فاروق مردم بيك – سوريا: سنة على الثورة

Article  •  Publié sur Souria Houria le 20 mars 2012

سوريا: سنة على الثورة
بقلم فاروق مردم بيك
(مقال نُشر في صحيفة لِبراسيون الفرنسية – عدد الخميس 15 آذار/مارس 2012)
(ترجمه إلى العربية محمود الغباش)

زهاء عشرة آلاف من الشهداء، ومثلهم أو أكثر من المختفين، وعدد طائل من المصابين بجروح خطيرة المتروكين دون علاج معوقين لباقي حياتهم، وعشرات الآلاف من المعتقلين الذين يسامون أفظع أشكال التعذيب، وأحياء شعبية تُقْصَف بالدبّابات والمدرَّعات في كل أنحاء البلاد، وتجاوزات ومجازر يومية لا يُستثنى منها لا النساء ولا الأطفال… ومع ذلك لـمّا يزل في العالم، وبما فيه فرنسا، من يناصرون نظام بشار الأسد مناصرةً معلَنة إلى هذا الحد أو ذاك، متفِّقين على اعتبار الثورة الجارية ’’مؤامرة إسرائيلية-أمريكية على سوريا المقاوِمة‘‘. وإذ يستعمل هؤلاء في الأغلب لغة اليسار المتطرف، عندما لا يجاهرون بأنهم من أقصى اليمين، بعضُهم من القواعد الناشطة وبعضُهم الآخر يجعلون من أنفسهم خبراء في الجغرافيا السياسية، فإنهم يظهرون مَظْهَرَ الأصدقاء للشعوب العربية، فيشجبون مناورات الإمبريالية، وأفاعيل المملكة العربية السعودية وقطر، والأكاذيب الوقحة التي تبثها قناتا الجزيرة والعربية الفضائيتان، والأفعال الإرهابية التي يقترفها السلفيون المتسلِّلون إلى سوريا، دون أن تراودهم أبداً فكرة التساؤل بكل بساطة عمّا إذا كان السوريون محكومين حكماً صالحاً، عمّا إذا لم تكن لديهم أسباب وجيهة لينتفضوا، وعن هوية هؤلاء المتظاهرين، الشباب والفتيان، الذين لم ينفكّوا، طيلة سنة كاملة، يتحدَّوْن شبِّيحة النظام المدجَّجين بالسلاح وفرقه الخاصة

من أهم خصائص النظام الحاكم في دمشق أنه أرسى شرعيته الإقليمية والدولية على أساس تغييب شعبه سياسياً، على أساس التستر على معاناته ونزع الطابع الشرعي عن تظلُّماته ومتطلَّباته. فطيلة عقدَي ثمانينات وتسعينات القرن العشرين الرهيبين، كانت كل سياسة حافظ الأسد تتلخَّص في عمله لتحقيق هدفين نشداناً لتأبيد سلطته: إقناع القوى العظمى بأنه لا غنى عنه، وإقناع السوريين بأنهم ليسوا سوى شيء مَهين، بأنهم غير موجودين ويجب أن لا يكون لهم وجود، بالمعنى السياسي. وبالمناسبة يُذْكَر أن مجزرة عام 1982 التي أُبيد فيها عشرون إلى ثلاثين ألف مواطن في حماه، بذريعة قهر بضع مئات من الإسلاميين المتمردين، لم تُثِر في أوروبا ولا في الولايات المتحدة الأمريكية إلا إدانات خجولة جداً، وأن العبرة من ذلك فُهمت جيداً في سوريا، التي أصبحت منذئذ ’’مملكة للخوف والصمت‘‘، كما أراد رئيسها. أما السنوات التالية فقد شهدت التنكيل حتى الموت في إطار من الكتمان بالسجناء السياسيين في سجن تدمر العسكري الرهيب، الذي يُعتبر عن حق معسكر اعتقال كان الجلاّدون فيه يفاخرون بأنهم ينزعون الصفة البشرية عن ضحاياهم، آيلين بهم وفق أقوالهم ذاتها إلى منزلة الحشرات

