مجزرة أخرى ويعلنون وفاة العرب! – نادر رنتيسي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 31 août 2012

صباحُ الخَيْر حجارةَ « داريَّا »..صباحٌ لا يُرَدُّ بـ « الياسمين والفُلِّ والنُّور »..؛ فلا أحَدٌ هُنا سوى مذيعة مِغْناجة تُحاوِرُ الموتى، وتسألهم عن وجهتم المُقْبِلَةِ في الحياةِ الأخرى. تتجوَّلُ بإحساسٍ بارِدٍ بيْنَ الجُثَثِ بحماية « الجَيْش العربيِّ السوريِّ » الذي يدخلُ المدينة بعد مَجْزَرَةٍ أو قبْلَها، ويكون « شاهد عيان » أثناءها. عند المقبرة تماماً تصحو سيدة من موتها، وتبرِّئُ « الجيش »..؛ فعلى « تلفزيون دُنْيا » فقط يُمكنُ للقتيلِ أنْ يشرَحَ بطلاقَةٍ ملابسات مقتلِهِ!
كان هُناكَ شابٌ أغلَقَ هاتفَهُ المحمولِ خوفاً من والدِ فتاةٍ مُتَحَجِّرٍ أرسَلَ إليْها رسالةً ضوئيَّةً تتضمَّنُ مقطَعاً مِنْ قصيدَةٍ « فاحِشَةٍ  » لـ »نزار قباني ». ماتَ الشابُ برصاصَةٍ والفتاةُ بطعْنَةٍ ووالدُها حزناً عليهما. ولم يزل الهاتفُ مغلقاً لمَنْ بقيَ حيا في أطراف أخرى من « ريف دمشق » قبلَ المجزرَةِ الأخرى، وفي الرسائل المحفوظة لم تزلْ هناك مقاطع من قصيدة لم تكتمل تحاوِلُ رسْمَ بلادٍ « تُسمَّى مجازاً بلادَ العرب »!
تقولُ القصيدةُ فيما تقولُ إنَّ الموتَ العربيَّ حكايَةُ الأطفالِ المُسلِّيَةِ قبلَ النَّومِ، والنهايَةُ المتوقعَةُ لـ « فيلم السهرة »، والخبرُ العاجلُ في نشرَةِ أخبارِ يوم أمس؛ هو مكدَّسٌ في كتبِ التاريخِ الحديثِ على هيئة مجازر؛ فالموتُ هُنا في الشرق صورَةٌ جماعيَّةٌ لا ينجو من كادرها أحدٌ إلا لحكمة في « قلب » القاتل. وفي المجزرة الأخيرة ماتت عائلة بأكملها، وبقيَ « المكتوبُ له عُمْر »: سيُحُبُّ في يومٍ ما امرأةً دافئةً، ويتزوَّجُ في عامٍ ما من قريبته الطيِّبة، ثمَّ ينجبُ في زمن ما طفلا مبتوراً من شجرة!
في كتابِ العَرَبِ كلُّ مجزرَةٍ لها شقيقَةٌ كُبْرى وأخرى صُغْرى..؛ وثالثَةٌ ستكبَرُ عمَّا قليل بعدَ صلاةِ الفَجْر بأعمار خمسين طفلاً سرَّهم أنَّهم في المَوْتِ لا يذهبونَ إلى المدارس، ولا يضْطرُّونَ لتصديق أنَّ بلادَ العُرْبِ « من الشام لبغدان » أوطانهم التي يتبادلونَ فيها اللجوءَ من مجزرة إلى أخرى، ولا يفترقونَ من بعد كأبناء الخالاتِ في الحياة!
المجزرَةُ انتهتْ بدليلِ أنَّ المذيعَةَ المِغْناجَةَ دخَلتْ واثقَةً من أنَّ الجناةَ طيبونَ ويمكنُ التحالفَ معهم حتى تصوير « الريبورتاج »، والانتهاء من عمليَّاتِ المونتاج كافَّةِ، وإحياء القتلى قبل أنْ يصبحوا رميماً! المجزرة انتهت فيصحو طفلٌ شقي ما يزالُ حياً..؛ يبتهجُ لأنَّ الموتَ كان في مهمة أجدى، وهُنا تنتَهِزُ الأمُّ خروجَها من كادَرِ الصورَةِ المُتحرِّكَةِ لتقولَ حكمَةً لنْ تخذِلَها: »القاتلُ يُقتلُ في مجزرَةٍ أخرى »!
ثمة موت سوري مباشرٌ، وآخر ليبي مسجَّلٌ، وثالث عراقي مؤرشَفٌ، ورابع فلسطيني موثَّقٌ..؛ و »العربيُّ » أمين جامعة الموت. موتٌ على مدار الوقت؛ مجزَرَةٌ أخرى ويُعلِنُونَ وفاةَ العرَبِ في كُتبِ التاريخِ الحديثَةِ، وتُصبِحُ المقابر مُدناً رَديفَةً يُمنعُ فيها التجول، ويقتصر التصريحُ فيها للقنوات المواليَةِ التي تصدِّقُ « الكذبة » قبلَ بثِّها. موتٌ لا يموتُ، ولا يُصدِّقُ أنَّ موتَ القاتلِ عبادَة!
المجزرَةُ انتهَتْ ولم أمُتْ بعد..؛ هذه على ما يبدو بادِرَةٌ سيِّئَةُ النيَّة من القاتلِ لأسكنَ في الموت، وأصير أحد سكانه الأحياء، ثمَّ أصابُ بالأمراض النفسيَّةِ المُعقَّدَةِ التي تؤنِّب مَنْ ينجو من المجزرة: كيف أحيا وكان باستطاعتي الموت!

http://www.alghad.com/index.php/afkar_wamawaqef2/article/30486/%D9%85%D8%AC%D8%B2%D8%B1%D9%87-%D8%A7%D8%AE%D8%B1%D9%89-%D9%88%D9%8A%D8%B9%D9%84%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%88%D9%81%D8%A7%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%21.html