عندما لا ندرك ما نتمناه – سلام الكواكبي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 16 mai 2012

عاشت النخب في المنطقة العربية طويلا على التمني والترقّب واعتمدت في مسارها الفكري على وضع الأطر والتنظير والتحليل المثالي لأحداث ووقائع مع القليل من بُعد النظر المتربص بالآتيات من الأيام· ولا تعتبر هذه المنهجية سلبا بالمطلق، بل هي أسست لمدارس ولاتجاهات ساهمت في رفد تيارات سياسية وفكرية بعتادها اللازم· وهذه النخب أيضا، والحق يقال، دفعت جزءا من ضريبة الاستبداد بحيث أقصيت عن العمل العام وعن وسائل التعبير حتى وصل الأمر بالبعض منها إلى السجون، وفي حالات نادرة ولكنها مؤثرة للغاية، دفع بعض أعضائها حياتهم مقابل التعبير عن الرأي الذي ما فتئوا يتمسكون به·

وبالطرف المقابل، فقد أفرزت هذه النخب فئات من مثقفي السلطان وممجديه· وساهم هؤلاء عن وعي أو عن ضعفِ فيه، بوضع الزيت في عجلة القمع والتسلط· فمن جهة، أرادوا أن ترتدي مواقفهم الضبابية لبوسا تبريريا، مدافعين تارة عن علمانية متخيّلة أو عن اشتراكية موهومة أو عن ممانعة هلامية أو عن مقاومة كلامية· ومن جهة أخرى، لم يحتاج الكثيرون منهم إلى كل هذه التبريرات وانساقوا كالقطيع في تيار التملّق والتمّجد طمعا بوظيفة أو بمنصب أو حتى بمنحة تنزل عليهم من كرم  »صاحب » البلاد أو مندوبيه الأمنيين·

ومع الثورات العربية أو الحركات الاحتجاجية العربية، سموها ما شئتم، وجد أفراد هذه النخب أنفسهم أمام واجب اتخاذ الموقف، فسارع البعض ممن يحملون الذخيرة الفكرية اللازمة والمستندة إلى قواعد حقيقية من الفهم المعمّق لمجتمعاتهم، إلى توضيح موقفهم واللحاق بركب قطار الحراك الثوري وما يسببه هذا من خسائر مادية وجسدية· وقد ساهمت كتاباتهم السابقة، ولكن خصوصاً تلك التي أبدعوها بعد اندلاع الحراك، في تأسيس إطار فكري لازم للحراك الثوري العفوي· واعتبرهم البعض ضمير الثورات المستتر وذخيرته الفكرية ومرجعيته التنظيرية·

أما البعض الآخر، فقد انزوى باحثاً عن تبرير لسنوات عجاف أمضاها في التنظير وعجز عن فهم الواقع المستحدث، فأصبح يجد لنفسه المسوغات ويبحث في كومة القش عن هنّات الثورات ليرضي تقصيره وابتعاده الذاتي عن اتخاذ الموقف الواضح والصريح· ولقد أصبغ صمت هذه الفئة عليها شيئاً من الحماية والنسيان· مما يساعد على أن تكون عودتها إلى حظيرة الحرية إن هي هلّت، بمثابة مشاركة لاعبي الاحتياط في كرة القدم في الوقت المستقطع من المباراة·

وأخيرا، اختارت فئة ثالثة، تتسم بضعف قناعاتها السياسية والعلمية، أن ترمي بتاريخها الأدبي والفني والثقافي وراءها، وأن ترتمي عارية من كل مبدأ في أحضان الطاغية أو المستبد  »العادل »· ونشطت هذه الفئة في تضخيم أخطاء المسارات الثورية واستعمالها كمبررات للهجوم على المسار وتحطيم مصداقيته والتحذير من نتائجه· وأصبحت تطالب القائمين عليه أو المنخرطين فيه أو المقتنعين به، بأن يدافعوا عن سياسات دول لا علاقة لهم بها، أو أن يثبتوا بأن لا علاقة لهم بهذه الجهة أو تلك، أو بأن يلتزموا مواقفا  »قومية » وهي بالأحرى  »قومجية » لكي يجدوا لأنفسهم مقعدا بين  »الشرفاء الوطنيين » وهي مجموعة محظية ينحصر منح شهادات الانتساب إليها بأجهزة الأمن وأتباعهم من  »مثقفي » السلطان أو خلاّنه·

