مدارس « العار » الخاصة جداَ في سورية – مارتن ماكنسن

Article  •  Publié sur Souria Houria le 8 février 2013
« يجب عليك أن تنسى هذه القصة. يمكنك الآن الذهاب ودفع ثمن تأشيرة السفر »
لقد انتهينا لتوّنا من احتساء فنجان من القهوة في مكتب مسؤولة العلاقات السورية في فرنسا، شغف كيالي و هي قائم بالأعمال وتم تكليفها لاحقا بمنصب  سفيرة سورية في الأردن. تكلمت بسرعة. يعلو وجهها ابتسامة يشوبُها الإرتباك. كانت هذه المرة الثانية التي استقبلتني فيها في السفارة الواقعة في أحد الأحياء الراقية في باريس. أشتم رائحة الخوف في كلماتها، وأرى القلق باد بوضوح في عينيها البنيتين اللتان تنظران إلي من خلف نظارتها. كان سبب إلتقائي بها هو اهتمامها بالتنقيب عن الآثار وببعثات التنقيب الأوروبية  والتي كانت تعيش عصرها الذهبي في ذلك الوقت في سورية ، مالذي يدفع شخصاً دبلوماسيا ومثقفا مثلها للتصرف بهذا الشكل؟
في كانون الأول 2006. بينما كنت أقضي عطلة عيد الميلاد في لندن حيث يسكن والديّ منذ أن تقاعد أبي من العمل في منظمة اليونسكو في باريس. يرن جرس الهاتف، ليصل لمسامعي صوت إمرأة مجهولة  تسألني بلغة إنكليزية مكسرة فيما إذا كنت أرغب بالتدريس في مدرسة فُتحت حديثاً في حمص تسمى الحكمة. (اسم المدرسة يذكّر بمدرسة تحمل ذات الاسم في منطقة الأشرفية ببيروت حيث أجيال متعاقبة من اللبنانيين تلقّوا تعليمهم).
كيف حصلت رشا فيصل على رقمي في لندن والذي يختلف تماماً عن مكان إقامتي الأصلية. رشا فيصل، ابنة لينا فيصل، محافظ حمص الأسبق، ورشيد فيصل الذي يمتلك  أحد الشوارع التي تتضمن أكثر مطاعم المدينة ترفاً في مدينة حمص البائسة ،، تلك المدينة التي أصبحت مركزا للثورة.
كنت وقتها ملتزماً بالعمل كدليل سياحي أثري في ليبيا « معمر القذافي » مع شركة ماجيك ليبيا، شركة مملوكة من قبل سوري يقطن في بلجيكيا وتقدم خدمات لوكالات أوروبية عديدة. أجبتها أنني لاأستطيع البدء بالعمل فوراً (فهي قد طلبت مني البدء بالعمل في غضون اسبوعين)ـ لكنني أشرت أنني راغب بالعمل في خريف 2007 في مدرسة تدرّس ثنائية اللغة « دولية » (حسب تعبيرها).
تذكرت فيما بعد أنه في عام 2005 كنت قد أفصحت عن رغبتي لأحد طلاب الصيدلة في دمشق أنني أرغب بالتدريس في « سورية الجديدة » لأرى كيف تتطور هذه الدولة ببطء من حيث بنيتها التحتية و خدماتها، ولأشهد إن كانت سورية قادرة على الخروج من مستنقع الحكم الستاليني والتخلص من قبضة الأسد الحديدية. رشا فيصل درست الصيدلة مع ذات الشخص في دمشق، ربما هذا يفسر كيفية حصولها على رقم هاتفي. في عام 1992 كنت قد سافرت إلى سوريا وشاركت بصفتي طالب آثار في التنقيب في المناطق النائية في دولة كان يُنظر لها على أنها النسخة الشرق أوسطية من رومانيا تشاوشيسكو. ومع ذلك أحببت هذه الدولة. كنت أدعى للمشاركة في وجبات العمال والقرويين في منازل القرميد والطين والتي دُمرت فيما بعد وذلك في تل بانات على نهر الفرات. حدّقت في أعلى جبال سلسلة جبل لبنان من على أعالي تل فينيقي كنعاني يُدعى تل الكزل، وهو موقع أثري على مرمى حجر من حدود لبنان الشمالية كانت ترعاه الجامعة الأمريكية في بيروت.  وأزحت الغبار عن سطح قبر ملكي يعود إلى سنة 2500 ماقبل الميلاد، والذي تم نقله فيما بعد إلى حدائق متحف حلب. في أحد المواقع الواقعة على نهر الفرات بالقرب من الحدود التركية، كشفت بعناء عن إسفين مسماري سرياني وأرشيف أبجدي آرامي ومجموعة من الرُقم التي تخص شخصية تاريخية مختلطة ومتعددة الهويات ذات صفة رسمية. تلك الشخصية ونمط حياتها كشف لنا أن سورية كانت عبارة عن خليط تاريخي متعدد منذ أكثر من 2700 سنة. كنت قد أقمت في سورية لثلاث سنوات متتالية مابين عامي 1999 و 2000، واستمتعت بإكتشاف المناطق حيث كنت أقابل بالترحيب والابتسام من السكان من عين ديوار الكردية الواقعة على نهر دجلة إلى مدينة السويداء الدرزية، ومن مدينة كسب الأرمنية المتاخمة لمدينة إنطاكية التركية إلى البوكمال البدوية. كلما فتشت عن سورية في مكتبات التاريخ المظلمة أو كلما نظرت إلى سماء باريس الداكنة والماطرة، تذكرت يوماً مشرقاً سيحل على بحيرة الأسد، مستعرضا في ذهني جبل عروضا، أقدم مستعمرات سورية، وهي نقطة تمركز سومرية تم إنشاؤها في الوقت الذي كانت فيه مدينة أوروك، أقدم مدن العالم، تسعى للحصول على المعادن من أنتوليا في عام 3300 قبل الميلاد. أو أذكر منظر غروب الشمس من  » من نافذة غرفة الجلوس في شقتي  الواقعة في منتصف جبل قاسيون، أذكر بحنين ودهشة منظر دمشق القديمة عندما يتحول لونها للأرجواني ومن ثم للأزرق الداكن بينما تضيء منارات مساجدها بأضواء النيون الأخضر وهي تصدح بالدعوة للصلاة.
