صبحي حديدي – لقاء دمشق التشاوري: محاسن كثيرة تُـذهب المساوئ القليلة

Article  •  Publié sur Souria Houria le 30 juin 2011

لقاء دمشق التشاوري: محاسن كثيرة تُـذهب المساوئ القليلة

صبحي حديدي

 

يوم الإثنين الماضي، 27/6/2011، كان قد سجّل مرور ثلاثة أيام على إضراب مفتوح عن الطعام، نفّذه في سجن عدرا المركزي، قرب العاصمة السورية دمشق، مجموعة من معتقلي الرأي، من الناشطين السياسيين أو الحقوقيين، المهندسين والأطباء والإعلاميين، الذين يمكن إدراجهم في خانة ‘المثقف’ من جهة، وفئة الطبقة الوسطى من جهة ثانية. بين هؤلاء أسماء مثل مازن عدي، أمجد بيازي، حسام أسود، هاشم عبد الحكيم غزالة، راتب الزعبي، أحمد مصلح، وكمال اللبواني. وفي عداد المضربين عن الطعام نجد، أيضاً، أحمد عسكر (صناعي)، منير نصر الله (حرفي)، أنس هواش، باسم الحراكي (عمل حرّ)، ماجد قلوش (حلاق)، وسرور الرفاعي (إمام مسجد). بيان الإضراب أشار إلى إخضاع المعتقلين إلى فترات تحقيق دامت أسابيع عدّة، في أقبية أجهزة أمنية مختلفة، وتعرّضهم لشتى صنوف التعذيب، وذلك قبل أن يستلموا أي قرار اتهام، في تناقض فاضح مع حال رفع قانون الطوارىء.

في اليوم ذاته، ليس في سجن عدرا هذه المرّة، بل في قاعة الروابي، فندق ‘سميرامس’، في قلب دمشق، اجتمع قرابة 175 مواطنة ومواطناً سورياً، ينتمون بدورهم إلى خانة ‘المثقف’ العريضة ذاتها، من جهة؛ وإلى فئات الطبقة الوسطى، من جهة ثانية. ولقد ميّز الكثيرين منهم أنهم معتقلو رأي سابقون، حتى عهد قريب أو وسيط او بعيد، وهم اليوم ناشطون سياسيون أو حقوقيون، بهذه الدرجة او تلك من الإستقلالية عن أحزاب المعارضة، أو القرب منها. هذا اللقاء، الأوّل من نوعه منذ عقود، حمل صفة ‘التشاور’، وانعقد تحت شعار ‘سورية للجميع في ظلّ دولة ديمقراطية مدنية’، وخرج ببيان ختامي، أقرب إلى إعلان سياسي جيّد إجمالاً، وممتاز في بعض فقراته. كما أصدر وثيقة أخلاقية النبرة، لكنها ذات روحية وطنية وديمقراطية جلية، بعنوان ‘عهد من أجل بلادنا التي نحبّ’، تعيد في الواقع استئناف نصّ مماثل، سبق أن تداولته المواقع الإلكترونية سنة 2006.

وأيضاً، في اليوم ذاته، كانت دبابات النظام تواصل زحفها على قرى إدلب وأريحا وجسر الشغور وجبل الزاوية، وستودي العمليات العسكرية بحياة ثمانية مواطنين في جبل الزاوية، وأربعة في قرية الرامي، واثنين في قرية مرعيان، واثنين آخرين في قريتَيْ سرجة وكفرحايا. وسيسقط المزيد من الشهداء في مناطق أخرى (علي مندو، من حيّ برزة في دمشق، برصاص الشبيحة؛ وحازم محمد عبيد، من الرستن، قرب حمص، بعد التمثيل بجثته؛ بين شهداء آخرين). وستخرج مظاهرات في حي الصليبة، اللاذقية؛ والمعضمية، والزبداني، وعربين، والقابون، والميدان، في دمشق وريفها؛ والبوكمال، وجامعة الفرات، في دير الزور، وساحة العاصي، في حماة؛ وفي قارة، منطقة القلمون؛ وعشرات المناطق الأخرى.

