عن سورية والسوريين- الياس خوري

Article  •  Publié sur Souria Houria le 11 juin 2013

كانت الثورة السورية بمساراتها ومآسيها، مكانا للتعرف الى سورية من جديد. البلاد التي كانت محتجبة خلف برقع الاستبداد، كشفت عن كل وجوهها دفعة واحدة، وأعادت تشكيل نفسها على ايقاع انفجار الكرامة، الذي صنع ثورتها المستمرة منذ سنتين وثلاثة أشهر.
لم يتسنَّ لي زيارة سورية خلال هاتين السنتين الطويلتين، لكن سورية كانت في بيوتنا جميعا، من صور حمزة الخطيب المجللة بموت الشهداء، الى صور وفيديوهات المظاهرات الشعبية، حيث امتزج رقص البدايات واهازيجها بالدم والتضحية والشجاعة.
لكن الصور، على الرغم من أهميتها، لا تكشف سوى جزء صغير من الواقع. المشهد السوري صنعه الناس الذين انفجرت الحرية فيهم، فغادروا الخوف واللامبالاة، وواجهوا الطغاة بصدورهم وحناجرهم.
يجب ان لا ننسى، والثورة السورية امام هاوية الحرب الأهلية الطائفية التي يدفعها اليها المستبد واعوانه وحلفاؤه، اننا كنا ولا نزال امام انفجار شعبي لا سابق له، وان آلة القمع التي عربدت طويلا بلا رادع، تريد اليوم ان تنهي عربدتها عبر تحويل سورية الى رماد.
لا اريد ان اتحدث عن شعوري بالخزي والعار وانا ارى على الشاشة الصغيرة مشاهد احتلال القصير، والاحتفالات الطائفية المذهبية التي رافقته، ولا ان ابدي قلقي من الهجوم العام الذي يشنه النظام بواسطة ميليشيات شيعية اتت من لبنان والعراق، فأنا اعتقد ان آلة القتل مهما حققت من نجاحات، فهي عاجزة عن سحق ارادة شعب اضاء حريته بدماء ابنائه.
كما لا اريد ان اناقش الجنون الطائفي، الذي يدفع الى تحشيد يمتد من ايران الى لبنان مرورا بالعراق، من اجل دعم الديكتاتور الابن، وتأبيد تسلطه على الشعب السوري، فهذا الاستنفار هو علامة خراب المنطقة، ومؤشر بؤسها، لأنه يحول الحاضر الى ماض، ويسلم المستقبل الى المجهول.
اريد ان استعيد المشهد السوري، من خلال عيون سوريات وسوريين تسنى لي ان التقي بهم في لبنان. لاجئون ومثقفون وناشطون، فقراء ومن الطبقة الوسطى، صاروا جزءا يوميا من حياتنا اللبنانية. هؤلاء الذين يواجهون هنا حملة عنصرية مخجلة، وهم يعيشون محنة اللجوء والغربة، يأتون الينا في لبنان بصورة أخرى مختلفة عن تلك الصورة التي فرضها نظام الاستبداد خلال هيمنته الطويلة على لبنان.
دخل الجيش السوري الى لبنان عام 1976 على انقاض الحركة الوطنية، وفي تحالف معلن مع الجبهة اللبنانية التي قادت الحرب ضد المقاومة الفلسطينية. لكن سرعان ما انكشف ان لا حليف لسلطة الاستبداد السورية سوى العميل الذي يتلقى الأوامر وينفذها. ليس هذا موضوعنا اليوم، فالحرب اللبنانية حكمت على لبنان بالاعدام منذ ان تغلب فيها العامل الطائفي على العامل الوطني الديموقراطي، فالطائفية ليست سوى وصفة للاحتضار الطويل، وهذا ما يراه السوريون اليوم بأم اعينهم.
اختُصرت سورية في لبنان بعنجر واهوالها، وبزنازين البوريفاج. وبدا جنرال المخابرات المقيم في عنجر وكأنه الحاكم المطلق، وامتلأت البلاد بالمخبرين. حتى صورة العامل السوري الفقير، الذي بنى بساعديه غابة الاسمنت البيروتية بدأت في التحول. صار للعمال مقاولون من رجال الأمن، وبذا لم يفقدوا فقط آخر آمالهم بتحصيل الحد الأدنى من حقوقهم، بل صاروا جزءا مُستَغلا من آلة قمع يتشارك فيها الرأسماليون اللبنانيون مع فارضي الخوات من رجال الأمن السوريين.
هذه الصورة سمحت لبعض العقول الطائفية اللبنانية المريضة بأن ترفع خلال انتفاضة الاستقلال شعارات عنصرية ضد العمال السوريين، وان تقوم بممارسات قمعية مخجلة، عبرت عن كبتها العنصري الطويل.
اليوم نكتشف سورية الأخرى، سورية الناس الذين يشبهوننا ونشبههم. سورية اللاجئين، الذين يعيشون في شروط انسانية هي دون الحد الأدنى، وسورية الناشطين، الذين واللواتي يأتون في زيارات خاطفة الى لبنان فيزرعون في قلوبنا الأمل.
معهم نكتشف ان ‘تشبيحات’ الفضائيات العربية، مختلفة عما يجري في ارض الواقع. ففي سورية اليوم حرب طاحنة، وهذا صحيح، ونراه كل يوم على الشاشة الصغيرة، لكن فيها ايضا ثورة شعبية حقيقية، ومناطق محررة تديرها لجان شعبية، وحلم يصنعه الناشطات والناشطون بولادة وطن يتمتع فيه الناس بحق المواطنة.
هذه السورية التي لا تزال تتعالى على الجنون الطائفي الأعمى، الذي يشعله التدخل الخارجي: الميليشيات المسلحة الآتية من خارج الحدود براياتها وشعاراتها المذهبية من جهة، والسعار الطائفي في فضائيات النفط الذي يحرض على الفتنة من جهة أخرى.
الثورة السورية ليست ارض صراع بين ايران والسعودية وقطر، هذا الصراع هو غطاء الفتنة المذهبية الطائفية، وهو لا يصب سوى في طاحونة الاحتلال الاسرائيلي مهما كانت الادعاءات. الثورة السورية هي مشروع حرية وكرامة، لذا تجد نفسها وحدها وبلا دعم حقيقي من احد.
الخيار هو بين الثورة والحرب الأهلية، الثورة يتيمة وبلا دعم خارجي حقيقي مهما قيل ويقال، اما الحرب الأهلية فلها كل الدعم بالمقاتلين والسلاح. هذا هو المفترق السوري الكبير. وفي هذا المفترق نجد جذوة امل الثورة وهي لا تزال مشتعلة في عيون الناشطات والنشطاء الذين ارهقهم التعب، وخذلهم العالم، ويجدون انفسهم اليوم امام ضرورة التصدي لمشروع الحرب الطائفية التي هي بوابة تحويل سورية الى ساحة، بحيث تستعيد الدول الاستعمارية نفوذها تحت شعار حماية الأقليات.
لهؤلاء الذين لا يزالون يواجهون آلة القتل بصمودهم.
لهم ولهن شكرنا لأنهم اخذونا الى سورية التي نحبها، ونحن معهم في الألم والأمل في انتظار شمس العدل التي آن لها ان تبدد هذه العتمة.