كلمة الباحث حسان عباس أمام اللقاء التشاوري للمعارضين السوريين الذي انعقد في دمشق

Article  •  Publié sur Souria Houria le 27 juin 2011

أيتها السيدات أيها السادةانخرطت سورية في التغيير وقطعت، بعد مرور أكثر من مائة يوم على انطلاقة الحراك الثوري، شوطا لا يستهان به على هذا الدرب الوعر الطويل بتضحيات الشهداء وبعزيمة الشعب الذي يجابه عنف السلطة بالتظاهر والاحتجاج السلميين، وبوعي النخب الثقافية والسياسية التي ترسم صورة المستقبل المنشود. يتباطأ إيقاع عملية التغيير حينا ويشدّ حينا آخر، لكنها، في المحصلة العامة، عمليةٌ متسارعة رغم ما تلاقيه من عوائق، وعمليةٌ وحيدة الوجهة لا بد لها أن تُنجز ولا تقبل بأية حال بالتوقف وهو ما يعني النكوص والعودة إلى أسوأ مما كان. تطال عملية التغيير هذه أركان بناء الوطن كاملة: الشعب والمجتمع المنظم والدولة. وغاية العملية تحقيق المواطنة على مستوى الشعب، وتحقيق المدنية على مستوى التنظيم الاجتماعي وتحقيق الديمقراطية على مستوى الدولة. وللنخب الثقافية، والناشطون السياسيون يشكلون الجزء الأهم من هذه النخب، دور أساسي في التغيير في كل من هذه المستويات الثلاثة. وما قامت به حتى الآن هذه النخب، ممثلة بأعضاء التنسيقيات المنتشرة الآن على مساحة البلاد، وبالناشطين الملتزمين منهم في العمل السياسي أو المستقلين، يرقى بحق إلى مستوى المسؤولية التاريخية المناطة بها، وهذا ما أعطى لهذه النخب المصداقية التي جعلت المواطنين المنخرطين في الحراك الثوري يلتفون حولها ويثقون بها. وهذه المصداقية هي الضمانة الكبرى لجذب مزيد من المواطنين الكامنين الذين يشكلون الكتلة الأكبر من المجتمع السوري والذين لا بد من جذبهم لدعم عملية التغيير وإنجاحها. وهي الضمانة أيضا بألا يحيدَ الحراك الثوري الشعبي عن سَمته الصحيح. إن مصداقية النخب شرط حيوي لتأدية دورها في عملية التغيير، واسمحوا لي بإبداء بعض الملاحظات في هذا السياق:1- تستمد النخب مصداقيتها من مدى تلازم خطابها مع الشعارات التي يطلقها المواطنون المنخرطون في الحراك الثوري، فهؤلاء هم في النهاية المحرك المركزي في التغيير، وبتضحياتهم يرسمون الدروب التي يمكن لعملية التغيير أن تجري فيها، لكن أظن أنه من الخطأ اعتبارُ النخب ببغاوات تستبطن تلك الشعارات وترددُها فحسب دون أن تقوم بنقدها وتقويمها وبتنقيتها مما قد يلحق بها من شطط وانفعالية لا تتماشى مع التطلعات المدنية والديمقراطية للقسم الأكبر من المواطنين. بل ربما كان على هذه النخب التدخل المواظب لاستباق الطروحات والأعمال المتطرفة، وذلك حسب آليات العمل القائمة (التنسيقيات) أو حسب آليات جديدة.2- تستمد النخب مصداقيتها من مدى تلازم أفعالها وتحركاتها مع الهدف النهائي للتغيير وهو التأسيس لدولة ديمقراطية يتمتع شعبها بحقوق المواطنة الحقة وينتظم مجتمعها على أسس مدنية يحكمها القانون. وعليه يجب على هذه النخب أن تلتزم بالامتناع عن اتخاذ أي إجراء أو مبادرة لا تتناسب مع هذه الأهداف. إن أي