فانون و’الربيع العربي’: العنف والتحرر – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 15 octobre 2012

2011، سنة انطلاقة الانتفاضات العربية، صادفت أيضاً الذكرى الخمسين لرحيل المفكر والطبيب النفسي والفيلسوف الاجتماعي والمناضل المارتينيكي ـ الجزائري فرانز فانون (1925ـ1961)؛ وكانت الذكرى ذاتها تسجّل انقضاء نصف قرن على كتابه الأشهر ‘معذّبو الأرض’، الذي صدر ومؤلفه يصارع سرطان الدمّ في مشفى أمريكي. (الترجمة العربية أنجزها الراحلان سامي الدروبي وجمال الأتاسي، ونُشرت سنة 1966). بيد أنّ الجانب الآخر، الجوهري، للمصادفة كان يتصل بسلسلة من أفكار فانون، لاح أنها تدخل في صلب النقاش، الفكري والسياسي والتنظيمي، لانتفاضات الشعوب العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسورية.
ومن المؤسف أنّ هذه الاستعادة لم تشغل حيزاً لائقاً، أو كافياً، في السجالات العربية؛ رغم أنّ مطاحن كلام هائلة دارت وضجّت وعجّت حول مسائل شتى تخصّ طبائع هذه الانتفاضات، وأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية.
وهكذا كان الاستئناس بأفكار فانون قد اقتصر، أو كاد، على محافل غير عربية عموماً؛ وفي تلك الأوساط التي اعتادت فتح ملفات ما بعد الاستعمار، وتحليل مفاعيلها السابقة واللاحقة، في ضوء أعمال فانون (كتابه الهام الأول ‘بشرة سوداء، أقنعة بيضاء’، 1952؛ ‘السنة الخامسة من الثورة الجزائرية’، 1959؛ ‘في سبيل الثورة الأفريقية’، 1964؛ بالإضافة إلى ‘معذّبو الأرض’)، بصفة خاصة.
لافت، إلى هذا، أنّ بعض تطورات الانتفاضة السورية ـ لا سيما ستراتيجية تسعير العنف التي انتهجها النظام، وسعى من ورائها إلى استثارة نزوعات العسكرة؛ ومثلها ستراتيجية ارتكاب المجازر، لدفع المدنيين نحو التسلّح، سواء بهدف الدفاع عن النفس، أو لتنظيم مقاومة شعبية في مواجهة آلة النظام العسكرية الوحشية… ـ قادت دفة النقاش إلى واحد من أبرز المفاهيم الإشكالية في كتلة أفكار فانون: العنف، والعنف المضادّ. صحيح أنّ فانون تحدّث عن عنف المستعمِر ضدّ المستعمَر، إلا أنّ ما ما اعتمده ويعتمده النظام السوري من أواليات العنف، العاري والمفتوح والهمجي والشامل، لا يذكّر بعنف ذلك الاستعمار الذي وصفه فانون، فحسب؛ بل يبزّه ويتفوّق عليه في الوحشية، خاصة إذْ ينطبق عليه معيار ظلم ذوي القربى… الأشدّ مضاضة.
وكما أنّ ‘محو الاستعمار’ كان، في نظره، ‘يستهدف تغيير نظام العالم’ و’قلب النُظُم قلباً تاماً’؛ فإنّ إحداث تغيير جوهري في حياة سورية، أو تونس أو مصر أو ليبيا، والانتقال بنُظُمها السياسية الاستبدادية والوراثية العائلية إلى أخرى ديمقراطية، لا يقلّ مغزى، في وجدان الشعب وحياة المجتمعات، عن دحر الاستعمار. فإذا لجأ المستعمِر، و/أو نظام الاستبداد المحلي، إلى ممارسة العنف المنهجي المنظّم (استلاب الثروات، تفتيت الهوية الوطنية، إجبار المواطنين على العيش في شروط اجتماعية واقتصادية ونفسية وصحية وتربوية وثقافية متدنية، وسنّ القوانين الجائرة، وممارسة النفي والإبعاد والاعتقال والتصفية الجسدية، وقصف المدن عشوائياً، وتنفيذ المجازر عن سابق قصد وتصميم، واستخدام الأسلحة المحرّمة…)؛ فبأي حقّ يُنتظر من الضحية أن ‘تكبح جماح النفس’، وأن تمتنع عن اللجوء إلى كلّ، وأيّ، وسيلة تكفل تفكيك ذلك النظام؟ أليس هذا ما رمى إليه فانون، حين تساءل: لماذا يكون من واجب الضحية أن تربّي قاهرها، وتعلّمه الأخلاق السلمية؟
والإنصاف يقتضي الإشارة إلى أنّ مسألة العنف لم تكن واضحة تماماً في مشروع فانون العام، وامتزجت عنده بمفهوم ‘استخدام القوة’ أحياناً، و’الكفاح المسلح’ أو ‘الانتفاضة الجماهيرية’ أو ‘الانبعاث الشعبي’ أحياناً أخرى؛ وفي معذّبو الأرض’ ذهب إلى حدّ الحديث عن ‘عنف مسالم’. كذلك فإنّ مقولته الشهيرة، حول الحاجة إلى ‘التطهر’ عبر العنف الثوري، قصدت ما يشبه عملية تخليص الجسد من سموم الكحول أو سموم المخدرات، كخطوة أولى ضرورية قبل التخلّص من الإدمان. والحاجة إلى ‘التطهر’ ارتدت عند فانون طابعاً جَمْعياً، أكثر ممّا هو فردي، وتقاطعت مع مفهوم معقّد آخر هو ‘صورة العالم’، كما تتباين وتتناقض بين المستعمِر/ القاهر، والمستعمَر/ المقهور.
وفي غمرة شدّ هنا أو جذب هناك، حول مفهوم العنف في تفكير فانون، فإنّ الأكاديمي الصومالي حسين عبد الله بلهان قطع ‘الخطوة الحرجة’، التي يتردد في الإقدام عليها عدد من كبار أنصار فانون في أوروبا وأمريكا، فوجّه إليه تحية إكبار لأنه امتلك الجرأة على تصوير العنف الاستعماري كما تراه، على الطرف الآخر، ثقافة خاضعة للاضطهاد المادي والنفسي. فالقهر، وفي جانب محدّد منه هو الاستبداد، لا يقوم بأقلّ من شَرْعنة العنف، وقَنْوَنته، وتنظيمه في مؤسسات بنيوية، فضلاً عن تجريد العنف الشخصي الذي يمارسه المستعمِر/المستبدّ من الطابع الفردي، وإسباغ الصفة القانونية عليه. وفوق هذا وذاك، ألا يدخل العنف في طبيعة الحركة اليومية للدولة المستبدّة، ابتداء من قوانينها ومؤسساتها، وانتهاء بمنظومتها الإيديولوجية والتربوية؟ ألا يمكن اختصار العنف إلى أية علاقة، أو سيرورة، أو شرط يسفر عن قيام فرد أو مجموعة بانتهاك الحقوق المتكاملة، المادية والثقافية والاجتماعية و/أو السيكولوجية لفرد أو مجموعة أخرى؟
إنّ إسقاط أنظمة الاستبداد، مثل التحرّر من الاستعمار، ‘يبثّ في الوجود إيقاعاً خاصاً’، حسب فانون، و’يحمل لغة خاصة، وإنسانية جديدة’؛ واستعادة هذا المفـــــكر والمناضـــل الكبير تواصل تلمّس الكثير من تلك البشائر، والتبصّر في إشكالياتها ومشكلاتها.

http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\14qpt998.htm&arc=data\2012\10\10-14\14qpt998.htm