هذه مشاهد ثلاثة من وقائع نهار واحد يدشّن، ليس دون مفارقة ذات دلالات خاصة، دخول الإنتفاضة السورية يومها المئة؛ كما يعيد، في جانب آخر، التشديد على أنساق صارت مألوفة على صعيد مسارات الحراك الشعبي وخيارات النظام في قمع الإنتفاضة، سواء بسواء؛ وعلى أنساق وليدة، أو تبدو هكذا للوهلة الأولى، بينها لقاء دمشق التشاوري على سبيل المثال الأبرز. وهذا نسق فرضه امتزاج جدلي، على نحو ما، بين زخم الإنتفاضة وتضحيات الشعب السوري، في قطب أوّل؛ وإمعان النظام في خيارات العنف القصوى، ثمّ اضطراره إلى المراوحة بين القوّة والمناورة، وما يترتّب عليهما من تراجعات بيّنة أو خافية، في القطب الثاني النقيض.

حال الجدل هذه، التي تدور ضمن ذلك المعنى الماركسي الكلاسيكي الأبسط الذي يتفحص ديناميات الظواهر الاجتماعية ـ السياسية، تفترض سلسلة من علائق الشدّ والجذب بين القطبيين، ولا مناص من أن تنتهي إلى ميزان قوى تبادلي، حيث تتحوّل خسائر قطب إلى مكاسب للقطب الآخر، والعكس صحيح عند قلب المعادلة. وهكذا، في العودة إلى لقاء دمشق التشاوري، يبدو من المنصف، والمنطقي في ضوء حال الجدل ذاتها، التسليم بأنّ النظام كسب من سكوته عن عقد اللقاء (وهذا، بالطبع، يرقى إلى مستوى الترخيص له، حتى إذا كان منظّمو اللقاء لم يستأذنوا السلطة في انعقاده). لكنّ المجتمع المدني السوري، في صبغته المعارضة والحقوقية والوطنية والديمقراطية المنحازة إلى الشعب والإنتفاضة، وليس ضمن أية صبغة حيادية أو مجرّدة أو موالية للنظام، قد كسب من حدث الإنعقاد في ذاته، ضمن مواصفاته وملابساته، ومن حيث مجرياته ومداولاته، ثمّ أدبياته وخلاصاته.

 

وبذلك فإنّ السؤال اللاحق، الذي لا تكتمل هذه الدائرة من دون طرحه والإجابة عليه، هو هذا: مَنْ كسب أكثر، أو أقلّ؛ ومَن خسر أكثر، أو أقلّ، هنا أيضاً؟ وهذه السطور لا تتردّد في المساجلة بأنّ الكاسب الأكبر هو الإنتفاضة السورية، والمجتمع المدني السوري كما مثّلته الغالبية الساحقة من المشاركين في اللقاء التشاوري. والأرجح أنّ ميزان الربح والخسارة ـ إذا توجّب التفكير في موازنات كهذه ـ يمكن أن يختصره هذا الإفتراض: ثمة الكثير من المحاسن والمزايا التي سبقت، واكتنفت، وستعقب انعقاد الملتقى؛ وهذه تذهب بالمساوىء القليلة، أو ينبغي لها أن تفعل تدريجياً، في زمن تقتضي الضرورة أن يكون وجيزاً، كلما أحسن المشاركون تحويل اقوالهم إلى افعال على الأرض، وكلما عمّموا التجربة بحيث تتكرر سريعاً في مختلف محافظات القطر.

