لا حزب للشعبويّة – سلام الكواكبي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 20 juillet 2014
منذ فترة لا بأس بها، يسود التخبّط في الجسم السياسي الفرنسي بين حكومة اشتراكية ومعارضات يمينية ويمينية متطرفة ويسارية ويسارية متطرفة، في إدارة أزمات داخلية عديدة مرتبطة مباشرةً بحياة المواطن الفرنسي على الأصعدة كافة.
ففي المسألة الاقتصادية، يُمارس الاشتراكيون، أحياناً، سياسةً أكثر يمينيةً مما كان لليمين أن ينفّذه، إن كان في الحكم، متحجّجين، في ذلك، بحتمية اللحاق بركب الدول التي تعيش الازدهار في اقتصاداتها، كألمانيا مثلاً. ولكن أداءهم في ذلك أظهر، حتى الآن، أنه غير مجدٍ، بسبب قوة قدرة الإعاقة الفعلية، المتوفرة تاريخياً لدى النقابات العمالية، ونقابات المهن، كما الموظفين، على الرغم من محدودية الانتساب العام لها، والنشاط الفعلي ضمنها.
إضافة إلى انتشار عدم الرضى لدى أرباب العمل، المقتنعين بضرورة تخفيض التكاليف لجعل الاقتصاد تنافسياً. بما يعنيه ذلك من اقتطاع حصص من مداخيل الطبقة الوسطى، وإفقارها، كما يقتضي إلغاء العمل بالحد الأدنى من الأجور، وتخفيف مساعدات البطالة لتحفيز الناس على القبول بما هو متوفر من أعمالٍ، لا تناسب مقدراتهم، ولا تلبي طموحاتهم.
ومن زاوية « المسألة الوطنية »، المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتفاقم الأزمة الاقتصادية، تعاني سياسات الاندماج من تفاقم العثرات، خصوصاً لدى الفئة الشابة، ضعيفة المقاومة أمام ضآلة المجالات، وتراجع فرص العمل، والتمييز المستتر المرتبط بأداء الجاليات، أكثر من كونه ثقافة مجتمعية منتشرة. وتستغل الأطراف اليمينية المتطرفة هذا الملف، لتلعب لعبتها الشعبوية، ذات العلامة المسجلة، وهي التخويف من الأجانب، خصوصاً إن كانوا مسلمين. وحيث أن الطرف « الضحية » يُساهم، بشكل أو بآخر، في تغذية هذا التوجه من خلال العبثية المستدامة في (لا) عمل و(لا) تنظيم الجاليات العربية والمسلمة.
في إطار تفاقم التراجعات الحكومية عن قرارات اقتصادية، تارةً بضغط نقابي متعنّت، وتارة أخرى بضغط « رأسمالي » متشدد، أصبحت الثقة بالمجتمع السياسي في حالة انحدار متسارع، وبلغت لا شعبية متصدري المشهد السياسي أعلى معدلاتها. وظلّت الصحافة كما مؤسسات المجتمع المدني العريقة صمّام أمان أساسي. ولعب القضاء المستقل دوراً متميّزاً في التطرّق إلى جميع « هفوات » السياسيين السابقين والحاليين، خصوصاً منها المتعلقة بسوء الأمانة والتصرف بالأموال العامة.
إن طبيعة المنظومات التي تتعرّض لأزمات بنيوية تُضعضع الثقة العامة بصانعي القرار ومتخذيه، تدفع حتماً إلى انكفاء إلى الداخل، وهو المرعى الخصب لكل مروّجي الشعبوية المُهلكة. وهذا يدفع، تلقائياً، إلى إهمال المجتمع الضحية للمسائل الدولية. وبعد أن كان المجتمع الفرنسي صاحب المبادرة في التضامن مع مآسي الشعوب المضطهدة، تراجع الأمر، بحيث أصبح هذا الجانب من شأن المعنيين المباشرين به من جاليات هذه الدول، أو من لف لفهم.
واستغلّت القوى السياسية الأزمات الدولية، لتعكسها تلاعباً بعواطف متنازعة ومضطربة. فإرهابيو القاعدة وداعش الذين يُبنى على خطرهم على الأراضي الفرنسية أوهام وأساطير، هم في نظر اليمين المتطرف، كما اليسار البافلوفي، نتاج « حتمي » لموقف الحكومة في دعم الثورة السورية في نسختها السياسية.
وفي المقابل، يتقوقع أفراد الجاليات المعنية في أطُرٍ غير مواطنية، ويضيعون في متاهات البحث عن الذات وإثبات الهوية، دينية أم قومية. وبعد أن غابوا عن السمع والبصر المحلي، من خلال استنكافهم المتزايد عن المشاركة في العملية الانتخابية، ترشيحاً وتصويتاً، وبعد أن عاثت بهم أجهزة دول عدة من مغرب المنطقة العربية إلى مشرقها في محاولةٍ لاستقطابهم، سياسياً أو دينياً، أو الاثنين معاً، أضحوا يستغلّون، انتقائياً، مآسٍ تعيشها شعوب عربية، بحيث يعبّرون، من خلالها، عن موقفهم الرافض للتهميش وللإقصاء الفعلي أو المُتخيّل.
أتت الحرب الوحشية الإسرائيلية على غزة فرصة متعددة الأبعاد، ساعدت كثيرين منهم على شراء عذريةٍ، لضمير لوّثته سنوات من الصمت عن مجريات المقتلة السورية، إنسانياً على الأقل. وساهمت في إبراز تحالفات « غبية » إلى حد الجريمة، مع بعض جهات اليمين العنصري الفاشي.
ووجد جزء من الاشتراكيين الفرنسيين فرصة سانحة لاستعمال مسألة مواجهة معاداة السامية، في إعادة إنتاج خطاب سياسيٍ، يحرف الأنظار عن الأزمات الداخلية. وهي مواقف تستند، في بعضها، إلى علاقة إيديولوجية قديمة ومتجددة بين الحركة الصهيونية واليسار الأوروبي الذي وجد فيها يوماً تطبيقاً مثالياً لنظريات المجتمع المثالي المنشود. وأمام التدمير الهمجي والمنهجي الذي اتبعته القوات الإسرائيلية، لم يشعر الرئيس الفرنسي بالحرج في أن يُعبًر عن « فهمه لحاجة إسرائيل إلى حماية أمنها ». موقف أثار ردود فعل غاضبة، فخرجت تظاهراتٌ، وقعت على هامشها مواجهاتٌ أمام بعض دور العبادة اليهودية، منحت الحجة لأصدقاء إسرائيل لرفع راية الخوف من انعكاسات « أزمات الشرق الأوسط » على المجتمع.
وأعاد المسؤولون إنتاج الخطاب الترهيبي من التعاطف مع هؤلاء الذين يصرخون: « الموت لليهود ». ولاحقاً أثبتت التحقيقات أن غالبية الصدامات جرت بتحريض من « الميليشيات » اليهودية المتطرفة. هذا التفصيل سيغيب، عمداً أو سهواً، عن تعليقات غالب المحللين ومواقف السياسيين، لأن دعم إسرائيل في هذه المرحلة، عن قناعة أو غير قناعة، سلاح شعبوي آخر لحرف النظر عن المشكلات الحقيقية التي تعجز الحكومة عن مواجهتها.