ماء الفضة – وسينما الانتفاضة السورية: خمسة أنماط من التسجيل الرفيع -صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 23 décembre 2014

ماء الفضة – وسينما الانتفاضة السورية: خمسة أنماط من التسجيل الرفيع -صبحي حديدي

ي مقالته الشهيرة «انتحار ماياكوفسكي» 1930، كتب ليون تروتسكي: «الثورة، إنها دائماً صعبة، على فنّ يسعى إلى بلوغ الكمال في الأشكال». ولعلّ المرء لا يبالغ إذا اقتبس وجهة النظر تلك، في تلمّس المشاقّ الكثيرة التي واجهت المخرج السينمائي السوري أسامة محمد، وشريكته وئام سيماف بدرخان، لدى بحثهما عن الأشكال الأكمل، الكفيلة باقتراح التسجيل الأرفع الممكن، لبعض وقائع الانتفاضة السورية، وبعض حكاياتها، وبعض تراثها السمعي والبصري الموثق.
لكنّ شريطهما، «ماء الفضة»*، تجاوز صيغة الـ»بعض» الابتدائية هذه، حين اتخذ مسارات أبعد في المحتوى والرسالة، وأشدّ تركيباً من حيث الشكل والتقنيات؛ فانقلب الشريط إلى ما يشبه مختبراً مفتوح الطموح، عالي التجريب والبحث، حول مقتربات سينما الانتفاضة السورية هذه، وسينما التوثيق السياسي السوري عموماً، من جانب أوّل؛ وكذلك سبل توظيف المادّة الغزيرة التي توفّرها وسائط التواصل الاجتماعي للفيلم التسجيلي السوري المعاصر، من جهة ثانية.
وخلال السنوات الثلاث الأخيرة، أُنتجت أفلام تسجيلية عديدة تناولت الانتفاضة؛ أخرجها محمد علي أتاسي، «ابن العم أونلاين»؛ وطلال ديركي، «العودة إلى حمص»؛ ومحمد علي الأتاسي وزياد حمصي، «بلدنا الرهيب»؛ وفراس زبيب، «طلق كذاب»؛ بالإضافة إلى سلسلة أفلام «ابو نضارة»، وسلسلة أفلام الرسوم المتحركة، وسواها. لكنّ «ماء الفضة» ليس الشريط الذي يتوّج تلك الموجة السينمائية لأنه الأطول، فحسب؛ بل كذلك لأنه، ثانياً، يصدر عن أحد أبرز صانعي السينما الروائية في سوريا («نجوم النهار» 1988، و»صندوق الدنيا» 2002)؛ وكذلك، ثالثاً، لأنّ ظروف تنفيذه اقتضت عملاً تشاركياً فريداً، وغير مسبوق في تاريخ السينما السورية، بين مخرج محترف مجبر على الإقامة في باريس، وشريكة له ليست محترفة ولكنها تحمل الكاميرا، وتمثّل عينها وعين شريكها معاً، من داخل سوريا، في قلب مدينة حمص.
هذا هو النمط الأوّل من تسجيل رفيع سوف يضع محمد وبدرخان في حال متشابكة من تقاطع الأساليب تارة، وتناغمها طوراً، وامتزاجها غالباً في أسلوبية عليا مشتركة؛ تتشكل ملامحها في حوارات مطولة عبر لوحة مفاتيح الكومبيوتر، بين حمص وباريس، وبين رؤية وأخرى، وتتقارب تفاصيلها أو تتباعد، على نحو يغني الحصيلة، وينوّع معطياتها، في نهاية المطاف. وهنا، في الإشارة إلى النمط الثاني من التسجيل الرفيع، يلعب النصّ المنطوق، أو المدوّن على خلفية المشاهد المصوّرة، وظيفة أخرى إضافية: تظهير البنى الشعورية للشريكين، كلّ في مكانه، كأن تتساءل بدرخان (التي تظهر، صوتاً أوّلاً، في الدقيقة 36 فقط): «أين تكمن الحياة؟ في الـ»هنا» أم في الـ»هناك»؟ ربما انثنى الشارع من أجل هذه الحروف، لأكتبها الآن لك. ومثل مهجّري الكون، ارتميتُ على بقايا رصيف خلف جدار، والكلّ يلمّون بقايانا في سوزوكي، ويوزعوننا مثل اللقطاء»؛ ويردّ محمد: «خفتُ أن أكون أنا، الذي هنا، قد دفعت بها للموت. أحسست أنني، راغباً، أدفعها للخروج، لتنقص بطولتها، لتقلّ شجاعتها، لتقترب منّي. لنلتقي. أنا الذي يريد أن يخرج من النفق».