محاولة لركوب عملية التغيير القائمة يقدم عليها أفراد أو أحزاب أو جماعات وتؤدي إلى إقصاء أطراف أخرى من المجتمع هي فعل مدان يتنافى مع الأهداف المنشودة للتغيير. إن التلازم بين الأفعال والأهداف هو مصدر ثقة الناس بالنخب، والثقة هذه ليست قضية تعبوية فحسب، إنها أيضا ضمانة عملية لحماية الحراك الثوري من ارتداد أنصاره عنه وتحولهم إلى معارضين له. 3- وتستمد النخب مصداقيتها أخيرا من جديتها في التزامها بعملية التغيير من الموقع الذي تحتله في هذه العملية، فهي قد لا تشارك ميدانيا في المظاهرات والاحتجاجات لكنها تبقى فعالة من خلال نشاطاتها الدعاوية والتحريضية والتحليلية والتوجيهية…الخ. وهنا لا بد من القول بأن أحد مقاتل المصداقية يكمن في المهاترات التي قد تنزلق إليها النخب أثناء تلك النشاطات فتستهلك طاقاتها ووعيها في معارك جانبية لا طائل فيها، وتشتت جهودها وتركيزها، وتسيء إلى صورة النضال المنخرطة فيه. ناهيك عن أن بعض هذه المهاترات قد يكون مسيّرا من العاملين على تخريب الحراك الثوري وعلى إجهاضه. إن ما نشاهده منذ فترة على شبكة التواصل الاجتماعي من اتهام وتخوين وتخوين معنوي ومن خطابات كيدية وثأرية  ومن تخندقات واصطفافات ينجر إليها بعض المثقفين والناشطين السياسيين يدعو إلى التشكيك في جدية التزام هؤلاء بعملية التغيير التي تعصف بالبلد. لقد أصبح الفيسبوك مَوحَلة يتجنب الكثيرون ارتيادَها، ويتجنب الكثير من مرتاديها مقاربة صفحات الناشطين فيها بل ينفرون منها بسبب المهاترات التي تظهر عليها.انطلاقا من هذه الملاحظات أعتقد أن ثمة مبادرات وتوجهات قد يشكل اتخاذها وتفعيلها ضمانة للحفاظ على مصداقية النخب المنخرطة في عملية التغيير من جهة، كما قد تساعد هذه النخب على زيادة فعاليتها وفعالية الحَراك الثوري للوصول إلى ما ينشده من أهداف. وفي هذا السياق أقترح:1- إعلان ميثاق شرف يلتزم من خلاله المثقفون والناشطون بالامتناع عن القيام أو المشاركة بأي فعل فكري أو عملي، وبالعمل على إبطال أي عمل فكري أو عملي، يؤدي إلى الإساءة المادية أو المعنوية إلى أي شخصيات أو أحزاب أو جماعات منخرطة في عملية التغيير مادامت تلك الشخصيات والأحزاب والجماعات ملتزمة بهدف بناء الدولة الديمقراطية المدنية دولة المواطنة الحقة لكل السوريين، ومادامت ملتزمة بالطابع السلمي للحراك وبرفض أي تدخل أجنبي أيا كانت جهته.2-  تشكيل لجنة من المتخصصين والخبراء في الإعلام تضم ممثلين عن القوى العاملة ميدانيا ومكتبيا من تلك التي لم تشارك في هذا اللقاء للعمل على: ا- توحيد الخطاب الإعلامي الصادر عن الحراك الثوري بشكل يتم من خلاله تجنب التضارب والتخبط والمعارك الجانبية.ب- إيجاد آليات عمل منظمة لكشف كذب الإعلام الرسمي وتفنيده بشكل سمعي بصري وتقني محكم ومقنع ، أي لا يكتفي بالتكذيب الكلامي.جـ- إيجاد آليات توعية منظمة للأهداف التي تسير عملية التغيير نحوها.