كذلك في الوسع الحديث عن شريحة خاصة، داخل المجتمع المدني السوري تحديداً، جنت مقداراً أكبر، ملموساً على نحو أوضح، من مكاسب لقاء دمشق التشاوري. وهذه هي فئة المثقف السوري الذي لاح، طيلة أسابيع من عمر الإنتفاضة، أنه في واحد من جملة تصانيف: مشارك خجول، أعلن موقفاً مؤيداً، في بيان أو مقال، وعفّ عن النزول إلى مظاهرة؛ وصامت، يكتم موقفاً متعاطفاً، أو حائراً، أو خائفاً، أو متواطئاً؛ ومؤيد للنظام، مروّج لأكاذيب السلطة حول اعتبار المتظاهرين مندسين وسلفيين وعصابات مسلحة، مارس ‘التشبيح’ الثقافي في هذا المضمار أو ذاك. وإذا صحّ تماماً القول بأنّ استعادة المجتمع المدني السوري، أو إحداث ما يشبه ‘الصدمة’ لإيقاظه من سبات، عميق أو سطحي، حقيقي أو كاذب، كانت سمة مركزية طبعت اللقاء؛ فإنّ السمة الأخرى المركزية، الرديفة اللصيقة، هي أنّ الغالبية الساحقة من الحاضرين في ‘قاعة الروابي’ كانوا من فئة المثقفين.

وحين يلحّ على المشاركة أمثال نبيل صالح وعباس النوري، وللرجلين ما لهما من مواقف منحازة إلى النظام، ومناهضة للإنتفاضة والحراك الشعبي ـ ضمن مفردات أُريد لها أن تكون مقذعة أحياناً، ديماغوجية غالباً، تحاكي خطاب أبواق النظام على نحو اقرب إلى طبق الأصل ـ فذلك لأنّ ميزان الربح عندهم أخذ ينقلب إلى خسارة. لم يكن مفاجئاً أن يركب أمثال صالح والنوري هذه الموجة الوليدة، وأن يقتحموا اللقاء دون دعوة، وأن ‘يشبّح’ أحدهم حول مفهوم ‘المعارضة تحت سقف النظام’، وأن يغادروا القاعة بعد برهة قصيرة، إذْ من العسير عليهم أن يقطعوا الخطوة الحاسمة التالية، وأن يضعوا تواقيعهم على خلاصات اللقاء.

لم يكن هذا خيار بعض المشاركين، من السينمائيين بصفة خاصة، الذين وضعوا تواقيعهم على الوثيقتين، رغم أنهم كانوا في عداد الموقّعين على بيان سابق، صدر في أواسط أيار (مايو) الماضي، يخوّن زملاءهم السينمائيين السوريين الذين أصدروا بياناً مشرّفاً، جمع أسماء دولية كبيرة، وتجاوز الـ 700 شخصية. في بيان التخوين قال هؤلاء إنّ ‘التظاهر السلمي لأجل الإصلاح لايتمّ بالتلطّي بالمساجد وانتهاك حرمتها، ولا بقتل أفراد من شعبنا العظيم وجيشنا العربي السوري البطل والتمثيل بجثثهم، ولا بقطع الطرقات أو حرق قصور العدل والممتلكات العامة والخاصة ولا بالشعارات المذهبية والطائفية’. وأمّا في بيان لقاء دمشق فقد وقّعوا على نقيض هذه الروحية، وهذه اللغة، وهؤلاء خسرهم صفّ النظام، في المدى المنظور على الأقلّ، وقد تصحّ المراهنة على أنّ الإنتفاضة اجتذبتهم، أو كسبت الكثير منهم بصفة نهائية.

