لماذا أخفق اليسار في فهم المسألة السورية؟- سلامة كيلة

Article  •  Publié sur Souria Houria le 18 mai 2013

لا نزال نصطدم بموقف يسار يدافع عن السلطة في سوريا، ويعتبر أن ما يجري هو مؤامرة. ليست المسألة هنا هي مسألة خطأ عابر، وكذلك ليست نتاج خطأ عاطفي، بل لا بد من التمييز بين من لهم مصلحة مباشرة ومن يأتي موقفهم نتاج خطأ معرفي. وإذا كان هناك « قريبون » لهم مصالح مباشرة فإن الكثير من اليسار العربي والعالمي يتحاكم لخطأ معرفي يشي بطبيعة الوعي الذي يتحكم بهؤلاء.

ورغم أن السلطة تمارس كل الوحشية كعصابة مافيا فإنه لم يطرح السؤال حول طبيعة السلطة السورية، ولا لمس طابعها المافياوي المجرم، وهو ما يشير إلى « غياب الأخلاق » عن هذا اليسار، لتصبح القيم المجرّدة أهم من البشر، وأكثر تأثيراً في تحديد المواقف من ممارسات وحشية تدمّر وتقتل دون رادع.

ربما كان هذا « السقوط الأخلاقي » هو نتاج « توهم أيديولوجي متسام »، ونتاج « تحليق تجريدي » وصل إلى البعد الذي لا يسمح برؤية الواقع والوقائع. لكن ليس من قيمة أخلاقية لمقولة مواجهة الإمبريالية إذا كانت تغطي القتل والتدمير. وليس من تسام أعلى من الدفاع عن وجود البشر، ولا شك أن رفض الإمبريالية نتج عن كونها تسحق البشر، لكن لا يجوز أن يغطي ذلك قتل البشر لأنهم يرفضون سلطة ويريدون تغييرها.

لهذا فإن الدفاع عن سلطة لا تتمتع بأية قيمة أخلاقية، بل تمارس كل ما ينفي الأخلاق، هو سقوط أخلاقي بامتياز قبل أن يكون خطأ معرفيا وخطيئة عملية.

هذا ربما يوضّح المدى الذي وصل إليه الخواء النظري، ولكن أيضاً الهزال العملي. اليسار يشعر بعجزه لهذا يتكئ على بقايا من أوهام الماضي يرى أنها تنهار فيعتبر أن ذلك هو استمرار لـ »مؤامرة إمبريالية ».

الإمبريالية باتت هي « الغول » الذي يخيف الأطفال. هي الجبروت الذي استمر وتماسك وظل قوياً كما يظن هؤلاء. وبالتالي هي كلية القدرة، فتستطيع تحريك الشعوب، وتغيير النظم، والتحكم في مسارات التاريخ. وهي التي تتآمر في كل لحظة، ولسوء الحظ أن مؤامراتها ناجحة دائماً.

هل في ذلك ما هو مادي وعلمي وماركسي؟ ليس في ذلك سوى أوهام نخب ميتة، أو تكاد.

أين تكمن المشكلة في الوضع السوري؟
فقط هو الوضع المركب وليس الوضع البسيط الذي ينجح العقل الصوري في فهمه. هو وضع متداخل ومتعدد المستويات، والعقل الصوري لا يستطيع استيعاب سوى مستوى واحد. ولقد تأسس على أن المستوى السياسي هو هذا المستوى الذي يفعل فيه « عقله ». ولهذا غاب الشعب، لأنه يتخفى خلف المستوى الاقتصادي. فالشعب هو المستوى الاقتصادي، المبتعد عن السياسة كونها السلطة القامعة والمتدخلة والمخيفة. هو المجتمع ناقص الدولة والأحزاب. بالتالي، ولهذا بالتحديد، لا يقع في « دائرة الرؤية » التي تحكم النخب والأحزاب اليسارية هذه.

في مصر وتونس كانت السلطة متطابقة مع الإمبريالية لأنها تابعة فكان الفهم ممكناً: الثورة ضد الإمبريالية، إذن جيدة. في سوريا كانت السلطة في اختلاف (أو في حلف مختلف) مع الإمبريالية، فأصبح الفهم يطال هذا الاختلاف بالتحديد (أي المستوى السياسي)، لهذا فإن الثورة ليست ثورة، بل هي مؤامرة إمبريالية.

