لماذا تأييد الانتفاضات؟ – حازم صاغية

Article  •  Publié sur Souria Houria le 23 juillet 2011

تبدو البلدان العربيّة المنتفضة كلّها، ولو على شيء من التفاوت، مثل بيوت كبيرة أُهملت خمسين أو ستين عاماً، فلم يُضرَب في جدرانها مسمار ولا صُرّفت فيها مياه محتقنة ولا كُنّس ممرّ. وفوق هذا كلّه، مُنع سكّان هذه البيوت من أن يقولوا الحقيقة ومن أن يجهروا بالمعاناة القاتلة التي فُرضت عليهم. وهكذا لجأ بعضهم إلى الصمت والتكتّم والتحايُل على الأمور بالتي هي أحسن، وزعم بعضهم أنّ المشاكل كلّها محلولة وأنْ ليس في الإمكان أفضل ممّا كان، وهاجر أو فرّ إلى الخارج بعض آخر، فيما ردّ غيرهم بالصلاة غير المسموعة الصوت وبالاتّكال على الله، أو بالتعويل التعويضيّ على لحظة من ماضٍ غابر وُصفت بأنّها طوبى فردوسيّة

هكذا إذا كان وهماً افتراض أنّ الأنظمة العربيّة المتساقطة سوف تنهض من تحت الرماد وتعاود سيرتها، فوهمٌ آخر افتراض الانتقال، بعد الانتفاضات، إلى حياة ديمقراطيّة وشعوب ترفل بالسعادة. ذاك أنّ كلّ ما تمتدّ إليه اليد في تلك البيوت الكبيرة لا يلبث أن يتداعى بفعل الإهمال وعدم الصيانة المديدين، كما بفعل قلّة الخبرة الناجمة عن أنّ أيّ إصلاح ظلّ طويلاً ممنوعاً من الذكر، فكيف من الإنجاز؟

 والحال أنّ الانتفاضات تُدخلنا، لا في الديمقراطيّة كما يقال بشيء من التسرّع الذي تمليه الحماسة والتعبئة والسجال، وهذا طبيعيّ في مثل هذه الحالات، خصوصاً لاصطباغ تلك اللحظات بالموت والدم، كما بأكاذيب بعض الأنظمة على نحوّ مستفزّ ومهين. بل هي تدخلنا في مراحل انتقال محتمل إلى الديمقراطيّة، وقبل ذلك إلى احتمال التكوّن كشعوب وأمم متصالحة مع نفسها وبلدانها وحدودها، قادرة على تأسيس إجماعاتها الحرّة داخل تلك الحدود. فغالباً، وفي معمعة الكلام عن الديمقراطيّة، نميل إلى تناسي حقيقة أشدّ أساسيّة هي أنّ الأنظمة المتداعية إنّما حالت دون ذاك التكوّن الوطنيّ، وأنّها غذّت سائر العناصر الموروثة في تاريخنا وفي تراكيبنا ممّا يقوّي التفتّت والابتعاد عن المركز والتظلّل بالأديان والطوائف والإثنيّات. وغنيّ عن القول إنّ تلك « الاستراتيجيّة » هي ما أملتها خدمة المآرب السلطويّة البحتة التي بدل أن ترأب الصدوع والتشقّقات فاقمتها ووسّعتها

ولنقل، في هذه المناسبة، أكثر من ذلك: هذا الانتقال إلى الصيرورة الوطنيّة وإلى الديمقراطيّة قد لا يكون مضمون النتائج، وما من أحد من المنتفضين يستطيع أن يضمن سلفاً ما سيؤول إليه. فهو سيكون امتحاناً لقدرتنا على ذلك، ومن ثمّ لمسألة الوعي لدينا بوصفها عنصراً ذاتيّاً قادراً على الخيار والتغيير والإسهام في صنع أصحاب الحياة لحياتهم

