عن الأسد وخطابه – د. أحمد يوسف أحمد

Article  •  Publié sur Souria Houria le 17 janvier 2012

بعد شهور من الصمت ألقى الرئيس السوري خطاباً يوم الثلاثاء الماضي تضمن رؤيته للأزمة السورية وسبل الخروج منها. يلفت النظر أن ما يقارب العام قد انقضى على ثورتي تونس ومصر ومن بعدهما الثورتان اليمنية والليبية، ومع ذلك فإن إدراك القيادة السورية للموقف ما زال على ما هو عليه، وكأن نظماً لم تسقط وحكاماً لم يجبروا على الهرب أو التنحي أو يقتلهم الثوار، فما زال الثوار والمعارضون جماعات من « الإرهابيين » يتحركون بوحي من قوى أجنبية وعربية، وتدعمهم أجهزة إعلام كاذبة تحاول دفع السوريين إلى الوهم والسقوط والانهيار! والمشكلة أن هذا التشخيص يكاد يتطابق مع مثيله التونسي والمصري واليمنى والليبي، علماً بأن أبسط مبادئ التحليل العلمي تشي بأن العوامل الخارجية لا يمكن أن تكون هي العوامل الرئيسة في تفسير ظاهرة ما

ينطوي تشخيص القيادة السورية على تناقضات كامنة أولها ما سبقت الإشارة إليه حالاً من نسبة ما يحدث في سوريا إلى عوامل خارجية، وثانيها أنه لم يتعرض أصلاً لتفسير كيف أن نظاماً سياسيّاً يرى فيه الأسد ونخبته نظاماً نموذجيّاً يُخترَق إلى هذا الحد من « الإرهابيين والمخربين » دون أن تتمكن مؤسسات النظام السياسية والأمنية والعسكرية من أن تضع حداً لاختراقهم، وكيف تستطيع وسائل إعلام خارجية مهما بلغت قوتها أن تدفع شعباً إلى الثورة على « نظام نموذجي » يعيش في كنفه، وكيف أن القيادة لا ترى في سقوط آلاف الشهداء والجرحى وهروب آلاف أخرى إلى دول مجاورة -لا ترى في ذلك تآكلاً في شرعية النظام. ومشكلة إدارة الأزمات السياسية في هذه الحالات أن هذا الإدراك المشوه للأزمة لابد أن يفضى إلى قرارات عاجزة عن مواجهتها، فتكون النتيجة مزيداً من التعثر والسقوط

خص الرئيس السوري الجامعة العربية بجزء يعتد به من خطابه، فقد فشلت خلال ما يزيد على ستة عقود في إنجاز موقف يصب في المصلحة العربية، وهي جامعة منزوع عنها صفة « العروبة » وإنما تحولت إلى « مستعربة »، ثم أضاف أنه إذا كان بعض الدول العربية يسعى إلى تعليق « عروبة » سوريا في الجامعة فإنه يعلق « عروبة » الجامعة، واعتبر مبادرة الجامعة العربية « منصة انطلاق » إلى مجلس الأمن. والحقيقة أن هذا التشخيص -مع الاعتراف بوجود عوامل ضعف بنيوية في الجامعة- ينطوي على مغالطات بينة، إذ أنه عبر تاريخ الجامعة نستطيع أن نتحدث عن دعمها المعنوي والمادي لحركات التحرر في الوطن العربي في خمسينيات القرن الماضي، وعن احتضانها في النصف الأول من ستينيات ذلك القرن مشروع الكيان الفلسطيني، وعن تجنيب النظام العربي ويلات الانقسام والصدام في أزمة المطالبة العراقية الأولى بالكويت في 1961، وعن توفير الآليات المطلوبة لحصار نظام الحكم المصري بعد خروجه على مألوف سلوك النظام العربي واتجاهه منذ 1977 إلى سياسة منفردة لتسوية الصراع مع إسرائيل

وإذا كانت الإجابة بالنفي على الأسئلة السابقة، وكان تشخيص القيادة السورية للجامعة العربية صحيحاً، فلماذا بقيت سوريا داخلها طيلة هذه العقود من الإخفاق؟ ولماذا لم نسمع عن محاولات سورية دؤوبة لإخراج الجامعة من حالة التردي التي تعانيها؟ ثم إن تشخيص القيادة السورية لمكانة سوريا في الجامعة العربية ينطوي على مبالغات غير مقبولة. صحيح أن سوريا ركن أساسي في بنية النظام العربي، ولكن القيادة السورية وقعت هنا في خطأ علمي آخر وهو أن « الجزء » مهما كانت أهميته لا يمكن أن يكون أهم من « الكل »، وهذا يعنى في حالتنا هذه أن فرض « عزلة » عربية على سوريا لا يعنى عزلة الجامعة العربية. أما الحديث عن « المبادرة العربية » تجاه الأوضاع في سوريا واعتبار هذه المبادرة « منصة انطلاق إلى مجلس الأمن » فهو ينطوي بدوره على تناقض آخر، صحيح أن بعض النظم العربية ربما يكون راغباً في تصفية حساباته مع النظام السوري، ولكن أي مراقب منصف يعلم أن هناك اتجاهاً قويّاً داخل الجامعة لعدم تكرار التجربة الليبية، ولا يقل عن ذلك أهمية أن الحديث عن نوايا خبيثة خلف المبادرة العربية يتناقض مع قبول سوريا هذه المبادرة، وتفاوضها الممتد حولها، وقبول مبدأ المراقبين العرب بعد طول ممانعة