طبعاً في تونس ومصر وفي سوريا أيضا لم يجرِ فهم وضع الشعب الذي ثار. لم يدرس الاقتصاد، ولا فهم وضع الطبقات الشعبية، وأيضاً لم تجرِ ملاحظة تراكم الاحتقان. وظل الأمر يتعلق بـ »الإمبريالية/ ضد الإمبريالية »، وليس بصراع الطبقات كما تنطلق الماركسية، وبالتالي من فهم طبيعة الاقتصاد والبنية الطبقية. فهذا أمر سقط من التحليل منذ سقوط الاشتراكية، وتحوّل التحليل المادي الذي ينطلق من الاقتصاد وصراع الطبقات إلى تحليل ينطلق من « البنية الفوقية »، أي من السياسي.

وهو الأمر الذي حوّل مفهوم الإمبريالية إلى مفهوم سياسي يتعلق بالسيطرة والاحتلال والتدخل دون أن تُلحظ كبنية اقتصادية عالمية تؤسس لتكوينات طبقية محلية.

لهذا إذا كانت ماركسية رائجة في الماضي تتسم بـالاقتصادوية فإن هذه « الماركسية » تتسم بسياسوية مفرطة. والسياسة هي الشكل أو السطح، أو ما يُرى في الواقع. لهذا يستطيع المنطق الصوري تلمسه، لكنه لا يستطيع فهم عمقه وآلياته وتاريخيته. وهذه هي سمة المنطق الصوري الذي لا يستطيع تجاوز الشكل إلى الجوهر، كما لا يستطيع فهم الصيرورة لأنه يتلمس الأمور من منظور سكوني، منظور راكد. بالتالي لا تكون حاجة لفهم الوضع العياني من مستواه الاقتصادي إلى المستوى المجتمعي، ومن ثم طبيعة السلطة ومصالحها، وطبيعة وضع الطبقات الشعبية. وكيف تشكّل وإلى ماذا سيؤول.

في سوريا ظهر العقل الأحادي واضحاً وفظاً، فسقط إزاء تعقيد الوضع العياني. وبدل أن يكون يساراً بات في أقصى اليمين. بدل أن يتمثل موقف الشعب تمثّل مصالح الطبقة المسيطرة. لقد ظهر أن هناك « فكرة » مطلقة تحكم كل نظر، وتحدد كل رؤية، وهي التي لها قوة الإله في الفلسفة القديمة.

إنها فكرة الإمبريالية، التي باتت فكرة بالتحديد، أي أنها لم تعد تكويناً واقعياً يخضع للتحوّل والتغيّر. الإمبريالية باتت مجرّدة، وأصبحت سياساتها ما كانت تمارسه خلال العقود الماضية، أو ما كان يشار إلى أنها تمارسه. وبالتالي أصبح يثرى الآخر من منظورها، أي من هو معها ومن هو ضدها. هذا هو أساس المنطق الصوري. وأصبح من هو ضدها ثوريا ويساريا وقوميا ووطنيا (حتى بن لادن في لحظة من اللحظات، وأيضاً الإسلام السياسي).

هنا يجري تجاهل مبدأ جوهري في الجدل المادي، هو جوهر الجدل المادي، إنه الصيرورة التي تؤكد على التغيّر والتحوّل. ومن ثم فهم أن الإمبريالية تكوين متغيّر، الأمر الذي يفرض فهم تكوينها الآن لا أسطرتها وتحويلها إلى جوهر ثابت (وهذا هو جوهر المنطق المثالي الذي يحوّل الأشياء المتغيرة إلى ثابت مطلق).

ولهذا يصبح هناك تصوّر متعالٍ يحكم رؤية الواقع، هو التصوّر حول الإمبريالية. وفي هذا منطق مثالي مفرط، فكرة مسبقة تحكم الواقع. وهذا ما سيبدو واضحاً حين تلمس الواقع الآن، حيث سيبدو النقص المعرفي واضحاً، ويظهر كم أن التصور المسبق هو الذي يحكم الرؤية ويقود إلى موقف غاية في الخطأ.