كان عليّ أن أكون أكثر وعياً وأكثر ارتيابا. هذه المدرسة والتي لم تكن سوى مبنىً فسيحاً وعصريا ووردي اللون ولكنه يفتقد للذوق في ضاحية حمص الجنوبية، لم تتعرف تلك المدرسة على منهجي في التعليم ولا عن خبرتي. مالك المدرسة لم يسأل عما إذا كان الطلاب الذين سبق وأن درستهم في مدينة سيؤون اليمنية في محافظة حضرموت الرائعة بين عامي 2005 و2006 قد تعلموا بشكل جيد أم لا. كنت فقط « أجنبياً ». الأجنبي الذي كان عبارة عن « مفاجأة سارة » لأهالي الطلاب المجتمعين في إجتماع أولياء الأمور مع إدارة المدرسة في حزيران 2007.
حمص أرض الأبطال.. الحرة في المستقبل
 
هنا حمص. لم يتبقَ فيها الكثير من جوليا دومنا والإمبراطور الروماني غريب الأطوار هليوغابلوس. مدينة توصف بتعابير ساخرة ومتعالية بأنها « كوكب وحيد »، ويؤكد أن أكثر مافي هذه المدينة من نقاء هو نفطها. مدينة تعداد سكانها يصل تقريباً ل 800 الف نسمة قسم كبير منهم يحمل نفس اسم العائلة: أتاسي، جندلي، فركوح. وعلى الرغم من كل النزاعات، تبقى حمص مدينة قديمة. مدينة مجبولة من حجار البازلت السوداء ومتاهات من الشوارع التي يمر أحدها عبر سوق الحميدية وهو سوق يحمل نفس اسم السوق الواقع في مدينة دمشق. مدينة شهدت زمانا أفضل. تم هدم المنازل القديمة فيها واستبدلت بمنازل قاتمة اللون أو لا لون لها يسكنها الفقراء (بدأت عملية الهدم تلك في الخمسينيات). جزء من البيوت القديمة التي لم تُهدّم تم تحويلها لمطاعم كمطعم بيت الآغا وبيت جوليا وذلك كجزء من العملية التي بدأتها أسماء الأسد، زوجة بشار الأسد، منذ أول يوم أصبحت فيه السيدة الأولى. تلك العملية كانت تتضمن تحويل أجزاء مختارة من التراث السوري القديم إلى متاجر وفنادق ومطاعم فاخرة تستضيف ضيوف السيدة الأولى من النُخبة. أما باقي المنازل فكان مصيرها الهدم بأموال دول الخليج العربي وقرارات محافظ حمص. صورة المدينة ومظهرها الخارجي يخفي الواقع المرير « لسورية الجديدة » وراء بريق ابتسامات « زهور الصحراء » السورية. سأعود للحديث عن ذلك لاحقا وعن إصلاحات بشار الأسد التي كانت تتضمن كل هذا منذ أن جاء للسلطة في حزيران 2000. كان الهدف هو إظهار واجهة  جميلة وراقية تحاكي لبنان لتغطي وجه سورية الجديدة المليء بالفساد والترهيب. « علينا أن نبدو بصورة أفضل لجذب المستثمرين الأجانب ». كان ذلك الشعار الجديد الذي دعا المهندس المعماري عبد العزيز الحلاّج، المسؤول عن مدينة حلب القديمة، لترك وظيفته والسفر لحضرموت. ولكن هذه قصة أخرى.