بيد أنّ الوظيفة الجوهرية، لهذا النمط الثاني، هي أنّ النصّ المصاحب يتولى، بعد تظهير البنى الشعورية للشريكين، إقامة شبكات متعاقبة من العلاقات الإدراكية مع الصورة؛ لا تسيّجها أو تؤطرها أو تستزيد عليها، بقدر ما تستدرج المشاهد إلى الأسئلة، بدل منحه الإجابات، خاصة الجاهزة منها، وتفتح بالتالي حقول اشتباك استدلالي، وربما سجالي أيضاً، مع الصورة في الخلفية. هي، كذلك، فرصة الإخراج لتمرير المفارقة الساخرة والسوداء، التي تظلّ أثيرة عند محمد، أو إقامة التضاد بين رسالة الصورة ومحتوى النصّ؛ كأن يعرض المشهد صورة طفل عار معتقل، يخضغ للتعذيب، ويُجبر على تقبيل حذاء عسكري، وأمّا النصّ فيقول: «في المشهد بطلان: مراهق وحذاء. المراهق شديد الوضوح لدرجة العري. هو هو. البطل الثاني حذاء. هكذا يقدّم نفسه في فيلمه»؛ لأنّ المادة الفيلمية مسرّبة من هاتف جوّال، لأحد عناصر الفرع الأمني الذي يعتقل الطفل.
النمط الثالث هو الاشتغال الفنّي على المادة الخام، المستمدة غالباً من أشرطة تصوير هواة، مرفوعة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ بحيث تكتسب المادة جماليات إضافية، يندر أن تكون تجميلية متكلفة، كما يندر أن تخون المحتوى الجوهري للأصل. على سبيل المثال، تجوال الطفل اليتيم عمر، في خرائب حمص وفي مقبرتها، وحواراته مع أبيه في قبره، وعلاقته بالطبيعة، وبالازهار خاصة… كلها تخدم هذا الاشتغال. وفي القسم الذي يحمل عنوان «النوتة الأولى»، ثمة مشهد لمتظاهر يحطّم صورة بشار الأسد (هذه هي المادة الخام)، تمتزج معها أصوات مطارق، وهدير دبابة، وغناء من نعمى عمران، وموسيقى حسب النوتة الموسيقية الأقدم في التاريخ (اكتُشفت في سوريا، وتعود للقرن الخامس عشر قبل الميلاد)، وأصوات تهتف: «خاين يللي بيقتل شعبه». في مثال ثالث، المشهد يحمل عنوان «الجندي المجهول»، ويصوّر عسكر النظام وهم يعبرون بآلياتهم المدرعة في حي «بابا عمرو سابقاً»، كما يقول أحدهم؛ وامّا الصوت في الخلفية، فيتعالى قائلاً: «الأسد أو نحرق البلد»؛ وفي خلفية صوتية أخرى، يُعزف نشيد «حماة الديار»؛ ويقول المخرج: «للكلام معنى، فهو الصورة والروح. تنفخ على الزجاج لتترك أثراً».
وبهذا فإنّ «ماء الفضة» ينحاز إلى مدرسة ترى أنه إذا توجب على الفيلم التسجيلي أن يكون فاعلاً، بمعنى وظائفه السياسية والاجتماعية والثقافية والمعرفية، فإن عليه أن يتسلّح بمعطيات فنية وجمالية تتيح وصوله إلى نطاقات جماهيرية أوسع. في المقابل، ثمة تلك المدرسة الكلاسيكية التي تعتبر أنّ واجب الفيلم التسجيلي هو نقل الحقيقة كما هي في الواقع، بصفة موضوعية لا انحياز فيها، وبدون مؤثرات جمالية أو عاطفية. والعارف بسينما محمد، في فيلميه الروائيين، وكذلك في شريطه التسجيلي المبكر «خطوة خطوة»، 1977، وشريطه التسجيلي الثاني «اليوم وكل يوم»، 1981؛ لا يفوته إدراك مقدار ولع المخرج بالتسجيل المشبع بالجماليات، وتحويل استقبال العنصر الواقعي التوثيقي إلى فعالية استجابة فنية معمقة. و»ماء الفضة» يحتوي على مشاهد كثيرة لا تذكّر إلا بأفضل تقاليد دزيغا فرتوف في «رجل يحمل كاميرا سينمائية»، وبعض مشاهد السكك الحديدية تعيدنا إلى فالتر روتمان في «برلين: سيمفونية مدينة كبرى».
