عبادة ‘البسطار’- صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 20 mai 2014

بعد ثلاث سنوات أعقبت وفاة أبيه حافظ الأسد، وتوريثه مقاليد سلطة ‘الحركة التصحيحية’، خلال وصلة مبتذلة شهدها مسرح الدمى الباصمة، (أو ‘مجلس الشعب’ في تسمية النظام)، اقتضت تعديل موادّ الدستور، الاستبدادي أصلاً، بما يتناسب مع عمر الوريث؛ وضمن استيهاماته الجارفة حول ضرورة تمييز شخصيته، ‘الشابة’ و’العصرية’ و’الإصلاحية’، وقتل الأب السياسي والسيكولوجي ما أمكن؛ بلغ بشار الأسد الخلاصة التالية: عسكرة المجتمع على الطراز الكوري الشمالي (نموذج كيم إيل سونغ تحديداً، الذي كان الأسد الأب مولعاً بأفكاره ونظامه وطرائق إدارته للمجتمع والدولة والحزب في آن)، لم تعد لائقة. فضلاً عن أنها أسفرت عن النقيض أحياناً، كما في نجاح جماعة الإخوان المسلمين في اختراق منظمات شبيبة والطلبة التابعة لحزب البعث، ‘قائد الدولة والمجتمع′.
وهكذا، خلع فتيان سوريا ثياب ‘التربية العسكرية’، أو ‘الفتوّة’ في التعبير الأكثر شيوعاً، وعادوا إلى ارتداء أزياء مدرسية موحّدة ذات ألوان أخرى غير الخاكي العسكري التاريخي؛ بل لقد تعمّد خبثاء النظام اختيار ألوان أكثر إنسانية وبساطة وجمالاً، زهرية وسماوية ورمادية، تنزع عن الطلاب والتلاميذ (من حيث المظهر الخارجي، في أقلّ تقدير) صفات ‘جنود’ و’شبيبة’ و’أشبال’ الأسد. كذلك توجّب تخفيف عمليات العسكرة المباشرة، على طراز مطلع الثمانينيات، حين تولّى رفعت الأسد ومفارز ‘سرايا الدفاع′ تدريب الشبيبة (والشابات، بصفة خاصة) على القفز المظلي مقابل إعفائهم من معدّل الدرجات المطلوب للانتساب إلى كليات الطبّ والهندسة. وعُدّلت، أيضاً، أنظمة عسكرة اتحاد الطلبة عن طريق إلزام الطلاب الجامعيين بأداء تدريب عسكري مستمر، والخضوع لمعسكرات صيفية.
كذلك، وبالتوازي مع هذه ‘المقاربة’ الجديدة، كان مهدي دخل الله (رئيس تحرير صحيفة ‘البعث’، الناطقة باسم الحزب الحاكم، قبل أن يتولى وزارة الإعلام، في خريف 2004)، قد فاجأ رفاقه البعثيين بهجوم كاسح ضدّ ‘المنطلقات النظرية’ للمؤتمر القومي السادس للحزب (وهذه، لمَنْ لا يعرف، ‘درّة’ و’مفخرة’ التيار اليساري في حزب البعث بجناحَيْه، حيث يتردد على نطاق واسع أنّ المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ شارك في كتابتها)؛ وذلك بحجة أنّ ‘الدهر أكل عليها وشرب’، وآن أوان وضعها على الرفّ! كذلك بدا دخل الله حريصاً على التمييز بين ‘بعــث سوريا’ و’بعث العراق’، فليس كلّ بعث بعثاً أيها السادة في واشنطن، لندن (وإياهم كان يعني الرجل، ويخاطب)؛ وإلا، فماذا نقول ـ حسب محاججة دخل الله العبقرية! ـ في… ‘حزب البعث الروسي’!
هذان التطوران، في المستوى التربوي ـ العسكري، والمستوى الحزبي ـ العقائدي، ارتديا أهمية خاصة إضافية، بالنظر إلى ما أخذ النظام يشهده من تفاعلات داخلية وخارجية، نتيجة الاحتلال الأمريكي للعراق؛ وما أسفر عنه المشهد الإقليمي من ضغوط مباشرة على خيارات الأسد، في العلاقة مع الولايات المتحدة تحديداً. انحناء، كان أحياناً أقرب إلى ركوع، أمام العواصف، من جانب أوّل؛ ويقين، من جانب آخر، أنّ الحفاظ على تراث ‘الحركة التصحيحة’ في ملفات بنيوية كبرى (مثل فتح شبكات الولاء على مصراعيها، مقابل تضييق هرمية السلطة بحيث تبقى حكراً على الحلقات الأصغر والصلاحيات الأوسع والامتيازات الأقصى، وقتل أيّ وكلّ حراك سياسي أو مدني يمكن أن يتيح انعتاق الاجتماع السوري من ربقة الاستبداد، وإغراق السوريين في خواف مستديم من سرديات كارثية تُقعد لبنان والعراق…)، يظلّ أهمّ وأبقى.
ليس مدهشاً، إذاً، أن يرتدّ الوريث اليوم إلى فلسفة العسكرة ذاتها التي اعتمدها أبوه طيلة 30 سنة، فلا تنتشر مظاهر العسكري في المدن والبلدات والقرى الموالية تحديداً، فحسب؛ بل تتعاظم أيضاً أنماط عسكرة الماضي، فلا تقتصر على ‘التربية العسكرية’ وحدها، وإنما تحوّل ما يسمّيه النظام ‘قوات الدفاع الوطني’ إلى قطعات (بل قطعان!) موازية للقوّات النظامية الموالية، وإلى ميليشيات هوجاء عمياء، تؤجج المشاعر الطائفية، مثلما تشتري وتبيع أمن المواطن البسيط، وتتاجر بالسلاح والذخيرة. وعلى مدخل مدينة اللاذقية، مثلاً، حيث أوكار أفواج الشبيحة الأشدّ فاشية وتغوّلاً، احتفل رجال النظام بتدشين ‘نصب’ تذكاري لا سابق له، في التاريخ المتمدن، من حيث ابتذال المعنى وانحطاط الدلالة: حذاء عسكري ضخم، يجاور مجسّماً لطلقة رصاصة!
وبهذا المعنى فإنّ اللون الخاكي يبدو أقلّ مهانة للبشر، أياً كانت انحيازاتهم، من ‘بسطار’ يُرفع على الرأس في مسيرات التأييد، أو تحضنه صبية ‘منحبكجية’ وتُشبعه لثماً وتقبيلاً. كأنها تقول، في تنويع يخطر على البال: ‘بشار! عسكر! بسطار وبسّ!’…