ومع ذلك فإن حمص التي عادة مايتجاوزها السياح الأجانب أو يبيتون فيها ليلة واحدة وهم في طريقهم لقلعة الحصن اشهر قلاع الصليبيين في العالم أو في طريقهم إلى أعمدة تدمر المصنوعة من الحجارة الرملية، هذه المدينة كانت تغلي منذ وقت ليس بالطويل. فقد أشار أحد الأطباء السورييين أنه في بداية عام 1960 كان هناك سبعة عشر صحيفة تصدر في حمص كل أسبوع. كان أغلب سكانها من الطبقة المتوسطة والذين يعيشون الآن خلف ملعب الكرامة أو في الغوطة (الغوطة عبارة عن أرض خضراء على أطراف العاصي كالتي تحيط بنهر بردى في دمشق) أو في جوار منطقة الإنشاءات أو في الوعر أو بجانب جامعة البعث. المسيحيون والعلويون والسنة يعيشون مع بعضهم البعض بسلام ولكن منفصلين عن بعضهم البعض إلى حدّ ما. عندما وصلت، وجدت مدينة صناعية محاطة « بطريق دائري » على أطرافه الشمالية تشتم رائحة الكحول الصناعي (بسبب معامل السكر) وعلى أطرافه الأخرى تفوح رائحة كرائحة المطاط المحروق عندما تهب الرياح الغربية من جهة الخط الواصل بين المدينة والساحل (جزء من هذه الرائحة سببه مصافي النفط ذات الطابع السوفيتي والتي تعتبر من أكثر الكوراث البيئية خطراً في سورية). تم معاقبة المدينة من قبل نظام حافظ الأسد ربما بسبب كثرة الأحزاب السياسية التي أنشأت بعد الإستقلال في عام 1946 أو بسبب كثرة المفكرين والأطباء والمحامين والمهندسين والكتاب الذين قد يقوموا بنشر أفكارهم.  أو ربما لكونها مدينة الرئيس السوري الأسبق المعتقل نور الدين الأتاسي الذي أصرّ على عدم مسامحة حافظ الأسد على إنقلابه العسكري في عام 1970. أو لكونها مدينة إستراتيجية تقع في قلب سورية. أو ربما بسبب حسّها الفكاهي الساخر. أهل حمص هم من يتندّر السوريون عنهم في نكاتهم. لكن حذارٍ، فقد يكون للتندّر مآرب أخرى، خصوصا في هذه الحالة.
عوقبت حمص مرة أخرى بشكل وحشي يُحاكي ماحدث في حماة عام 1982 لأنها مركز الربيع العربي السوري. إنها مركز اللاخوف حيث نزل النساء والشباب والرجال على حد سواء للشوارع مطالبين بالحرية وهم على علم بأنها قد لا يعودول لمنازلهم. نزلوا للشوارع وهم مدركون أن الشبيحة قد يداهمون منازلهم في منتصف الليل بسبب تجرأهم على تحدي عائلة الأسد والمقربين منه. هناك الكثير من المقربين لعائلة الأسد في حمص. ليس فقط عائلة الفيصل والرفاعي ولكن أيضاً عائلة أنبوبة التي تمتلك حصة كبيرة من شركة سيرياتل للإتصالات. في حمص لايزال النظام يحاول بث التحريض الطائفي. إنه يلعب دور من يصب الزيت على النار ليقوم بعدها بدور رجل الإطفاء المخلّص الذي يحاول إنقاذ الناس من الحريق الذي تسبب هو ذاته في إشعاله.
العودة للمدرسة
الرابع عشر من آب لعام 2007. قمت بزيارة سورية مرة أخرى برفقة ابنة شاعرة مشهورة كانت قد دعتني لزيارة منزلها في بيروت ولزيارة فيلا والدها في قرية القصابين، التي تقع في منتصف الطريق مابين البحر المتوسط والتلال الجبلية للنطاق الساحلي لجبل الأنصارية.
تشكل حمص إستراحة جيدة للمسافرين كونها تقع في قلب سورية. كنت آنذاك لا أعول على فرصة لتحصيل عمل بأجر مجز في فرنسا، وكانت المدرسة لا تزال ترغب في عملي معها براتب شهري يبلغ 2000 دولار ومنزل للإقامة. قمت بزيارة مدرسة الحكمة، وتحدثت مع رشا، وزرت تلاميذ الصف الأول الذين يهجؤون كلمة « فراشة » باللغة الإنكليزية كما تعودنا سماعها في القصص التي تُكتب في كتيّبات الإرشاد لليوم الأول من المدرسة. في الباحة الخلفية للصف، رأيت بركة للسباحة لازالت قيد الإنشاء وأرض معشبة خضراء تستخدم كملعب للأطفال. رغم حرارة الصيف، كنت أشعر بنسمات صيفية ناعمة رطبة، ويتراءى لك من بعيد منظر بديع لجبل لبنان بين بشرّي ودير الأحمر. أغراني كل ذلك الجمال بالعمل لدى المدرسة. ولكن صديقتي اللبنانية حذرتني من مغبّة الإستعجال في إتخاذ أي قرار. دفعوا لي ثمن بطاقة الطائرة نقدا، وتم الحجز لرحلة قدومي إلى سوريا بحيث أصل في الخامس عشر من أيلول عندما بدء دوام المدارس. حدث كل ذلك بعد أن قدمت لهم درسا مزيفا وخطة دراسية مزيفة طلبها مني مدير المدرسة اللبناني المزيف بعد مقابلة مزيفة … كل ذلك لأن رشا فيصل مالكة مدرسة الحكمة قررت منذ زمن طويل تعيين هذ « الأجنبي » في مدرستها المزيفة.
أيلول 2007. عدت إلى حمص بعد رحلة ليلية طويلة على متن الخطوط الجوية التركية. ركبت مباشرة في أول باص كان متجهاً لحمص. وصلت لدوار تدمر وتوجهت مباشرة للمدرسة لأباشر مهامي حاملا حقيبتي ذات العشرين كيلوغراماً. لم آخذ قسطا من الراحة بعد السفر الطويل. لم أحصل على أية كتيبّات إرشادية لكنهم وعدوني باستلامها فوق اعتمادها من وزارة التعليم بعد استصدار ترخيص العمل. هكذا أظن.