ربما كان هذا « السقوط الأخلاقي » هو نتاج « توهم أيديولوجي متسام »، ونتاج « تحليق تجريدي » وصل إلى البعد الذي لا يسمح برؤية الواقع والوقائع. لكن ليس من قيمة أخلاقية لمقولة مواجهة الإمبريالية إذا كانت تغطي القتل والتدمير. وليس من تسام أعلى من الدفاع عن وجود البشر، ولا شك أن رفض الإمبريالية نتج عن كونها تسحق البشر، لكن لا يجوز أن يغطي ذلك قتل البشر لأنهم يرفضون سلطة ويريدون تغييرها.

لهذا فإن الدفاع عن سلطة لا تتمتع بأية قيمة أخلاقية، بل تمارس كل ما ينفي الأخلاق، هو سقوط أخلاقي بامتياز قبل أن يكون خطأ معرفيا وخطيئة عملية.

هذا ربما يوضّح المدى الذي وصل إليه الخواء النظري، ولكن أيضاً الهزال العملي. اليسار يشعر بعجزه لهذا يتكئ على بقايا من أوهام الماضي يرى أنها تنهار فيعتبر أن ذلك هو استمرار لـ »مؤامرة إمبريالية ».

الإمبريالية باتت هي « الغول » الذي يخيف الأطفال. هي الجبروت الذي استمر وتماسك وظل قوياً كما يظن هؤلاء. وبالتالي هي كلية القدرة، فتستطيع تحريك الشعوب، وتغيير النظم، والتحكم في مسارات التاريخ. وهي التي تتآمر في كل لحظة، ولسوء الحظ أن مؤامراتها ناجحة دائماً.

هل في ذلك ما هو مادي وعلمي وماركسي؟ ليس في ذلك سوى أوهام نخب ميتة، أو تكاد.

أين تكمن المشكلة في الوضع السوري؟
فقط هو الوضع المركب وليس الوضع البسيط الذي ينجح العقل الصوري في فهمه. هو وضع متداخل ومتعدد المستويات، والعقل الصوري لا يستطيع استيعاب سوى مستوى واحد. ولقد تأسس على أن المستوى السياسي هو هذا المستوى الذي يفعل فيه « عقله ». ولهذا غاب الشعب، لأنه يتخفى خلف المستوى الاقتصادي. فالشعب هو المستوى الاقتصادي، المبتعد عن السياسة كونها السلطة القامعة والمتدخلة والمخيفة. هو المجتمع ناقص الدولة والأحزاب. بالتالي، ولهذا بالتحديد، لا يقع في « دائرة الرؤية » التي تحكم النخب والأحزاب اليسارية هذه.

في مصر وتونس كانت السلطة متطابقة مع الإمبريالية لأنها تابعة فكان الفهم ممكناً: الثورة ضد الإمبريالية، إذن جيدة. في سوريا كانت السلطة في اختلاف (أو في حلف مختلف) مع الإمبريالية، فأصبح الفهم يطال هذا الاختلاف بالتحديد (أي المستوى السياسي)، لهذا فإن الثورة ليست ثورة، بل هي مؤامرة إمبريالية.

طبعاً في تونس ومصر وفي سوريا أيضا لم يجرِ فهم وضع الشعب الذي ثار. لم يدرس الاقتصاد، ولا فهم وضع الطبقات الشعبية، وأيضاً لم تجرِ ملاحظة تراكم الاحتقان. وظل الأمر يتعلق بـ »الإمبريالية/ ضد الإمبريالية »، وليس بصراع الطبقات كما تنطلق الماركسية، وبالتالي من فهم طبيعة الاقتصاد والبنية الطبقية. فهذا أمر سقط من التحليل منذ سقوط الاشتراكية، وتحوّل التحليل المادي الذي ينطلق من الاقتصاد وصراع الطبقات إلى تحليل ينطلق من « البنية الفوقية »، أي من السياسي.

وهو الأمر الذي حوّل مفهوم الإمبريالية إلى مفهوم سياسي يتعلق بالسيطرة والاحتلال والتدخل دون أن تُلحظ كبنية اقتصادية عالمية تؤسس لتكوينات طبقية محلية.

