هذه الإنتفاضة برهنت أنها أمّ الأخطار التي واجهها النظام، وآخرها قبيل سقوطه الآتي، خاصة بعد أن أراق دماء المئات من أبناء الشعب؛ وسعى إلى زرع الفتنة، الإثنية والدينية والطائفية؛ وتخبّط، في الخيار الأمني ـ العنفي، بين سلسلة من خطوط الدفاع التي انقلبت وتنقلب عليه كلّ يوم؟ فكم من ‘راماك’ سيبيع آل مخلوف، قريباً، قبل أن تُحزم الحقائب تحت جنح الظلام؟ وكم دبابة سيحتاج ماهر الأسد، قبل أن تصيبه جولات الفشل المتواصلة بصعقة الجنون الختامية؟ وأيّ استرحام ينفع رأس النظام اليوم، إذا كانت جغرافية انهيار سلطته ترنو إلى واشنطن وتل أبيب، عبر خرائب درعا وبانياس؟

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

Source : Al Quds
Date : 26/5/2011
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\26qpt995.htm&arc=data\201155-26\26qpt995.htm