بعد أيام قضيتها في أحد الفنادق الكئيبة و القذرة وراء الملعب ، انتقلت أخيرا الى شقتي في الغوطة.
و قد  جال بي  في أنحاء المدينة السيد الرفاعي ، زوج السيدة رشا فيصل ، و دفع إيجار الشقة. ثم  مررنا بمنزله فقام بفتح صندوق السيارة الذي كان يحتوي على بندقية . فقال لي مبتسما  » لاصطياد الطيور انه الخريف « 
تم دفع ايجار شقتي حتى تاريخ 31 ايار نهاية العام الدراسي , ولم يكن عقد الإيجار باسمي طبعا بل باسم أحد سائقي باصات المدرسة. لأن عقود الإيجار للأجانب تستوجب دفع ضرائب إضافية مما يشكل ذريعة لجلب المزيد من الأموال في خزائن الأسد.
يمر العام و تهب رياح الشتاء الباردة من خلال دهليز حمص. أنتظر باص المدرسة في تمام الساعة السابعة من الدوار ليقلني إلى المدرسة كل يوم ، يقود بنا نحو الغيوم التي تلوح في الأفق ، نزولاعلى طول الطريق السريع لدمشق،
العودة للمدرسة
التلاميذ مرحون، ومبدعون، يسهل التعامل معهم، وهم بشكل عام يسعون للتفوق والاتيان بالأعمال الجيدة والتفاخر بها.
كان من ضمن تلاميذي تلميذان اثنان من خلفية أدنى من غيرهم ماديا. وكانوا مجتهدين مما يعكس جهود أولياء أمورهم لمنحهم فرصة التعلم.
لا مشكلة على هذا الصعيد . يسعدني  أن أرى غالبية التلاميذ يطورون مهاراتهم، و يحدثون فرقا. كان أولياء أمورهم يشجعونهم على ذلك وينظرون إلي كوسيلة وفرصة لزيادة مهارات أبنائهم. وأحيانا يحاولون إنشاء علاقات شخصية بيني وبينهم، إلا أنني أمتنع عن ذلك وأشرح لهم بأنني يجب أن أترك دائما مسافة بيني وبين الجميع لكي أتمكن من التعامل مع الجميع على قدم المساواة.
دائما كانت دوافهم نابعة من طيب النوايا .. هم يريدون فقط أن أشعر بترحابهم.
لاحظت ضعف مستوى التلاميذ في اللغة الإنجليزية كلما تقدم المستوى والصف. ففي الصف الرابع يكاد العديد من الطلاب يفشلون في قراءة كلمات بسيطة ضمن نسخة دليل بالكلمة والصورة مخصصة للتلاميذ في بريطانيا الذين يتحدثون اللغة الانجليزية بطلاقة في منازلهم، مما جعلني أتساءل: ماذا تعلموا في السنوات السابقة إذا؟
كثير من الاباء يريدون علامات جيدة لأبنائهم، لذا طلبوا مني إعطاء دروسا خصوصا لأبنائهم. ولكنني اعتذرت عن ذلك، فالعلامات الجيدة تأتي من الانتباه في الصف وبذل المزيد من الجهد والعمل.
من المعروف أن تقييم المدرسة لا يأتي عن طريق الدرجات التي يحصل عليها الطلاب، وإنما يأتي مما يعرفه الطلاف وكيفية استخدامهم لتلك المعرفة، وهذا الأمر يبدو أنه خفي على رشا فيصل.
في امتحان العلوم لم يحصل إلا عدد قليل من التلاميذ على درجات مرتفعة، فقامت هي برمي أوراق الامتحان في وجهي وصفقت الباب خارجة بعد أن أطفأت الأنوار، وتركتني واقفا في الصف في حالة يرثى لها من الذهول. ولكنها لم تستطع أن تقيلني لأن ذلك سيظهرها بمظهر سيء. أرسلت لي سائق الباص ليوصل لي رسالة مفادها أنني يجب أن أعيد الامتحان. فكان جوابي: كما تشائين ولكن إن عاملتني بهذا الأسلوب مرة أخرى فلسوف أترك العمل وأنصرف.
أنهت تلك الحادثة علاقة العمل بيني وبين رشا فيصل. أصبحت أعمل، ولكن بمعزل عن بقية الموظفين، و تحت رقابتها الدقيقة وعن بعد.
لم يكن وضعي قانوني، فعلى الرغم من الوعود بحصولي على إقامة قانونية في البلاد إلا أنني لم أحصل عليها بعد انتظار طويل والطلب مرارا وتكرارا مع رشا الفيصل بحل هذا الموضوع. علما بأن تصريح الإقامة يتيح للأجانب العمل بطريقة قانونية وشراء سيارة. اكتشفت لاحقا  أن المدرسين الاجانب في المدارس الخاصة مقيمين في البلد بتأشيرات سياحية، وبناء عليه فهم يعملون بشكل غير قانوني، بعلم السلطات والمخابرات السورية طبعا. وهكذا تأكدت عندها بأنه لن يتم استصدار إقامة قانونية لي في البلد وكان ذلك مدعاة أحباط بالنسبة لي.