د- إيجاد آليات توعية منظمة للمخاطر التي تحيق بسورية والناتجة عن محاولات التجييش الطائفي والأقلوي التي يمارسها النظام.3- تشكيل لجان متخصصة في الميادين التي يتوجب تغييرها، على سبيل المثال لا الحصر:- لجنة قانونية تعمل على دراسة مشاريع القوانين المقترحة وتبيان نواقصها وطرح تعديلات لها. وتقوم اللجنة أيضا بتحديد القوانين الواجب تغييرها وباقتراح أسس تنظيم السلطة القضائية بما يتناسب مع سورية الجديدة. – لجنة متخصصة بملفات الفساد الكبرى تعمل على جمع المعطيات وتفنيدها وكشفها أمام المواطنين- لجنة متخصصة بالتوعية على قضايا المواطنة وشروط تحققها…. إلى ما هنالك من ميادين أخرى..4- إيجاد آليات عمل لكسب النخب المبتعدة أو المبعدة عن الحياة العامة أو المستقيلة منها والتي تشكل طاقة فكرية واجتماعية كامنة تنتظر من يدعوها لممارسة حقها في المشاركة السياسية والثقافية والفكرية.5- تشكيل لجنة مشتركة من مثقفين مستقلين وحزبيين ومن ناشطين ميدانيين تناقش موضوع الحوار مع السلطة، وتعمل على صياغة مذكِّرة مشتركة ملزمة تتضمن الحد الأدنى من الشروط المطلوب تحقيقها لكي تنخرط القوى الفاعلة في الحراك الثوري في الحوار، كما تتضمن عرضا بالضمانات التي يجب على الطرفين توفيرها قبل الشروع في الحوار. وأعتقد أن هذا العمل ضروري جدا لكي نضع حدا للصدع الذي بات يتشكل بين القوى الفاعلة في الحراك والذي قد يؤدي، إذا ما تحول إلى شرخ حقيقي، إلى إضعاف الحراك وتفتيته.
ليست هذه المقترحات الخمسة سوى مقترحات أولية حول ما يبدو لي ملحا في الوقت الراهن، لكن عملية التغيير تفرز باستمرار اقتراحات أخرى وأكثر أولوية مما يتوجب على النخب القيام به. لكن، ولكي تستطيع هذه النخب العمل، لا بد من تحقق شروط القدرة على العمل وهذا ما يجب على السلطة ممثلة بقياداتها الداعية إلى الإصلاح وإلى الحوار القيام به إن كانت جادة بدعوتها. وأهم هذه الشروط: – الالتزام الفعلي برفع حالة الطوارئ وهذا يعني في الواقع العملي:- الإفراج عن الناشطين السياسيين والمستقلين المعتقلين والكف عن ملاحقتهم- توقف الحملة الإعلامية المغرضة والموجهة ضد المثقفين والسياسيين في المعارضة، وهي حملة رسمية أحيانا و تأخذ صفة شعبية أحيانا أخرى لكنها تدار من أطراف في السلطة.- إيقاف سياسة التضييق على سفر المثقفين والسياسيين المعارضين والسماح لهم بالتنقل بكل حرية داخل البلاد، للمشاركة في ميادين الاحتجاج مثلا، أو خارجها.- إيقاف سياسة التضييق على التجمع والسماح بعقد الاجتماعات واللقاءات والندوات.
أيتها السيدات أيها السادةإننا في بداية الطريق الطويل للتغيير ولنقل سورية من دولة الاستبداد، إلى سورية المدنية الديمقراطية القوية بوحدتها الوطنية المتحررة من أية هيمنة لفرد أو لحزب أو لجماعة. ولا بد للنخب الثقافية والسياسية الديمقراطية الوطنية من أن تستنفر لتقوم بالأعباء التاريخية الملقاة على عاتقها، ولكن لا بد لها أيضا من أن تتسلح بأكبر قدر ممكن من البصيرة والحكمة والحذر فالقضية قضية وطن، والرهان على مصيره.

حسان عباس

27-06-2011

ملاحظة: المقال يعبر فقط عن وجهة نظر الكاتب