النمط الرابع، في أواليات هذا التسجيل الرفيع، هو سعي الإخراج إلى جسر الهوّة، التي تظل كبيرة في الواقع، بين التسجيلي والروائي؛ على نحو يتيح للصورة أن تسرد خيط حكاية، متقطعاً تارة، ومتصلاً تارة أخرى، من جهة أولى؛ كما يتيح للخيوط الحكائية ذاتها أن تصنع صورة، مشهدية عريضة، أو تفصيلية منفردة، من جهة ثانية. ومنذ اللقطة الأولى، لحنفية ماء تنقّط على خرائب في حمص، ثمة رباط سردي يتغاير ويتعدد حتى يبلغ الدقيقة 63، حين تعاود الحنفية الظهور؛ وإلى جانب وظائف المشهد الكثيرة ضمن تشكيلات الفيلم الدلالية، فإنّ الظهور المتكرر للطفل العاري وهو يُجبر على تقبيل الحذاء، ليس سوى وسيلة لإقامة روابط سردية بين أجزاء الفيلم. كذلك تؤدي منامات محمد وبدرخان وظائف حكائية بدورها، فلا تقتصر على إسباغ سمة إنسانية ذاتية على المنام، بل تنقل كذلك بعض الشحنات الجَمْعية التي تعصف بضمائر السوريين.
ويبقى أنّ النمط الخامس هو ذاك الذي لا نستخلصه، نحن المشاهدين، بأنفسنا، ومن وحي قراءاتنا المتعددة للفيلم؛ بل يبادر محمد إلى تبيانه، مباشرة، لما تنطوي عليه هذه المباشرة من غايات، حين يعلن أنّ في «ماء الفضة» سينمات، لا سينما واحدة: واقعية (مشاهد الدوس على أجساد المتظاهرين في بانياس)؛ وغرائبية (انبطاح المتظاهرين على الطريق الرئيسية أمام مرور الدبابات)؛ وشاعرية (القطع التركيبي، بين مشهد ولادة جنين في غرفة بدائية التجهيزات، وتشييع شهيد تحت انهمار الثلج)؛ وسينما القاتل (مشهد إطلاق النار، بدم بارد على رأس معتقل يجثو أرضاً)؛ وسينما القتيل (مشهد أمّ ثكلى، ينقل وجهها كلّ عذابات السوريين، وكلّ ملحمية انتفاضهم). ولعلّ التجسيد الأعذب، والأرقى أيضاً، لهذا النمط الخامس، إنما يتجلى في مشاهد الفيلم المَزْجية الأخيرة: قرع أجراس كنيسة، عيد الميلاد، لاجئون سوريون يجمعون الماء من الثلج المنهمر، «صباح الخير» تُنطق بالكردية والعربية والفرنسية، جثمان شهيد طفل، وخيط دم على مساحة بيضاء يخطّ مفردة: الحرية.
خمسة أنماط من التسجيل الرفيع، إذاً، سوف تحفظ لها الذاكرة السورية المعاصرة مكانة رفيعة بدورها؛ وستبقى واحدة من أرقى شهادات الإبداع السوري، في إدانة أربعة عقود ونيف من نظام استبداد هو الأبشع، وفاشية وحشية هي الأفظع، على مرّ التاريخ.

* «ماء الفضة: سوريا، سيرة ذاتية»، إخراج أسامة محمد ووئام سيماف بدرخان.
إنتاج «لي فيلم ديسي» و»بروأكشن»، 2014. 110 دقائق. تبدأ، اليوم، عروضه العامة في الصالات الفرنسية.