بدأت أسأل نفسي: لم تبقى في حمص؟ لم لا تنهي رسالة الدكتوراه التي تأخرت طويلة؟ لم لا أعزز ثقتي بنفسي وبقدراتي على الحصول على وظيفة في مجال تخصصي وهو علم الآثار أو في مجال الأبحاث؟ لم لا أحاول تذليل الصعاب؟
في هذه الأثناء تعرفت على فتاة مسيحية سورية من خلال دروس المحادثة الإسبانية (أنا نصف أرجنتيني) وأقمنا حفل خطوبتنا في فندق السفير .
بدأت أشعر بأنني شخص سخيف وفاقد للسيطرة على الأمور في هذا المجتمع التقليدي . ولكنني بالمقابل  مع سيدة عصرية , ذكية , ذات اهتمامات ثقافية , و تحوطني برعايتها . أعتقد أنني أحبها … بل أكثر من الحب.  كما كنت سعيد بالحماية التي أمنتها لي عائلة خطيبتي والمكونة من ثلاثمائة شخص منتشرين ومتفرعين في القلمون، و دمشق، و الولايات المتحدة الأمريكية والامارات ومصروالبرازيل (حيث هاجر الكثير من أهل حمص والقلمون إلى أمريكا الجنوبية ، إنهم مثلي يحبون  شراب المتة ، الشاي الأرجنتيني، الذي أتلذذ بشربه لأبقى  متيقظا ).  تشعرك العائلات السورية بأنك واحد منهم و كأنهم تبنوك.
الى جانب ذلك، فهي رفيقة سفر مثالية، سافرت معي للتزلج في فاريا بلبنان وإلى اسطنبول وحلب والفرات وعندرين حيث الأثار البيزنطية في السهوب شرق حماة …
لقد شاهدنا الربيع يزهر بالخشخاش على فوهة بركان شيد على على رأسه قلعة شميميس ، والظل المظلم لحجارة البازلت التي بناها الحشاشين من الطائفة الإسماعيلية، في عصر صلاح الدين الأيوبي والحملة الصليبية الثانية …ولقد سرنا في السهوب بين أطلال البيزنطيين في البادية , و الصحراء السورية و في خربة الأندرين حيث الجدران السوداء و البيضاء تحدق بك وحيث الكنائس تحمل السواكف اليونانية تذكرنا بإحدى ملاحم العرب الغساسنة .
لاحقا، وقع مدير المدرسة اللبناني في المحظور بعد مشادة كلامية مع رشا الفيصل، تم على أثرها طرده بشكل فوري من منصبه (هذا هو حال الأمن الوظيفي في بلاد الاشتراكية البعثية السورية) واستبدل بمدير جديد جاء من دمشق اسمه محمد عتمة في الثانية والثلاثين من عمره، كان يعمل في إحدى دول الخليج. إنسان ذو قيم ومثل عليا ويسعى لتعليم الشباب في أجواء أكثر انفتاحا. وعلى الرغم من كون متخفظ دينيا إلا أنه يعلم جيدا أن أسلوب الحفظ عن ظهر قلب أسلوب عقيم وغير مجد. إنه يجرب ويطبق وفي بعض الأحيان يعيد تنفيذ الأوامر (أقصد « التعليمات ») الصادرة عن رشا فيصل. ولكنه عموما حظي بقبول وإعجاب أغلب الأساتذة.
وبغض النظر عن بعض النقاشات المهنية التي دارت بيني وبينه, كانت الأمور على مايرام بيننا . كنت مستمرا بالعمل في المدرسة حسب ما تمليه علي مسؤولياتي وواجباتي, بالحد الأدنى من التعاطي مع رشا, وبالرجوع للمدير كلما دعت الحاجة .
في شهر أيار 2008 و مع إقتراب موسم الإمتحانات النهائية, كان يتوجب علي إعداد نموذجين من الامتحان لكل صف ولكل مادة. وخلال العام زاد هيجان مراهقي الصف التاسع الى حد التخريب والصراخ، وأصبح الضجيج يملأ الممرات. عندما أدركت أن يد السيد عتمة مدير المدرسة كانت مغلولة .. فليس بإمكانه أن يفعل شيءا عندما يتمادى الطلاب في شغبهم. فلا يستطيع احتجاز طالب مشاغب ولا زيادة الواجبات المنزلية على كاهله ولا لطرده من المدرسة. وذات يوم اختفى السيد عتمة، ولم يعرف أحد عند شيئا لمدة أسبوع كامل.
ثم تلقيت رسالة نصية على رقم هاتفي تقول  » لقد كنت محقا تماما في شأن المدرسة  » مدير المدرسة في دمشق بعد أيام قضاها في المشفى , لقد عاقب أحد الطلبة , ابن عم المالك , بإجباره على القيام بتمارين الضغط في ساحة الملعب .