فالمرء، إذن، إذ يؤيّد الانتفاضات فهذا ليس لأنّها ستقيم جنّات فوريّة على الأراضي العربيّة. ففي الانتقال سوف تتفجّر عناصر مكبوتة، وقد تنهار دول ومجتمعات وقد يُعاد تشكّلها من جديد. لكنّ تأييد الانتفاضات نابع بالضبط من كونها تستأنف التاريخ الذي جُمّد وعُلّب طويلاً، وتوفّر الحرّيّة بوصفها حقّاً إنسانيّاً أوّليّاً كما بوصفها فرصة للذات كي تفعّل ذاتها، بغضّ النظر عن الوجهة التي ستتغلّب على التفعيل هذا. فبالانتفاضات ومعها تصعد الجماعات من الحجْر إلى الجهر والهواء كي تقرّر مستقبلها الذي أطبقت عليه سنوات الاستبداد وحالت دونه

وهذا، بطبيعة الحال، لا يعني الاكتفاء بالوقوف إلى جانب الانتفاضات والتصفيق لكلّ ما يصدر عنها، ومن ثمّ الاستغناء عن النقد وعن محاولة التصويب ما أمكن التصويب. ففي هذه الرحلة الطويلة والشاقّة من الانتقال إلى الأوطان وإلى الديمقراطيّة، لابدّ دوماً من الانحياز إلى هذا الخيار أو ذاك، والتنبيه من هذا الخيار أو من ذاك، بما يخدم تقصير الطريق وتقليل حجم الألم والمعاناة

لكنْ، في المقابل، لابدّ من الإشارة، مرّة بعد مرّة، إلى أنّ تأييد الأنظمة بحجّة الخوف من فوضى الانتقال هو، في أحسن أحواله، تأبيد للوضع الراهن بوجهيه: وجهه الحاضر كظلم وتفاوت صارخين وغير إنسانيّين، ووجهه المستقبليّ، في حال كُتب له مستقبل، كتعظيم لهذين الظلم والتفاوت بحيث يأتي الانفجار، حين يأتي، أعظم وأشدّ هولاً

ووراء الموقفين طريقتان في النظر إلى جماعاتنا وشعوبنا

طريقة مفادها أنّهم بالغون سنّ النضج، وأنّ لهم أن يقرّروا ما يريدونه من دون أن ينوب أحد عنهم أو يمثّلهم فيه. فإذا كان مطعوناً ببلوغهم تلك السنّ، فذلك إنّما تتكفّل بحلّه التجربة والمعاناة نفسهما. فحتّى الثقافة الشعبيّة، من خلال أحد أمثلتها العاميّة، قالت إنّ : ما من أحد يتعلّم إلاّ من كيسه

وهذا التقدير لا ينطوي، مرّة أخرى، على أيّ تثمين شعبويّ لما قد يختارونه لمجرّد أنّهم « الشعب ». بل هم قد يختارون ما نراه، أو ما يراه بعضنا، خطأ. لكنّ ذلك لا يستطيع أن يقرّره، وأن يصوّبه في حال خطئه، إلاّ هُم أنفسهم من دون قائد خالد أو حزب قائد يقفان على رؤوسهم ويكتمان أنفاسهم

وأمّا الطريقة الأخرى فتأخذهم بوصفهم قاصرين، لا اليوم فحسب، بل قاصرين أبديّين لا سبيل إلى معالجة قصورهم. وهذا أمر لا يطيقه العاقل ولا يطيقه الحرّ أيضاً، فكيف وأنّ نتيجته المباشرة، بوعي أو بغير وعي، وبحسن نيّة أو سوء نيّة، إطالة عمر الطغيان وتمكين قبضته؟

إنّ أحداً لا يستطيع أن يقول للسجين الذي قضى عشرات السنين في العتم إنّ عليه البقاء في السجن لأنّ عينيه قد لا تحتملان نور الشمس، وإنّهما قد تصابان بالعمى في حال اصطدامهما بأشعّتها. ما يقال للسجين في الحال هذه: اخرج من السجن إلى الشمس، تحاشَ أن تنظر إليها مباشرة في البداية، وحاول في الأيّام الأولى أن تلبس لها نظّارات وافعل كذا وكذا… لكنْ اخرج إلى الحرّيّة، والباقي تفاصيل

الاتحاد – السبت 23 يوليو 2011

http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=60405