في التراجيديا السورية وأقنعة الأبطال – نبراس شحيد

Article  •  Publié sur Souria Houria le 11 août 2012
مأساة الممثل الذي صار دورَه

نراهم يتسابقون على الكاميرا، يدوسون الجثث بفخر، ويتبارزون على احتلال مركز الصورة. نراهم يهتمون بتفاصيل إخراج المشهد، الصغير منه قبل الكبير، فيلفّون صدورهم بأمشاط الرصاص، يعرّمون أمام أجهزة التصوير ويزمجرون. لكن ماذا يفعل القاتل بعد انتهاء الفيلم وعودته إلى بيته خالعاً عنه « ثياب العمل »؟ لا بد أنه سيتمدد بـ »بيجامته » على الفراش ليشاهد مع زوجته منتشياً لحظات « بطولاته » المروعة. يتأمل الرجل ذاته بفخر، فيصدّق أكثر من أي وقت مضى، أن تلك الشخصية « الملحمية » التي تتلقفها عدسة الموبايل، وهي تنكّل بـ »الخونة »، ليست إلا هو ذاته، بشخصه، بشحمه ولحمه! هكذا يتقمص الرجل الحالم على فراشه شخصيتَه « البطولية »، يتداخل فيها، يتنفسها، على نحوٍ تصير فيه مسرحة « البطولة »، أو بالأحرى « أفْلمَتُها »، اختزالاً للشخص في الشخصية التي يلعبها، فيغرق القاتل في أقنعته التراجيدية!

 

البطل التراجيدي يُختزَل في قناع

ما يميّز البطل التراجيدي في المسرح الإغريقي عماه، فهو يقوم بدور البطولة، من دون أن يعرف أنه محض دميةٍ تتقاذفها أهواء « الآلهة »! في عماه هذا تكمن براءته. وفي صلفه البطولي الذي يعميه، تكمن مسؤوليته. الشبّيح في سوريا أيضاً بطلٌ تراجيدي، لأن جلّ ما يميّزه، في غالبية الأحيان، انسياقُه الكفيف وراء مجريات الأحداث، لتتقاذفه مصالح النظام من حيث لا يدري، وتُلبسه قناعاً بطولياً. لذا، تتلخص أزمة البطل التراجيدي، الإغريقي كما السوري، في أنه يستمد هويته كلها من الدور « البطولي » الذي يلعبه، فيصير محض قناع يخفي خلفه فقراً انسانياً وانسياقاً أعمى وراء شهوة البطولة وعبثية القتل. أزمة البطل التراجيدي إذاً هي أزمة هوية، لأن اللحظة التراجيدية ليست إلا لحظة تشوّه الوعي الفردي وتهشّم الذاكرة، يعيش فيها « البطل » حدود الآن، بجموحه الأرعن، من دون أن يكون قادراً على لملمة تاريخه وقراءة ماضيه. اللحظة التراجيدية إذاً هي لحظة غياب الوعي الذاتي الذي يميّز الكثير من قتلة كانوا ولا يزالون ضحايا نظامٍ يستميتون في الدفاع عنه. لذا، يثير فينا المشهد التراجيدي الخوفَ، على قول أرسطو، وفي الوقت عينه الشفقة! هذه حالنا تماماً إزاء أفلام القتلة: خوفٌ من توحشهم، وشفقةٌ على عمى بصيرتهم!

 

في تمزقات القناع يذوب البطل ويحيا الإنسان

تتلخص تراجيديا الواقع السوري في تماهي البطل مع دوره الذي يلعبه، ليصير إنساناً مصمتاً، لا يرى، لا يسمع، لا يتكلم إلا لغة القناع. أما الضحك فيؤسس شرخاً عميقاً بين الشخص ودوره الذي يقوم به، لأن التهكم بالدور يمنع صاحبه من أن يتطابق معه، فيتغرّب الشخص عن الشخصية التي يلعبها، ليؤسّس علاقةً نقدية معها (التغريب مصطلح مستل من مسرح بريخت). يتحدث أسامة الحلواني ونائلة منصور في مقالهما الملهم « أشعة ضوء في نفق الحياة السورية » (النهار 15/7/2012) عن لحظة « الخرق »: « نقلت الشبكات الاجتماعية حادثاً طريفاً في مدينة السلمية. فقد اجتمع الشبّان المحتجون في تظاهرة طيّارة صغيرة مرددين: « واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد ». فردّ عناصر الأمن المجتمعون في الجهة المقابلة: « واحد واحد واحد، منعرفكن واحد واحد »، فيغرق الجميع، من الجهتين في الضحك. لحظة الضحك تلك هي لحظة « خرق ». هي لحظة الجنون التي ينعتق فيها المرء من أقنعته ». في المقابل، « يصدّق (نوعٌ آخر من السوريين) قناعه ويأخذه على محمل الجد، فيذوب (القناع) ويتغلغل من تحت الجلد إلى الروح، لتنحسر إمكاناته التراجيدية وتنحصر في دور الشبّيح، فلا يعود قادراً على خلع القناع، فيستمر في القتل والتعذيب والاغتصاب ». تُلصق التراجيديا أبطالها بشخصياتهم، في الوقت الذي يُخضع فيه التهكمُ القناعَ إلى النقد، فيتحرر صاحبه من الأدوار التي يفرضها عليه الواقع السوري المرير، ليستعيد إمكاناته الخلاّقة.

 

في حدائق التهكّم مساحاتٌ فسيحة

كما يكسر التهكم تماهي الشخص مع دوره، يفكّ التهكم أيضاً التصاقنا بالواقع المأسوي، أو بالأحرى تماهينا معه. يعبّر الضحك عن علاقة الكائن النوعية مع واقعه بعيداً من العادية. فالضحك تعبيرٌ عن أمرٍ غير مألوف يُخرجنا من إيقاع الحياة الروتينية، ليضعنا وجهاً لوجه أمام غرابة ما يجري. في هذا المعنى، يصير الضحك مفردةً أساسية من مفردات الحقيقة، لأنه يعرّي لامنطقية الحاضر الذي فيه نعيش، فيرسم لامعقوليته بدرجاتها القصوى ويسخر منها. أقول هذا وأتذكر بكثيرٍ من الحنين كيف كنا نجتمع خفيةً، حين كنا تلامذةً في المدرسة ومن بعدها في الجامعة، لكي نتبادل النكت السياسية ونغرق في الضحك! كانت النكتة وسيلتنا الوحيدة لنقول مأساة واقعنا المقهور وغرابته، ولنتمرد على « أبدية » النظام وأحادية حزبه، على نحوٍ صارت فيه النكتة ضرورةً إنسانية نتحدى بها الكبت الذي يُفرَض علينا. لذا لا يمكن الضحك أن يكون محض تسلية وترفيه عن النفس، بل هو قبل كلّ شيء موقفٌ وجوديّ من العالم العبثي الذي فيه نوجد!
على عكس التراجيديا التي تعبّر عن توحّد الإنسان مع واقعه المأسوي، يعبّر التهكم عن اتساع المسافة التي تفصل الذات عن موضوعها، لتصير النكتة تعبيراً عن تحرّر الإنسان من سطوة واقعه المهيمن عليه. في هذا المعنى، يصيرالتهكم حالة مقاومة، لأنه يخلق مساحةً لغوية جديدة يمكن التعددية فيها أن توجد، كما يمكن الفرد فيها أن يقاوم تماهيه مع دوره الذي يلعبه ومع واقعه الأسود.

المصدر: http://www.annahar.com/article.php?t=mulhak&p=3&d=24817