اقتحم والد التلميذ مكتب المدير بعد ساعات , برفقة حارس شخصي و سائق , و ألقى مدير المدرسة بخشونة على الأرض , » نستطيع قتلك , نستطيع إيذاء زوجتك , عائلتك , أنا المالك , أنا مالك هذه البلدة
عبارة مرحبا بكم في سوريا الأسد التي تستقبل الزوار على الحدود تعني فعليا « مرحبا بكم في أملاك سموه الخاصة ».. إن تصرفات النظام تمثل قدوة يحتذي بها الأغنياء في الدولة…محمد عتمة هرب إلى منطقته في ريف دمشق لأن أخو رشا فيصل هدده بدفنه حيا إذا تحدث بسوء عن المدرسة . و كشف في وقت لاحق أنه تمت ملاحقته و حظر عليه إعطاء رقم هاتفه الخلوي لأي من أولياء الأمور , أو حتى لأي شخص كان يعيش في حمص …لا أحد من الكادر يجرؤ على الحديث عن هذا الأمر. الأساتذة اللذين طالما أظهروا إعجابهم بالمدير، أحدهم قال :  » لا أدري من أصدق , قصته ليست مقنعة كثيرا « ، ليجيبه مدرس لغة إنكليزية سوري أمريكي:  » دعونا نعالج ذلك بطريقتنا الخاصة « 
موجه المدرسة طلب مني عدم التحدث عن الموضوع .. » أحسن ألك  » من الأفضل لك قال لي. أما أفضل تعليق فقد جاء من المعلمة المكسيكية الأمريكية من إل باسو التي تستخدم المدرسة لإنتقاء التلاميذ الذين تنوي إعطائهم الدروس الخصوصية بعد الظهر في منزلها بالقرب من فندق سفير
 » أنت تعض اليد التي تطعمك , سياستي  هي: لا أتكلم لا أرى لا أسمع « 
اقتحمت بعدها رشا فيصل غرفة المعلمين وهي تصيح بالعربية: « نحن لا نضرب أحدا. ومن ينشر هذه الإشاعة سوف يدفع الثمن. اجتماع الآن مع طاقم التدريس في مكتبي. » طاقم التدريس يشمل الجميع سواي. سألتها « أخبرينا على الأقل ما جرى من وجهة نظرك ». كان الجواب سريعا: « لن أتحدث إليك » وصفقت الباب في وجهي. كان هذا في 17 مايو من العام 2008. قبل أسبوعين من نهاية السنة الدراسية.
فاق تصرفها هذا قدرتي على التحمل، فتركت صفي ودخلت إلى المكتب الذي كانت فيه حينها، طلبت منها ألا تحدثني بهذه الطريقة. ابتسمت بازدراء وصفقت الباب في وجهي. فتحته مجددا بقوة ألقتها أرضا. كان ردها سريعا « هل تعلم من أنا؟ أستطيع أن أسجنك. غادر البلاد فورا ». بدأ سائقو الحافلات والموظفين بركلي والبصق على وجهي وإهانتي بالعربية (الكلمة الأكثر تهذيبا كانت ولا).
دام ذلك عشرين دقيقة. طردوني بعدها من المدرسة وتركوني على قارعة طريق دمشق – حمص السريع حيث أقلتني شاحنة صغيرة إلى المدينة. كنت لا أزال مرتبطا بخطيبتي السورية التي تلقت اتصالا من نفس سائقي الحافلات يسألونها عن مكاني. كانوا بانتظاري عند منزلي. في الحقيقة لقد أنقذتني هذه الفتاة من ورطة كبيرة. فلو لم تكن موجودة  لكانوا اقتحموا المنزل وعاثوا فيه فسادا. وربما أذوني وطردوني فورا دون أن يدري صاحب المنزل الذي اتصل بي معربا عن صدمته. وأكد أنه لا علم له بقرار طردي من المدرسة وأنه يمكنني البقاء في المنزل إن أردت. غادرت إلى دمشق في نفس اليوم مع سائق كان من معارف أهل خطيبتي. سألني قبل أن ننطلق برحلة ال 180كيلومتر عبر السهوب « شو جابك لهون؟ »
بعد عامين, قال لي معلم أمريكي عاش في سوريا لمدة واحد وعشرين عاما وله صلاته: « دعني أتقصى أكثر عما حدث وعمن هم آل فيصل ». ثم عاد بعد يومين ليقول لي:  « لا تتابع الموضوع. إنهم على صلة بالدائرة الضيقة للسلطة ويقومون بغسيل الأموال. أنت مغترب وما حدث أنقذ حياتك. إن كنت مواطنا كان وارد أن تكون الآن في عداد الأموات أو معاقا ». أما السفارة الفرنسية فنصحتني بألا أقدم شكوى بما حدث لي، لأني إن فعلت فسوف يرشون سائقي الحافلات ليشهدوا زورا بأنني اعتديت على تلك المرأة ». أحد المحامين من سكان حمص وخريج إحدى جامعات فرنسا قال لي: « لا يسعك فعل شيء. إنهم يتمتعون بسلطة كبيرة ولم يمنحوك إذن عمل ». « المساعدة » الوحيدة التي حصلت عليها هي استجواب من ضابط مخابرات في منزل أهل خطيبتي لمعرفة سبب مغادرتي حمص فجأة. كان عدد الأوروبيين المقيمين في حمص آنذاك لا يتجاوز الستة أشخاص.
