صيدنايا وصيدنايا – أحمد جميل عزم

Article  •  Publié sur Souria Houria le 22 février 2017

إذا بحثت في المراجع العلمية والتاريخية عن صيدنايا، ستجد عشرات الأبحاث والدراسات التي تتحدث عن نشوء الأديان، ومعجزات الشفاء من المرض، والآلهة والخصب، وعن أيقونة مريم العذراء في القرية الواقعة قرب دمشق. وإذا بحثت في الإعلام ستجد ما كشفه تقرير منظمة العفو الدولية (أمنستي) عن « المسلخ » البشري الذي أوجده النظام السوري، في سجن القرية، وتضمن قتل ما قد يزيد على 13 ألف شخص شنقاً عبر خمس سنوات، « جريمتهم » التفكير في معارضة النظام.
من دون الاحتلال الصهيوني ومن دون « الطغيان الأسدي » كان ممكناً أن تجد مساراً للحج يبدأ من صيدنايا ويصل القدس، يشير إلى معجزات البشر. مثل هذه الرحلة وثقها غابي أبو سمرا، في بحث بالإنجليزية عن « الحج بين صيدنايا والقدس »، بناءً على مخطوطات عثر عليها في لبنان. فكانت الرحلات من سورية إلى فلسطين، بكل الجمال العابر بينهما.
كانت صيدنايا لتكون جزءا من خليط جميل، مسيحي مسلم. فعندما كتب طريف خالدي، ابن القدس، كتابه « المسيح المسلم » (The Muslim Jesus) فإنه كتب جامعاً أمثالا ومقولات يومية عن المسيح عليه السلام، تقال باللغة العربية، ليكشف « الحب التقليدي للمسيح الذي ميز الفكر الاسلامي »، في انعكاس لبحث الإنسان عن الحب من دون تعصب ومن دون اشتراط التطابق في الفكر والعقيدة، وتمتد مثل هذه القصص من صيدنايا إلى القدس.
لكن للصدفة والمفارقة، وللأسف، أن أساطير الأولين تشير إلى أنّ صيدنايا هي، بحسب بعض الروايات، المكان الذي قتل فيه قابيل شقيقه هابيل؛ كأنّها المكان الذي يختار فيه الإنسان بين الحياة والموت، والقتل والأمل، والوحش والإنسان.
نفى النظام السوري تقرير « أمنستي »، وكما العادة اعتبره جزءا من حملة لتشويه « سمعة سورية ». ولكن السؤال الذي يجب أن يسارع إليه كل من يتشبث بمثل هذا النفي الواهن، هو: هل يتذكرون كم مر عليهم شخصياً من قصص السجون في سورية؟ ليس ضرورياً تَذكُر الكتب والقصص الموثقة، من مثل قصة مصطفى خليفة التي وثقها في كتابه « القوقعة » وتجمع مزيجا مسيحيا مسلما بمواجهة المجرمين؛ فهو مسيحي قضى ثلاثة عشر عاماً من التعذيب في سجون النظام السوري، بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين. يكفي للكثيرين أن يتذكروا القصص الشخصية التي عرفوها عن هذا النظام. وأتساءل: كم أردنيا، ولبنانيا، وفلسطينيا، وقبل ذلك سورياً، لم تمر عليه قصص شخصية عن جرائم وسجون هذا النظام؟
قد تثير الروايات قصص محاكم التفتيش في إسبانيا/ الأندلس، وقصص المحارق النازية، وصبرا وشاتيلا، وتضاف لها، أو تتجاوز جزءا منها، لكن الاستماع للفيديوهات التي توثق قصص بعض من نجا من سجن صيدنايا، تكشف ربما رعباً لم يوثق عبر التاريخ، ألا وهو رعب الاستماع.
لم يمر في التاريخ (بحد ما أعلم) توثيق لرعب الاستماع.
بحسب الشهادات، كان الحديث ممنوعاً، والسؤال ممنوعاً، ويزداد الضرب والتعذيب اذا ارتفع صوت الألم ويقل إذا خفت. وكما يقول أحدهم « الهدوء هو سيد الموقف في صيدنايا، لا يسمح بصوت عال، ودائماً يجب أن تتحدث بنبرة منخفضة، وهذا ما يجعلك تسمع كل شيء ». مع الوقت، تعرف الجلاد القادم من صوت أقدامه… قدوم الطعام من صوت الأواني.
تموت كل الحواس وتبقى هذه الحاسة، وتصبح درجة السمع أعلى.
تعرف نوع التعذيب في الزنزانة المجاورة من نوع الضرب؛ هل هو بالكرباج أم بالعصا المسماه « الأخضر الإبراهيمي ». وتسمع طنين السيارة فتعرف بمجيء دفعة مساجين جدد سيمرون بحفلة التعذيب. وبعد السيارة اذا سمعت بكاء تعلم أن التعذيب بدأ. وإذا لم يكن هناك بكاء وكان هناك حركة ناس كثيرة تعرف أن حفلة إعدام تجري. إذا جاء صوت البكاء والتعذيب من مهجع تنتظر الاستماع، فاذا تكرر الصوت من مهجع آخر، تعرف أنّ دور مهجعك وضربك آتٍ. قد يصعب وصف صوت صفير الهواء في أيام البرد، ولكن من يتذكرونه يتذكرون نظرات صامتة تبادلوها على وقع الصفير، لأن الموت برداً تكرر في هذه الحالات.
في صيدنايا الحج يمكن أن يكون الصمت خشوعاً وجمالاً في حرم الإنسان والحب. وفي صيدنايا الأسد–قابيل يكون الصمت هو الصوت المرافق للعذاب ونزع الإنسانية.