ليلة اعتقال زهرة البنفسج

Article  •  Publié sur Souria Houria le 19 octobre 2011
أشكر عائلتي و أصدقائي و كل من وقف معي و معهم أثناء ليالي اعتقالي القصيرة
أبتدء ببضع سطور خطّها شقيقي اُثناء اعتقالي
(انحني) و(اخشع) لذكرى ذاك المكان, ففيه مرّ ونام وتعذب وضحك وكُتب وصُنعَ الكثير, (خلوداً) عادياً قوياً, رجالاً ونساء (أشياء) ليست ملكاً لهم, يبنون أحلاماً ويتخيلون وطن. وطنٌ هو هذا الجدار المُغلق (يقف) بك وبك (ينحني
في ذكرى أسبوعك الأول
كانت جريمتي امتلاك رأي …. كانت جريمتي التفكير بحرية
كانت تهمتي امتلاك عقل …. عقل استخدمته بطرق مناوئة للسلطة, عقل يعمل بمنطقية, عقل يفكر بإنسانية, كانت جريمتي جريمة أزهار البنفسج
شعروا بالذّعر … شعروا بالخوف ….. شعروا بالتهديد. لم أكن وحيداً, كان هناك حقلٌ من أزهار البنفسج, حقلٌ وجدت أزهاره طريقها بين ثنايا حبيبات الإسفلت المصهورة… وجدت طريقها لتنشر عبقها في شوارع دمشق المحاصرة … شعروا بالتهديد من هذه الأزهار الفتية, شعروا بالذعر لأنها تتابع مسير السلمية, شعروا بالخوف لأنها تملك الجرأة لتنشر عبقها بحرية
انقضّت كلابهم المسعورة, انقضّت حصّاداتهم الآلية, خالية من روح, خالية من إنسانية, كانت مخلوقات تبرأت منها البشريّة, كانت آلات من زمن الجاهلية، لا تملك شيئاً من رقيّ الحضارة الآدمية, انهالوا علينا في منتصف الطريق بضرباتٍ مجبولة من حقدٍ مشحون بغريزة بقائهم الطائفية, كانوا مستمتعين بأصوات وقع عصيّهم على عظامنا الفتية, لم يرحموا عصيّهم فكانت أصوات صرخاتها تدوي قبل صرخاتنا, لم يكترثوا للشاهدين وكأنهم في جلساتٍ تأديبية، فقد كان الجمهور متنوعاً من جميع الفئاتالعمرية, فحاولوا تقديم أفضل ما عندهم و تباروا على إذلالنا بكلماتهم و ألفاظهم السّادية , مليئة بالحقد مليئة بالطائفية فكان وقعها أشدّ من ضرباتهم الإنتقامية… أذكر هنا أحد الجّمل التي لن أنساها ما حييت و التي ما زال صداها يدوي في أعماق تلافيف دماغي الموبوء « بدْكِنْ تنهونا » فقلت لنفسي وأنا أتعرض لبعض الضربات العشوائية « آه يا حرام هدول هيك غاسلينلون دماغون مساكين ما بينعتب عليهم .. أخ أي », و انتهى العرض بدكّنا بمركبات الترحيل التي قادتنا الى أحد فروع التدوير الانتقامية, في هذه اللحظات الهستيرية المؤلمة كان كل ما يشغل تفكيري والدتي و جدتي اللتين ك انمن المفترض أن أصحبهما الى المطار بعد بضع ساعات لكي يذهبوا رحلة استجمامية، فضحكت مع نفسي و قلت باستهزاءٍ سوف يستمتعون بهذه الخبرية
بعد بضع دقائق من القيادة الجنونية – وكأن السائق يقود في حلبات الرالي الدولية – وصلنا لمحطتنا الأولى كما تبين لاحقاً, فكبلت أيدينا بالكبلات البلاستيكية وعصبت روؤسنا بقمصاننا البيضاء, كانت عيوني و مخيلتي و ما أراه من الأرضية, ومن يوجهني لوجهتي المجهولة برفساتٍ حنونة على مؤخرتي تارةً وبضرباتٍ أحن على ظهري العاري ورقبتي الطويلة التي أضحت محطاً للطيارات الحربية تارةً أخرى . و مع أنها كانت زيارة سريعةً ولكنّهم حرصوا على حسن ضيافتنا فنحن في دولةٍ عربية معروفة ب حسنالضيافة والكرم الطائيّ, فقدموا لنا جميع أنواع الإهانات ووسائل الترهيب الإجرامية وبالنهاية