ماذا عن الحل إذن؟ من المهم هنا الإشارة إلى أن الرئيس السوري لم يرَ آلية للإصلاح سوى الحوار الوطني والدستور الذي قارب الإعداد وسيستفتى الشعب عليه. أما عن الحوار فقد ازدادت الفجوة بين النظام ومعارضيه عبر دماء الآلاف من الشهداء والجرحى، ولذلك فإن آفاق حوار وطني حقيقي تكاد تكون مسدودة خاصة وقد استبعد الأسد منه قوى المعارضة الموجودة في الخارج التي تعمل وفقاً لتوجيهات القوى الأجنبية حسب تصوره، في الوقت الذي لم يشر فيه بحرف إلى نوعية قوى المعارضة التي يمكن أن تشارك في حوار كهذا. وأما مشروع الدستور الجديد فلا نعرف الكثير عن القوى الحقيقية التي تكمن خلفه، وإن كان انحيازها للنظام القائم مرجحاً أو على الأقل فهي لن تفرز دستوراً يحقق الإصلاح والتغيير المنشودين لأنهما سيفضيان إلى تقويض نظام لا يستفيد منه الأسد فحسب وإنما نخبته العسكرية والمدنية والتجارية أيضاً، وتعلم هذه النخبة أن في تقويض النظام قضاءً مبرماً عليها. وفضلاً عن كل ما سبق فإننا لا نعرف أيضاً لماذا تأخر مشروع الدستور الجديد طيلة هذه الأشهر على رغم تفاقم الموقف السياسي والوضع الأمني

تبقى مسألة التدخل الخارجي سواء كان أجنبيّاً أو عربيّاً أو مزيجاً منهما، والحقيقة أنه على رغم النوايا السيئة المحتملة لبعض الدول التي تطالب بهذا التدخل، فإنه في الوقت نفسه أصبح مطلباً ملحّاً لقطاعات من الثوار أنفسهم. ومع ذلك يبقى التدخل الدولي ملتبساً للغاية، أولاً لأنه يخلط بين سوريا الدولة وسوريا النظام، وبفرض أنه ممكن فقد يتجه بالأساس إلى تدمير الجيش وليس النظام السوري، ذلك أن القوة السورية مهما كانت ممارسات النظام الحالي في سوريا تبقى إضافة للقوة العربية في مواجهة أية تحديات قادمة، وثانيّاً لأن تنفيذه يبدو مسألة معقدة للغاية سواء كان عربيّاً أو أجنبيّاً أو مختلطاً. عربيّاً لأننا نعرف أن الانقسامات بين الدول العربية وعدم وجود تنسيق مسبق بينها لمواجهة مثل هذه المواقف من الممكن أن يجعل من هذا التدخل كارثة حقيقية، وأجنبيّاً لأنه ما من قوة عظمى أو كبرى إلا وتواجه مشكلات معوقة لهذا التدخل، فالإدارة الأميركية خرجت بالكاد من مغامرة الغزو العسكري للعراق في 2003 وبقي لها أن تواجه الوضع في أفغانستان، والدول الأوروبية غارقة في أزمة اقتصادية ممتدة لا يمكن أن يكون التدخل العسكري في موقف كالموقف السوري الراهن متسقاً مع مقتضيات الخروج منها

يبدو إذن أن الحل الوحيد يكمن في صمود الثوار واستمرار الثورة حتى ينتفض الشعب السوري بأكمله ضد ممارسات النظام، وقد تحدث انشقاقات متزايدة في مؤسسات النظام وعلى رأسها المؤسسة العسكرية مما يجعل الموقف أقرب إلى حالة الحرب الأهلية، وقد يمثل هذا في حينه سياقاً يبرر التدخل الخارجي على رغم كل سوءاته ومحاذيره. أعان الله شعب سوريا الحبيبة وأمده بالقوة والعزم والإصرار، فهي المفاتيح الوحيدة لنجاحه في استخلاص حقوقه

الاتحاد – ١٧ يناير ٢٠١٢

http://www.alittihad.ae/wajhatprint.php?id=63636