لؤلؤ الشام وعظام الأباطرة – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 28 novembre 2011
لؤلؤ الشام وعظام الأباطرة
صبحي حديدي
2011-11-27



في ‘أبرياء على سفر’، 1869، يكتب الروائي الأمريكي مارك توين عن العاصمة السورية: ‘تاريخ دمشق يعود إلى ما قبل إبراهيم، وهي المدينة الأقدم في العالم. أسسها عوص، حفيد نوح. تاريخها الباكر غارق في ضباب العصور القديمة التي شابت. دعْ جانباً الأمور المكتوبة في الفصول الأحد عشر الأولى من العهد القديم، ولن تجد واقعة مسجلة جرت في العالم إلا وبلغ دمشق خبرُها. عُدْ بالذاكرة إلى الماضي الغامض أنى استطعتَ، وستجد دمشق حاضرة على الدوام. وفي كتابات كلّ قرن، طيلة أكثر من أربعة آلاف سنة، تردد اسمها وصدحت له الأغاني. السنون في ناظر دمشق محض هنيهات، والعقود مجرّد لمحات زمن متطايرة. إنها لا تقيس الزمن بالأيام والشهور والسنين، بل بالإمبراطوريات التي شهدتها تقوم، وتزدهر، وتندثر إلى خرائب’.
في الفقرة ذاتها يتابع توين، الذي زار فلسطين وسورية خلال مطلع ستينيات القرن التاسع عشر، أنّ دمشق: ‘ضرب من الخلود. شهدت إرساء مداميك بعلبك، وطيبة، وإفسوس؛ وأبصرت هذه القرى تتطوّر إلى مدن جبارة، تدهش العالم بعظمتها ـ وعاشت دمشق لتراها بائدة، مهجورة، متروكة للبوم والوطواط. شهدت الإمبراطورية الإسرائيلية في أوج غطرستها، كما شهدتها تُباد. شهدت بلاد الإغريق تقوم، وتزدهر طيلة ألفَي سنة، ثمّ تموت. وفي كهولتها أبصرت روما تُشيّد، وتهيمن على العالم بجبروتها، قبل أن تراها تفنى. لقد عاشت دمشق كلّ ما حدث على الأرض، وما تزال تحيا. لقد أطلّت على العظام النخرة لآلاف الإمبراطوريات، وستطلّ على قبور آلاف أخرى توشك على الموت. ورغم أنّ سواها يزعم حيازة اللقب، فإنّ دمشق تظلّ، بحقّ، هي المدينة الخالدة’.
لا تنوء هذه السطور، إسوة بغالبية الفقرات التي تخصّ دمشق، تحت أثقال الروح الاستشراقية التي تعاني منها فقرات أخرى من كتاب توين، وتلك التي تتحدث عن فلسطين والأراضي المقدّسة بصفة خاصة؛ بل يلوح أنّ الكاتب، الساخر عموماً، يسير جادّاً متهيباً، على كتفيه أحمال التاريخ، القديم والوسيط والمعاصر، بل تاريخ الإنسانية جمعاء في المحصلة. وإذ يعيد المرء قراءة تلك الفقرات، ولا سيما المشهد الفريد الذي يضع المدينة في موقع أزلي إزاء امبراطوريات شتى سادت ثمّ بادت؛ فإنّ حاضر المدينة الراهن، بوصفها عاصمة سورية التي تخوض انتفاضة شعبية عارمة، لا يرتدّ بها إلى ذلك الموقع مجدداً، فحسب، بل يعيد إنتاج سلطة دمشق التاريخية في وجه سلطات الاستبداد والفساد والحكم العائلي والعصابات والشبيحة… هذه التي أين منها، على همجيتها، ما تمتعت به إمبراطوريات سالفة من سلطان ونفوذ وسؤدد.
ليس غريباً، في ضوء هذه المعادلة الدمشقية التي تردّ التاريخ الغابر إلى التاريخ المعاصر، أن يحرص النظام على تكرار أكذوبة ‘صمت’ دمشق، وعدم انخراطها في الانتفاضة، ممّا يفيد استطراداً أنها إمّا في صفّ النظام، أو ليست ضدّه تماماً. كأنّ أولى الاعتصامات لم تبدأ في دمشق، حين أشعل الناشطون شموع التضامن مع انتفاضات تونس ومصر وليبيا، وكانوا بذلك يطلقون شرارة الانتفاضة الأبكر؛ أو كأنّ أولى التظاهرات لم تبدأ من سوق الحريقة، في قلب دمشق التجارية، قبل أن تتواصل من الجامع الأموي وسوق الحميدية؛ أو كأنّ أحياء القدم، وكفر سوسة، وبرزة، وجوبر، والحجر الأسود وحرستا، فكيف بأحياء عريقة مثل الميدان وركن الدين والشعلان وعرنوس والمزرعة وساحة النجمة… ليست جغرافية دمشقية!
كذلك فإنّ دمشق تمتلك سلسلة أسباب خاصة بها، غير تلك التي تُجمع عليها مختلف المناطق السورية الثائرة، تضعها في قلب الحراك الشعبي، ولعلّها لم تعد تترك أيّ خيار لشرائح من سكانها لاح، خلال أطوار سابقة من عمر نظام ‘الحركة التصحيحية’، أنها متحالفة مع النظام أو متواطئة لأنها مستفيدة من بعض سياساته، الاقتصادية ـ التجارية بصفة خاصة. ذلك لأنّ أنساق النهب الشمولي، الذي انفلت من كلّ عقال قانوني أو أخلاقي عندما حوّل سورية إلى مزرعة للمافيات الحاكمة، كان محتماً لها أن تنحطّ إلى هذا الدرك الهمجي: تخريب دمشق العتيقة، وهدم أسواقها العريقة، وطمس مجلدات بأسرها من تاريخها القديم، بغية إقامة منشآت سياحية ومجمّعات تجارية، وتخديمها بكلّ ما يتيح اصطياد السائح وإجباره على الإنفاق، من دون أي اكتراث بالعواقب العديدة البشرية والتاريخية والآثارية والمعمارية، فضلاً عن تلك الإنسانية والاقتصادية والثقافية التي ستخلّفها هذه الجرائم الصريحة المعلنة. لم يعد يشبعهم أنهم نهبوا في قطاع الاتصالات والهاتف الجوّال والأسواق الحرّة وصناعة الإسمنت والمصارف، وما خفي من أشغال حرام هنا وهناك؛ فكان لا بدّ لهم أن يخرّبوا لكي يشتغلوا بإعمار ما خرّبوا، مع فارق أنهم كانوا يهدمون ما لا يجوز تهديمه، ويقوّضون ما ينقلب المساس به إلى جريمة كبرى بحقّ الإنسان والتاريخ في آن معاً.
‘رغم عمرك الذي من عمر التاريخ ذاته، فإنك نضرة مثل نَفَس ربيع، متفتحة مثل براعم وردك الجوري، عابقة مثل زهرة برتقالك؛ أواه يا دمشق، يا لؤلؤة الشرق!’، تابع توين في مديح المدينة الخالدة. فأي علامة في وسع طاغية صغير أن يحفرها على أسوارها العتيقة، سوى أنه ساد هنا هنيهة، فاستبدّ ونهب وتجبّر، ثم اندحر وباد واندثر؟

Source : http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today%5C27qpt998.htm&arc=data%5C2011%5C11%5C11-27%5C27qpt998.htm
Date : 27/11/2011