تبيّن انها زيارة تعريفية وترحيبية أقرب ما تكون لاستراحة مسافرٍعلى إحدى الاستراحات الموجودة على طريق حمص الدولية, غير أنها كانت استراحة استثنائية خصيصاً بالنسبة إليّ فلسببٍ ما كانوا يعتقدون أنني من نظّم حركة المثقفين السّلمية و كما تجري العادة يتحمل رئيس المجموعة ذنوب جماعته فأخذوا يتقاذفونني بين أيديهم على الدرج ظافرين بانتصارهم فقد أسروا رأس الفتنة, حتى وصلت إلى آخر درجةٍ حيث أمسكني أحدهم و كشف عن عيناي فرأيت أمامي جاموساً من جواميسهم ذي ملامح ل اتنسى قاسي الوجه حاد التفاصيل ودوى صوت من يقودني قائلاً « شايف هادا الوش تذكروا منيح هادا بدو ينيك ربك بالفرع  » ثم عاد وغطى عيناي و قادني للخارج, فقلت بيني و بين نفسي  » أه هادا مو الفرع هادا شكلوا المقدمة « 
جمعوا قطيع الأسرى من المثقفين خارج محطتنا الأولى, ثم دكّونا في باصٍ صغير مزودٍ بستائر قماشيّة ومجموعة صوت مميزة, فلن أنسى الأغنيات البحبكجية (الأغاني التي يدعوها مؤيدو النظام بالوطنية) التي تصدح بصوت عالٍ وأنا مكبّل الأيدي معصوب العينين، والباص يمشي في سرعةٍ جنونية إلى وجهةٍ افتراضية . فتخيل يا عزيزي القارىء شعور المرء في لحظةٍ كهذه … يا لسخرية القدر, مكُبّل و معصوب العينين و منهنهٍ من الضرب والإهانات وبمخيلتك صورة من تًلـُم و تحقّر , صورة رجلٍ صورة عائلة ص ورةعصابة, و في الوقت ذاته ينهال على مسمعيك وابلٌ من الأمواج الصوتيّة التي ما إن يحلّل دماغك مطلعها حتى يعصف في أعماق أزقّة ذاكرتك المنسيّة دوامة مغناطيسية تجذب كلمات أغنية وثنية تبُجّل إله الإستبداد والرجعية, تُبجّل من اغتال عقلك واستباح كرامتك بدموية, فتصاب بما يسمى « الفشل الدماغي » إثر تضارب السيالات العصبيّة, فتستسلم لأمرك و تخضع لجلادك
ها أنا ذا أقف قبالة حائطٍ ما, ما زلت مكبّل اليدين و معصوب العينين, لا أعرف أين أنا, من بصحبتي,من جلادي، شكل هيئتي, كم االساعة, ما التالي, لا أدرك من أنا؟؟!!! جلَّ ما أعرفه هو أنني في قبو أحد فروع التدوير الإنتقامية.للحظات كان صوت الصّمت أشدّ من صوت الصراخ… مَرّت الثواني, الدقائق، فالساعات ؟… لا أدري!!!! مرَّ وقتٌ طويل لا أشعر بشيء، ولكن هناك في مؤخرة رأسي ألمٌ ممتدٌ لمؤخرة ظهري, لا أعرف ما هو!!! لا أريد أن أعرف, لم أفكر بشيء, لن أفكر بشيء, لا أفكر بشيء, لا أعرف, لا أريد Ø �نأعرف…. أنا, والدتي, جدتي , الطيارة , نعم… نعـــم الطّيارة ! طارت الطّيارة, فحصي, جامعتي, لا أدري, لا أريد أن أعرف
بعد فترة طويلة من الزمن لاحظت أنني الوحيد الذي يسند الحائط, واكتشفت من الهمسات أن من كان معي يجلسون على مقربةٍ مني …. أنا معزول ؟ نعم أنا معزول ! …. لماذا ؟ آاااااااااااه….. نعم أنا رأس الفتنة