وفي الوقت نفسه عمل حافظ الأسد، القادر على كل شيء والموجود في كل مكان، على تنجيز البنية شبه الملكية لنظامه – الذي لا يجوز الاقتصار على تعريفه بأنه تسلطي أو استبدادي. فلا مُشاحّة في أنه كان، بعد وصوله إلى السلطة في عام 1970 بانقلاب عسكري، قد سهر على ضمان ولاء الجيش بإحلاله المقرَّبين منه في مناصب القيادة، وبتجاوزه هذا الجيش بميليشيات حَشَدها بصورة رئيسية ضمن طائفته الدينية وولّى عليها أفراد عائلته، مُكْثِراً أيضاً أجهزة الاستخبار المعهود إلى كل منها بمراقبة الآخر والمكلَّف جميعها بتطويق المجتمع. لكن فترة ثمانينات القرن العشرين هي التي اكتسبت فيها سلطته نهائياً صفة ’’الأبدية‘‘ بلغة الدعاية الرسمية، واستكمل فيها أخوته وأبناء عمومته وخؤولته هيمنتهم المافياوية على الاقتصاد الوطني، وتم فيها على الأخص تعيين ابنه الأكبر، باسل، بصورة شبه رسمية، ولياً للعهد، تعيَّنت الاستعاضة عنه في هذا المنصب الرفيع بعد ذلك ببضع سنين، إذ لقي حتفه في عام 1994 في حادث سيارة، بأخيه التالي في السن، بشار، بصورة طبيعية جداً. لقد نظَّم الحزب الواحد وأتباعه عبادة للفرد جنونية بكل معنى الكلمة، معبِّئين طوعاً أو قسراً الأوساط المدرسية والموظفين للمشاركة في مراسم الولاء للرئيس، التي لم يكن نادراً أن تشهد جلاوزة النظام يؤلِّهونه ويقدِّسون عائلته. وكثيراً ما رُؤوا يفعلون فعلتهم هذه في الآونة الأخيرة، إذ راح الابن يضبط خطاه على وقع خطى أبيه

إنه نظام عُصبوي، عائلي، لا يبالَغ بتأكيد أنه لا يحكم سوريا بل يحتلّها على غرار القوى الأجنبية. ولذا لم يشأ قط في الماضي إجراء أي إصلاح جدير بهذا الاسم _ وما كان يستطيع إجراءه لو أراد ذلك فعلاً تحت ضغط الأحداث – ولذا لن يقبل أبداً في المستقبل، مهما ظنَّ الروس والصينيون في هذا الشأن، الانخراط في حوار بنّاء إلى هذا الحد أو ذاك حتى مع معارضته الأكثر تراخياً. فكيف يُعلَّل، بغير هذه ’’الغربة‘‘ عن مجتمعه، كونُه لا يأبه أبداً بكل هؤلاء القتلى والجرحى، وعجزُه عن التوجه مباشرة وبصورة جدية إلى المتظاهرين مرة واحدة على الأقل خلال اثني عشر شهراً، وصَمُّه أذنيه حيال دعوات أصدقائه القدامى إيّاه إلى التعقّل؟ فمنذ أواسط آذار/مارس 2011 ردّ بشار الأسد على مطالب المتظاهرين الحريصين كل الحرص على سلميتهم بشكلين مختلفين: إما بالعنف والاحتقار، ما لم يكن من شأنه إلا جعل حركة الاحتجاج أكثر جذرية، وإما واعداً بتقديم أعطيات إلى هذه أو تلك من الفئات الاجتماعية متجاهلاً على نحو ظاهر المشكلات الجوهرية التي تهم المواطنين بأجمعهم. وإذا كان فيما بعد قد أوعز بإعداد دستور جديد مفصَّل على مقاسه، مفترَض أن يلغي من حيث الشكل الاحتكارَ السياسي الذي يمارسه حزب البعث على أن يبقي صلاحيات الرئيس كما هي، فقد بلغت به الوقاحة أن لا يجد أفضل من دعوة الأهالي إلى إقرار دستوره هذا بالاستفتاء بينما كانت حمص والرستن وإدلب ترزح تحت وابل من القنابل. وبمعزل عمّا يقول به المعجبون في فرنسا بحسن نصر الله، زعيم حزب الله اللبناني، الذي تحمَّس لهذا الاستفتاء وأعلن في اليوم نفسه أنه لم يكن يجري في حمص أي شيء خطير، لا ريب أن هناك أساليب أخرى، أنجع وأجدر بالاحترام، لمعارضة مرامي الشيطان الأكبر

فقصارى القول إن السوريين، الذين طالما أُذلّوا وجُرحت كرامتهم، تارةً باسم ’’المقاومة والممانعة‘‘، وتارةً أخرى باسم الاستقرار الإقليمي الذي، كما شُرح لهم، سيُهدَّد تهديداً خطيراً إذا ساورتهم الرغبة في زحزحة رئيسهم الخالد، يستحقون أن يُرى إليهم في آخر المطاف كما هم، وأن يُصغى إليهم. وعندها سيُعايَن أن لديهم جميع ما في الدنيا من أسباب لكي ينتفضوا، وأن النظام الذي يضطهدهم منذ أكثر من أربعين عاماً هو من أشنع الأنظمة على وجه المعمورة، وسيُدْرَك في نهاية المطاف أن بقاء هذا النظام، لا ذهابه، هو الذي ينطوي على خطر إغراق الشرق الأدنى كله بالنار والدم

version en français : http://souriahouria.com/2012/03/15/syrie-un-an-apres-farouk-mardam-bey/