هذه الفئة، وإن تمتع بعض أفرادها بالحد الأدنى من الثقافة، وإن برز بعضهم الآخر في حقله الاختصاصي كشاعر أو روائي أو موسيقي، إلا أنهم لم يكونوا يوما مثقفون عضويون غرامشيون· لقد جرّدوا الثقافة والمثقف من أهم تعريفاته اليسارية· هذه اليسارية التي يتلحفون بها الآن لرفض الآخر ولرفض اتخاذ الموقف الوطني الصريح، بل أنهم يستخدمونها لاتخاذ موقف سلبي وحاقد وجارح بحق مئات، بل آلاف ضحايا القمع·

لقد ساهم جزء كبير من هؤلاء في إطالة عمر السلطان في دولٍ عدة· تارة باللجوء إلى تبني مفهوم المستبد العادل  »العلماني »، وتارة في التحصّن خلف شعارات المواجهة الكبرى للمشاريع  »الإمبريالية » المتربصة بثرواتنا، في حين أن نهبها من قبل أولياء الأمور، فقضية هامشية لا تحرّك لديهم أي شعور من ضمير· وفي ظل الكذبة الأولى التي ترجمتها صفة العلمانية، تطورت الأكاذيب حول اشتراكية مزعومة أو ممانعة ومقاومة متوهمة مما أدى إلى أن تعتمد الأمنوقراطيات العربية على هؤلاء الدعاة في تأسيس خطاب سياسي كان غالبا ما يرافق أو يلي القمع الأمني·

بعد انتصار التغيير في بعض الدول وتحوّله إلى عملية انتقال صعبة ومعقدة ومليئة بالتحديات وبالمواجهات وبالتراجعات حتى، عادت هذه الفئة إلى البروز واستخدام الأخطاء المنبثقة عن الثورات لمهاجمتها ومهاجمة من قام بها أو من اقتنع بها كحد أدنى· وذهبت بعيداً في تحليل نتائج الانتخابات بما يتناسب مع التحذيرات والتهديدات التي كان يحملها خطاب التشكيك والترهيب· وبدا بالنسبة للبعض بأن المجتمعات العربية كانت تعيش في حال الرخاء الاقتصادي المثالي وعدالة توزيع الثروات، وبأنها كانت تتميز عن نظيرتها السويدية والسويسرية بالتحرر النسوي وبالممارسات الاجتماعية المنفتحة، وجاءت هذه الثورات لتقضي على هذه الصورة الوردية، وتعيد المجتمعات إلى عصور غابرة تم تجاوزها بوعي وتؤدة من قبل  »المستبد العادل »·

توصيف سريع لفئات متعددة تشكل الجسم العام للنخب الثقافية والفكرية، ولكنه يجب أن يساهم أيضا في تحديد الحدود فيما بينها ويمكن أن يساعد أيضا في تجنب تبني موقف الفئة الأخيرة من حيث ندري أو لا ندري· فخيبات البعض من مماحكات عملية التغيير والتحوّل الجارية في بلاده، لا يمكن أن تكون مبررا للتحول باتجاه الندم أو الترّحم على النظام الفائت أو الذي في طريقه للزوال· لا خيبة تبرر الانقطاع عن المنطق وعن الفهم الصحيح لطبيعة المجتمعات التي نعيش فيها· المساهمة بالعملية التراكمية ضرورية للتقدم باتجاه الأمام والمعرفة المتعمقة لطبيعة المجتمعات وتركيباتها خارج الصالونات الأدبية وعواميد الصحف، تساعد أيضاً في إضفاء صبغة التواضع في التحليل·
http://www.djazairnews.info/trace/37-trace/38776-2012-05-14-17-10-20.html