جاءت اللّحظة المنشودة, جاء من يقودني للتفتيش, شعرتُ بارتياحٍ عارم عندما تحرّرت يداي وفُكَّ القيد البلاستيكي الذي أبعد الدّم عن كفاي لمدة ساعاتٍ طوال كان شعورَ ارتياحٍ لا يوصف تنفّست من بعدها الصّعداء, كان أشبه بشعور أمٍ حطّت مولودها للتوّ, أمُرت أن أسلّم ما كان بحوذتي من أغراض شخصية ثم جاءني صوتٌ لئيم أمر « شلااااااح » ….. ماذا أخلع؟ ورمقته بنظرة استفهامية…… « شلاح كلشي » , ترددتُ لوهلة و ظهرت على وجهي معالم الغباء والاستهجان فجائني الرد سريعاً بصفعةٍ مدوّيةمؤكّدة عدم مزاحه مصحوبة بصوته المتعجرف اللئيم « شلاح كلشي ولاك حيوان » نفّذّت أمره دون تذمرٍ أو تباطئ, خلعت جميع ثيابي ووقفتً في منتصف ذلك الممر الطويل عاري الجسد كما ولدتني أمي, فتشوا ثيابي دون أن يجدوا شيئاً ثم جائني الصوت الآمر ذاته و قال بلهجة عاصفة « طوبز و نزيل شوي شوي على الأرض » نفّذّت الأمر دون تفكير مع استهجاني لهذا الأمر المنحرف المصحوب بنظراته المنحرفة لفتحة شرجي المترافقة لحركتي البطيئة نزولاً نحو الأرض, فخطر لي أثناء أخذي ثيابي و ارتدائهم بعد انتهاء هذه المهزلة الإنسانية أنه كان يفتش داخل جسدي خوفاً من إخفاء بعض الممنوعات داخلهمتذكراً مقاطع من فيلم أميركي قديم
جمعوني مع سبعة من خليّة الشعلان البيضاء (كما أسمينا أنفسنا لاحقاً) وكان صديقي المقرّب الذي خُطف معي بينهم جلسنا على الأرض في إحدى الممرات, وجوهنا تقابل الحائط… كنا كلّما سنحت الفرصة لنا نرمق بعضنا بنظرات مواسية علّها تزيد من تآزرنا وتعاضضنا في مصابنا… بعد فترة من الزمن أتى السّجان وقادنا إلى ممرٍ آخر أحيط به ثلاث أبواب حديدية سوداء مصفحة تتسرّب منها رائحة واخزة لا تشبه أي شيء شممته بحياتي كانت أقرب لرائحة ثياب عفنة مبللة متروكة في ركن مظلم لعدة شهور. بالإض افةلدورة مياه وقال لنا أننا سنقضي الليلة هنا, احتلّ كلّ منا مكانه محاولاً أخذ وضعية مريحة لجلوسه… لكن عبثاً… دون فائدة …كلّ عضلة وعظمة في جسدنا كانت تتأوه مستغربين أمر نومنا في الممر, « شكلون مفللين المهاجع و مافي مكان يحطونا » قال شاب طويل القامة ونحيل يرتدي بزّة رسميّة سوداء اللون حيث اقتطع جزءً من قميصه الأبيض وضغط به على جرح أصيب به فوق عينه اليسرى محاولاً ايقاف النزيف, حرّك الجميع رأسهم إيجاباً موافقينه القول, التصقت بجوار صديقي فأخذ يعرّفني على الموجودين مبتدئاً بالشاب الطويل النحيل معرفاً عنه أنّه صيدليّ من درعا مقيم في دمشق و كان في طري قهلمقابلة عمل في إحدى الشركات حين سمع بالحركة السّلمية في ذلك المساء فقرر أن يعرج عليها قبل المقابلة, ثم أشار إلى شابين يافعين بجواره وقال أنّه لا دخل لهما بالموضوع و لكنّهما كانا يمشيان بالقرب من الشارع الذي خرجنا منه مرتديان اللون الأبيض بالصدفة, ثم لاح نظره إلى شابٍ استغرَق في نومٍ سريع و قال أنه ناشط… و هذه المرة الثالثة له بالمعتقل منذ بداية الثورة , ثم انتقل إلى رجل في مقتبل خريف عمره، رتيب المظهر. ابتعد قدر الإمكان عن المجموعة وانزوا وحيداً… وقال صديقي باستهزاءٍ « أمّا هذا فعلى ما يبدو أنّه من البحبكجية سحُب من سيارته عندما كان في المنطق ةيشتري ناعم لأولاده، وطبعاّ لارتدائه اللون الأبيـــــــض », والتفت أخيراً لشابٍ في عمرنا تقريباً عذب الملامح، دقّ على ساعده صليباً صغيراً و قال أنّه ناشط شُحط من مكتبة قريبة لجاْ اليها هرباً من الأمن بصحبة أخيه وصديق لهما, ثم قال لي ختاماً أن هناك تسعة شبان آخرين لا نعرف مصيرهم ولا نعرف المكان الذي اقتيدوا إليه
يا لهذه الليلة …… يا لغرابتها , شعورٌ لا يوصف ….. لا أعرف كيف أضعه في حروف أوأســـطر