لكنّ اللقاء قام على جهود مشاركين لا تحتاج سجلاتهم النضالية إلى شهادة حسن سلوك من أحد، وهم أصلاً في صفّ الشعب، وأسهموا في صناعة واحد من أهمّ منجزات الإنتفاضة: تحديد عنوان سياسي جديد، علني وتعددي، ينضمّ إلى عناوين أخرى سبق أن حدّدتها مجموعات المتظاهرين، واتحاد تنسيقيات الثورة السورية، وعشرات لجان المشاركة والدعم والمساندة، وأحزاب المعارضة الديمقراطية… أنها اليوم تأتلف، جميعها، من أجل فكّ حال التجميد السياسي، التي يحرص النظام على إبقاء الإنتفاضة أسيرة لها؛ وتحويل الحراك الشعبي من محض ممارسات بطولية في التظاهر والإحتجاج والتضحية والإستشهاد، إلى مشروع سياسي ناضج ومتكامل يتطلع إلى سورية المستقبل، الكريمة الحرّة الديمقراطية التي لا يمكن لهذا النظام أن يكون قادراً على توفيرها، أنّى ذهبت مناوراته الإصلاحية.

ولعلّ هذه الإشكالية، لأنها كذلك بالفعل، كانت كبرى معضلات اللقاء التشاوري في دمشق، إذْ أنّ تفاصيل الوقائع الأخرى في مشهد الإنتفاضة السورية، والتي تصدّرت هذه السطور؛ فضلاً عن هتافات المتظاهرين، وشعاراتهم ولافتاتهم، كانت ـ في مسألة تغيير النظام، على وجه التحديد ـ أوضح بكثير من الصياغات الغائمة، أو اللائذة بنبرة اعتدالية تختزن بعض اللبس في المعنى أو الزيغ في الدلالة، والتي انتهى إليها البيان الختامي. ولكن… مَنْ كان ينتظر العكس، في الأساس؟ ولماذا لا يكون خطاب التظاهرة متقدّماً على خطاب القاعة، ما دامت الأخيرة تقرّ ـ كما جاء في كلمة منذر خدام، رئيس اللقاء التشاوري ـ بأنّ الفضل في التئام القاعة إنما ‘يعود إلى انتفاضة شعبنا السوري الباسلة، إلى مئات الشهداء الذين ضحوا بحياتهم من أجل أن يصير كل ذلك ممكناً’؟

وفي نظرة أخرى على المعادلة ذاتها، لماذا لا يكون التباين بين خطاب التظاهرة وخطاب القاعة مسألة وضوح أقصى تفترضه طبيعة، وطبائع، الفعل الجماهيري الأوّل، واشتراطات التعبئة والحشد والتنظيم والتنفيذ عند الخروج إلى الشارع؟ ولماذا لا يكون الوضوح أقلّ، فيخضع لألعاب مشروعة في تطويع اللغة وتسخير المفردات، سعياً إلى تفاوض أكثر سلاسة بين المشاركين، وإلى توافق أعرض؟ وهل يُفهم من نصوص البيان الختامي أنّ النظام القائم هو الذي سوف يتولى بناء ‘دولة ديمقراطية مدنيّة تعدديّة، تضمن حقوق وحريات جميع المواطنين السوريين السياسية والثقافية والاجتماعية’؟ أو أنّ النظام هو الذي سوف ‘يضمن العدالة والمساواة بين جميع المواطنين والمواطنات بغض النظر عن العرق والدين والجنس’، كما جاء في البند الأوّل من البيان الختامي؟

لم ينصّ البيان على عبارة ‘إسقاط النظام’، إذاً، وهذا ما أغضب بعض التظاهرات، لأسباب يتوجب تفهمها؛ مثلما يتوجب الترحيب برحابة صدر المتظاهرين الذين لم يتعرّضوا بسوء لللقاء فندق ‘سميرامس’، رغم أنهم أنذروا ضدّ الحوار مع النظام. وفي هذا برهان جديد على جدل من طراز آخر، يوحّد القوى أو يجمع شتاتها، فتتكامل حتى حين تتعدد، وتتقاسم الأدوار والوظائف، فتتقارب عناصر المشهد، لكي تقترب من الشعار الأكثر تكريماً للشهداء: الشعب يريد إسقاط النظام!

Source : Al Quds
Date : 30/6/2011

http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\30qpt995.htm&arc=data\201166-30\30qpt995.htm