لهذا إذا كانت ماركسية رائجة في الماضي تتسم بـالاقتصادوية فإن هذه « الماركسية » تتسم بسياسوية مفرطة. والسياسة هي الشكل أو السطح، أو ما يُرى في الواقع. لهذا يستطيع المنطق الصوري تلمسه، لكنه لا يستطيع فهم عمقه وآلياته وتاريخيته. وهذه هي سمة المنطق الصوري الذي لا يستطيع تجاوز الشكل إلى الجوهر، كما لا يستطيع فهم الصيرورة لأنه يتلمس الأمور من منظور سكوني، منظور راكد. بالتالي لا تكون حاجة لفهم الوضع العياني من مستواه الاقتصادي إلى المستوى المجتمعي، ومن ثم طبيعة السلطة ومصالحها، وطبيعة وضع الطبقات الشعبية. وكيف تشكّل وإلى ماذا سيؤول.

في سوريا ظهر العقل الأحادي واضحاً وفظاً، فسقط إزاء تعقيد الوضع العياني. وبدل أن يكون يساراً بات في أقصى اليمين. بدل أن يتمثل موقف الشعب تمثّل مصالح الطبقة المسيطرة. لقد ظهر أن هناك « فكرة » مطلقة تحكم كل نظر، وتحدد كل رؤية، وهي التي لها قوة الإله في الفلسفة القديمة.

إنها فكرة الإمبريالية، التي باتت فكرة بالتحديد، أي أنها لم تعد تكويناً واقعياً يخضع للتحوّل والتغيّر. الإمبريالية باتت مجرّدة، وأصبحت سياساتها ما كانت تمارسه خلال العقود الماضية، أو ما كان يشار إلى أنها تمارسه. وبالتالي أصبح يثرى الآخر من منظورها، أي من هو معها ومن هو ضدها. هذا هو أساس المنطق الصوري. وأصبح من هو ضدها ثوريا ويساريا وقوميا ووطنيا (حتى بن لادن في لحظة من اللحظات، وأيضاً الإسلام السياسي).

هنا يجري تجاهل مبدأ جوهري في الجدل المادي، هو جوهر الجدل المادي، إنه الصيرورة التي تؤكد على التغيّر والتحوّل. ومن ثم فهم أن الإمبريالية تكوين متغيّر، الأمر الذي يفرض فهم تكوينها الآن لا أسطرتها وتحويلها إلى جوهر ثابت (وهذا هو جوهر المنطق المثالي الذي يحوّل الأشياء المتغيرة إلى ثابت مطلق).

ولهذا يصبح هناك تصوّر متعالٍ يحكم رؤية الواقع، هو التصوّر حول الإمبريالية. وفي هذا منطق مثالي مفرط، فكرة مسبقة تحكم الواقع. وهذا ما سيبدو واضحاً حين تلمس الواقع الآن، حيث سيبدو النقص المعرفي واضحاً، ويظهر كم أن التصور المسبق هو الذي يحكم الرؤية ويقود إلى موقف غاية في الخطأ.

وحين يتعلق الأمر بثورة شعبية نتجت عن التكوين الاقتصادي الذي تشكّل في العقد الأخير، يصبح من الانتهازية المراهنة على خلاف تكتيكي بين السلطة وأميركا بدل الوقوف مع الشعب في الثورة التي يخوضها. هل يفهم اليسار هذه المسألة؟

التناقض في سوريا هو بين طبقات شعبية مفقّرة ورأسمالية مافياوية تسيطر على السلطة، هذا هو جوهر الوضع. وهذا هو التناقض الرئيسي الآن، أي خلال الثورة خصوصاً. وهو في عمقه يفرض تحقيق التغيير الذي يفرض التناقض الحتمي مع الإمبريالية، كل الإمبرياليات وليس الأميركية فقط.

ومن أجل تجاوز الرأسمالية كنمط، وإنْ لم يكن الوضع مهيأ لذلك الآن نتيجة عجز اليسار بالتحديد، وهامشيته وانعزاله عن الطبقات الشعبية. لكن ليس من خيار سوى السير لتحقيق التغيير الجذري.

على أساس ذلك يمكن فهم وتفسير أدوار القوى الإمبريالية والإقليمية، ويمكن تحليل سياسات المعارضة المهمشة والمأزومة، والمتلبرلة. وكذلك يمكن تناول مسار الثورة ومشكلاتها، ونتائج سيادة العفوية فيها. اليسار يعاني من قصور تحليلي، ومن « نخبوية »، ومن مثالية مفرطة. هذا ما أوضحته الثورة السورية بشكل جلي.