ها أنا ذا قابعٌ في مكان مجهول منهكٌ على أرض ممر معتقل مجهول في مكانٍ مجهول. لا أصدق ما حصل و ما يحصل, أشكك في الوقائع… أفكر!!! – بحكم العادة الأنسانية عندما نقع في المتاعب – لا يمكن أن يكون ما يحصل حقيقةً… لا بدّ أنني أحلم أو أنها مزحة من نوعٍ ما  » الكميرا الخفية يمكن » لا يمكن أن تكون هذه الأحداث التراجيدية حقيقيّة… لا يمكن أن أكون أنا محور هذه الحبكة الدرامية ! أكُمل تعبئة النشرة الشخصية التي وزعوها علينا بملل .. الأسم , الكنية , أسم الأب , أسم الأم , مكان الولادة ,القيد , مكان السكن , عمل الأب , عمل الأم , العمل , الشهادات العلمية الحاصل عليها , المدارس التي درست فيها , الجامعة , الحزب السياسي الذي تنتمي إليه ! , لمحة مختصرة عن حياتك !!!, منهياً بذلك ليلة اعتقالي الأولى من يومٍ رمضاني لثورةٍ بدأت في موسم البنفسج… ثورة سلمية حملت كبرياء وشموخ وحزن زهرة البنفسج… زهرة تلقي ببذورها إلى الريح لتنشرها في الأرض، كي تعلن كلما رفعت أجراسها نحو السماء، نهاية الشتاء وحلول فصل جديد ….
نعم…. مع أنني أرتديت اللون الأبيض كانت جريمتي جريمة أزهار البنفسج , نعم…. ساقونا في الصباح الباكر وحشرونا في زرائب منافية لقوانين حقوق الحيوان في ثقبٍ أسود يتوقف فيه الزمان والمكان في مقابر جماعيّة لا يدخل لها النور أوالهواء، في مهجع تبرّأ منه المهندس وعامل البناء. جدرانه امتصت حقد الجلاد والسجان فذبل الدهان عنها صارخاً « الرّحـــــمة!!!! » لا أستطيع أن أرى المزيد, هناك حيث فشل التاريخ و تعثّرت الإنسانية وجدنا أنفسنا وسط المئات من نخبة البشريّة, كانوا مجرّدأرقامٍ سقطت سهواً في مستنقعاتهم البربريّة, لكلّ رقم جسد ولكلّ جسد حكاية اختمرت حبكتها وسط أصوات التعذيب… وسط الهواء الثخين العفن… نعم!!! قضيت خمسة عشر يوماً سمعت مئات الحكايات التي حفرت في وجداني ذاكرة معتقل, ذاكرة ثورة, ذاكرة وطن… ففي كل يوم يدخل المئات و يخرج المئات… نعم! قضيت خمسة عشر يوماً في أحد الفروع الانتقامية التي باتت و ظيفتها تدوير شعبٍ إختار الكرامة, شعبٌ أختار الحرية… نعم! قضيت خمسة عشر يوماً تعلّمت خلالها الكثير… كانت أهم تجربة يمكن أن يمر بها إمرء , تألمت… ضحكت… حزنت… فرحت… توحدت أحلامي وآمالي و مخاوفي بأحلام وآمال ومخاوف  مئةوعشرين جسدٍ… تلاصقنا سويةً لنفرش أرض المهجع… ففي كل سنتمترأرضٍ جسد في كل سنتمتر تجربة, تعرّفت على قدرة الجّسد الرائعة في التأقلم وعلى طاقة الأمل العظيمة…. نعم!!! قضيت خمسة عشر يوماً في أحد فروع التدوير الإنتقامية لمجرّد ارتداء الأبيض والمشي بسلميّة تعبيراً عن غضبي للاعتقالات التعسفية
قضيت خمسة عشر يوماً طوالاً بدت خمس عشرة سنة في عيون من عاشها… لكنني اليوم أدرك بأنّ ما قضيته لا يتجاوز هباءً منثوراً مقارنة بما قضاه وما زال يقضيه أخوتي أزهار البنفسج من أحرار وطني الرؤوم سوريّة الثكلى
(انحني) و(اخشع) لذكرى ذاك المكان, ففيه مرّ ونام وتعذب وضحك وكُتب وصُنعَ الكثير, (خلوداً) عادياً قوياً, رجالاً ونساء (أشياء) ليست ملكاً لهم, يبنون أحلاماً ويتخيلون وطن. وطنٌ هو هذا الجدار المُغلق (يقف) بك وبك (ينحني
 كريم – ١٩ تشرين الأول ٢٠١١