رعاية تامة لكل تلميذ
ربما كانت مدرسة الحكمة التي عملت بها هي الاستثناء. ربما كانت فاسدة وسط جمع صالح. لم أكن أنوي العودة للعمل بها بعد نهاية السنة الدراسية. فخضعت لمقابلة عمل في نيسان 2008 في مدرسة الشويفات اللبنانية التي تدرس منهجا عالميا. تتبع تلك المدرسة منظمة تدعى سابيس تقوم بطبع الكتب الدراسية بنفسها. أردت البقاء في سوريا رغم التجربة المريرة، فالحصول على وظيفة في سلك التدريس كان سهلا، كما أنني اعتقدت بأن مدرسة متعددة الجنسيات لها أفرع منتشرة في مصر والإمارات والسعودية وعمان والأردن وحتى كردستان العراق (نعم هناك واحدة في اربيل) لا يعقل أن تكون بهذا السوء. عقب خضوعي لفحص الاستيعاب والنحو من مدير المدرسة نيل سموكر الأسترالي الأصل تم اصطحابي في جولة حول المدرسة. بدت الأمور جدية. ألقيت درسا تجريبيا في علم الاجتماع وقد بدا لي ناجحا. مباني المدرسة الرحبة والفاخرة تقع في منطقة صحنايا والواقعة خلف منطقتي الحجر الأسود ونهر عيشة الساخنتين ثوريا حيث الفقر المدقع وحيث ذبح النظام الحاكم المئات من سكانهما.
الأراضي المخصصة لمدرسة الشويفات كانت واسعة وممتدة بضواحي منطقة صحنايا في جنوب دمشق. تضم مبان عدة، واستاد كرة قدم وملعب كرة سلة، وتضم حتى مكتبة (علما بأن المكتبات ليست ذات أولوية في مدارس سوريا الخاصة). يبدو إنجازا حضاريا رائعا، ولا يهم أن يكون مالكها هو رامي مخلوف, ابن عم بشار الأسد وممول « العائلة »، فهو يملك كل شيء في سوريا على اية حال. تتردد في البلد نكتة تتحدث عن مقابلة الأسد لمبارك في عام 2006 حيث قال مبارك أنه بدأ بالخصخصة. فيرد بشار أن في سوريا  نفس المشروع وإنما يختلف قليلا، فهو هنا يسمى « الرمرمة » (نسبة إلى رامي مخلوف). نكتة أخرى تقول أن رامي مخلوف يملك منطقة واحدة فقط في سوريا وهي تلك الممتدة من دمشق إلى اللاذقية. علما بأن هذا غير صحيح، فهو يمتلك أيضا شركات النفط في منطقة الجزيرة،  والسوق الحرة (راماك) في المطار وعلى الحدود البرية مع الأردن ولبنان. كما أن حافلات راماك تستخدم لنقل الطلاب من وإلى مدرسة الشويفات. ومن يدري؟ فقد تكون قد استخدمت مؤخرا لنقل الشبيحة إلى المدن المحاصرة مثل حمص وحماة ودير الزور.
بادرتني مادلين بابيلي الفتاة السورية الخجولة ذات ال26 ربيعا والتي قضتها معظمها في أوكسفورد قائلة: « أنت معلم الاجتماعيات الجديد إذا. إنهم بحاجة ماسة إليك ». لم أمكث طويلا في مدرسة الشويفات، فقد وجدت أن خطب المدير الاسترالي السيد سموكر أصبحت مكررة ومملة. وتبين لي أنه لم يكن سوى رجل مخابرات آنجلوساكسوني مهمته الحرص على بقاء قنوات الاتصال مفتوحة عموديا (إلى الإدارة العليا) وليس أفقيا (بين زملاء العمل). أحد الزملاء وهو مدرس لبناني لمادة الكيمياء أخبرني بأنه لو تجرأ أحد المدرسين على التعليق على الاعتداء الجسدي الذي يمارسه المراهقون أبناء النخبة على زملائهم لكان مصيره أن يعلقه أولئك من قدميه.
لا أحد من الطلاب يتخلف عن ركب زملائه في مملكة التعليم بالحفظ عن ظهر قلب. إن رسب أحدهم بامتحان .. يعوضه بآخر. إن تطاول طالب على سائق الحافلة لمغادرته قبل خروجه من الصف سينتهي به الأمر في مكتب سموكر ليتلقى محاضرة سريعة (على نمط الوجبات السريعة) في العلاقات العامة. أن كانت لدى أحد المدرسين ملاحظات على سوء سلوك أحد الطلبة تجاهه ما عليه سوى رفع تقرير بذلك للمسؤولين عن تطبيق النظام مع توصية بعقاب الطالب، وربما يحالفه الحظ ويعاقب الطالب المسيء بعد ستة أشهر من كيل الإساءات للمدرس.  كما يمنع على المدرسين العرب منعا باتا الحديث مع بعضهم البعض في غرفة المدرسين بقصد الشكوى والتذمر. أما أنا فقد عقدت العزم على مغادرة « مملكة الانسجام الأكاديمي الأبدي » هذه بعد ثلاثة أشهر من التدريس المرهق والمثير للأعصاب.
الأخوات الثلاث
بعد سنة، وفي عام 2009، دعونا نصعد للأعلى، لقرى الأسد في شمال دمشق حيث يقيم علية ضباط المخابرات والجيش والوزراء وحيث تقع مدرسة أبناء الرئيس. فلننسى هديل الحسين ومدرستها « منتيسوري » ومبانيها الفاخرة وأساليبها التعليمية المتطورة. ولننسى دعاياتها وتسريحة شعرها وتعابيرها عن « وردة الصحراء » « إيما » الأسد, ملكة سوريا المتوجة والمحتفى بها في مجلة فوغ ومجلات الخطوط التشيكية. لنذهب مباشرة إلى المدرسة التي تحمل رسالة: مدرسة البشائر، تديرها ثلاث أخوات من عائلات دمشقية عريقة من بينها عائلة قصاب حسن وعائلة سكر. ولكن من هو الآمر الناهي في هذه المدرسة؟؟؟
تعلمت سريعا من خلال تدريسي لمادة اللغة لفرنسية كيف أنظر لما خلف الواجهة المزيفة. وتعلمت أن لا شيء يمكن وصفه بالطبيعي عندما يتعلق الأمر بإدارة صفوف الأخوة الثلاث من عائلة شوكت الذين رغم سنواتهم الثلاث عشر فهم يتساوون من حيث المستوى التعليمي بتلاميذ الصف الثاني. تعلمت سريعا أن علامة الامتحان تكتب لهم بقلم الرصاص لأنها قابلة « للتعديل التشجيعي »،  تعلمت سريعا أنني يجب أن أعطيهم كل ما يحتاجونه من الوقت في الامتحانات.. وأن التصحيح وإعطاء العلامة النهائية لا بد أن يتم خلال خمس دقائق من نهاية الامتحان. تعلمت سريعا أنه من الطبيعي أن يلقي أولئك التلاميذ بدفتر المعلم في حاوية القمامة وأن يتغيبوا عن الحصة أو يدخلوا قاعة الدرس بعد 20 دقيقة من بداية الحصة (علما أن الزمن المخصص للحصة 40 دقيقة). تعلمت أيضا أن التحدث مع زملائي فيما يخص أدائهم الأكاديمي ممنوع.
كنت شاهدا على فصل معلمة أمريكية من العمل. كانت تخشى من تعرض حراس شوكت الشخصيين لها بأذى على أثر استدعائهم من قبل ابنه. وقد اعتذر الابن فيما بعد عندما علم أهله أن زوج المدرسة كانت له علاقة عمل بعبد الحليم خدام ثم بماهر الأسد المعروف بأنه كان يسوي خلافاته العائلية مع آصف شوكت (زوج شقيقته) بأن يستل مسدسه ويفرغه في بطن الأخير. إثر تلك الحادثة تم إرسال آصف شوكت إلى باريس للعلاج حينها. وقد تكررت اعتداءت ماهر عليه بدلالة زيارات زوجته بشرى المتكررة إلى فرنسا لمرافقته في رحلات العلاج.
أدركت أيضا أن هذه المدارس جزء من النظام المتبع. فهم يتبعون متلازمة شام سيتي سنتر. افتح مدرسة، افتح مركز لغة (أقل ربحا إذ لا يمكنك تسعير دروس ب6000 دولار بالسنة لأنها فوق طاقة المواطن العادي)، افتح مركز تسوق. جميعها تؤول إلى النهاية ذاتها. أرباح تصب في جيوب أبناء الأسد ومخلوف. إن تجرأت على التكلم ضد المؤسسات التي تعمل بها في المقاهي الراقية في الروضة وأبو رمانة كان مصيرك الفصل والتهديد.
الصورة العامة
تلك مجرد حكايات.. ولكنها أيضا جزء من صورة أعم وأشمل. إنها تفاصيل لتجربتي الشخصية في سوريا الأسد الجديدة. واجهة مزيفة لما يبدو أنه تطور طبيعي.. بينما هو في الواقع محاولة مشوهة لجعل سوريا نسخة عن لبنان ما بعد 2005. مختبر لإعادة إنتاج « النخب » السورية (تسمية خاطئة، ولكني أستخدمها لعدم توفر البديل). السنوات السبع التي سبقت ثورة الشعب كانت زاخرة بالفساد المستشري، وبمحاولات النظام استقطاب العائلات الثرية وإبراز أفرادها وهم يبتسمون ويزدادون  ثراء يوما بعد يوم، فقط من أجل إضفاء هالة من الاحترام ومحاولة محاكاة الغرب لدولة اتخذت من أسطورة الوحدة والحرية والاشتراكية شارة ترحيب مقيتة إلى « سوريا الأسد » لزوارها من الدول المجاورة. خلال تلك السنوات أضحت دولة « الأسد » (عذرا، أقصد « الوحش » وهو الاسم الأصلي للعائلة) ذات الحزب الواحد مجرد ملكية خاصة للعائلة..  وتحول شعبها الشجاع من قاطني الريف وأحياء دمشق وحلب الفقيرة إلى قطيع من الماشية.
اشتر عطرك من راماك. أرسل أولادك إلى مدارس خاصة. أرسل ابنك البكر إلى جامعة القلمون أو الجامعة الدولية أو جامعة الوادي أو أي جامعة أخرى خاصة. أجر اتصالاتك مع سيرياتل أو ام تي ان. تغدى في جيميني أو سهارى مع أصدقائك. اشتر ملابسك من ايشتي في فندق الفور سيزونز. استقبل صديقك في المطار مع تاكسي جوليا دمنة (وليس هناك بديل عنه) وادفع 40 دولار في مشوار لا يتجاوز 18 كيلومتر.  ومن ثم انظر كم من الأموال جنى منك آل الأسد وآل مخلوف وآل دعبول وآل حمشو وآل خولي. واستغفر ربك وحذار أن تتذمر عندما تدرك كم نهبت منك تلك « العصابات المسلحة » (أقصد العائلات الخمس).