من الحبّ ما استتر! – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 29 avril 2013

خلال حواره الأخير مع قناة ‘الإخبارية’ التابعة لنظامه، قال بشار الأسد، في اشتراط ما يسمّيه ‘الحوار الوطني’: ‘يمكن أن نتحاور مع أي جهة. نحاور من يغار على سورية. ومن لم يتعامل مع إسرائيل سرّاً أو علناً. وكل من لم يغازل إسرائيل’. وللمرء أن يدع جانباً حكاية ‘الغيرة’ على سورية، لأنّ قاذفات الأسد وصواريخ الـ’سكود’ والبراميل المتفجرة والمدفعية الثقيلة وغاز السارين، تفصّل تلك الطبعة الأسدية من غيرة وحشية تواصل تدمير البشر والحجر في سورية؛ وحرب بقاء، يائسة مذعورة، تمزّق عُرى السوريين الوطنية؛ وتلقي بمئات الآلاف منهم إلى العراء والتيه والنزوح، إذا أخطأهم الموت أو التشوّه أو الإعاقة…
وللمرء، بعد هذا، أن يذهب إلى شرط التعامل مع إسرائيل، أو مغازلتها، فيبادر ـ على الفور، دون إبطاء، ودون تردد ـ إلى إقصاء اسم أوّل سبق له أن صافح إسرائيل علناً، لا سرّاً، على رؤوس الأشهاد، وأمام عدسات التلفزة. حامل هذا الاسم هو بشار الأسد، ليس سواه، مصافح الرئيس الإسرائيلي السابق موشيه كتساف، في روما، خلال جنازة البابا يوحنا بولس الثاني، ربيع 2005. وقد يقول قائل، على غرار ما فعل يومذاك ‘مصدر رسمي’ في تصريح لوكالة أنباء النظام، سانا: الحادثة ‘جاءت في اطار حالة عرضية وليس لها اي مغزى سياسي’، و’المراسم والشعائر المتبعة اقتضت ان يصافح المشاركون بعضهم بعضاً مصافحة شكلية’. ولكن، إذا لم تُصنّف المصافحة في باب التعامل والغزل، حتى في مستوياته ‘الشكلية’؛ فهل تُعدّ سلوكاً مناوئاً لإسرائيل، ‘ممانعاً’، ‘مقاوِماً’، رافضاً لأيّ ‘تعامل’ معها؟
طريف، مع ذلك، أنّ أحد شبيحة النظام، وكان آنذاك يشغل موقع ‘رئيس مركز المعطيات والدراسات الإستراتيجية’، علّق على خبر المصافحة، حين أذاعته وسائل إعلام إسرائيلية، هكذا: ‘إسرائيل تسعى لترويج أكاذيب توحي بازدواجية الموقف السوري’. أطرف من هذا أنّ النظام اضطُرّ بعدئذ إلى الإقرار بالواقعة، بعد أن بُثّت لقطاتها على شاشات التلفزة، فابتلع الشبيح لسانه، دون أن يفلح في حفظ ماء الوجه. والأطرف، طرّاً، كانت روية كتساف نفسه للواقعة: ‘قلت صباح الخير للرئيس السوري ومددت يدي لمصافحته وهو ردّ عليّ السلام ومدّ يده لمصافحتي’؛ ثمّ، بعد انتهاء المراسم، ‘تبادل الجميع المصافحة وهذه المرّة الرئيس السوري هو الذي مدّ يده وأنا سررت جداً بهذه المبادرة’.
وفي أواسط العام 2003، كانت صحيفة ‘معاريف’ الإسرائيلية قد أماطت اللثام عن اجتماع سرّي بين ماهر الأسد، شقيق بشار والقائد الفعلي للفرقة الرابعة؛ وإيتان بن تسور، المدير العام السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية، شهدته العاصمة الأردنية عمّان. ولأنّ الأوّل لم يكن يتولى أي منصب رسمي سياسي، وإنْ كان يشاطر شقيقه قسطاً لا بأس به من مقاليد السلطة والحكم؛ فقد ارتأى أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك، إيفاد بن تسور. كانت الرسالة مزدوجة، تقول إنّ إسرائيل لم تعد تهوى مفاوضات الأروقة السرية؛ وتقول، في وجه ثانٍ، إنّ شارون يأبى التعاطي مع ‘ختيار’ عتيّ رفيع التجارب عالي المراس مثل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، فما الذي يجبره على التعامل مع هواة من أمثال ماهر الأسد؟ فهل يجوز للأخير أن يشارك في ‘الحوار الوطني’، بافتراض أنه تنازل واستهوى هذه المسرحية الركيكة، أصلاً؟
حكاية ثالثة بطلها رجل الأعمال الأمريكي السوري الأصل إبراهيم سليمان، الذي زار القدس المحتلة سنة 2007، وألقى كلمة امام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي، شرح فيها تفاصيل مفاوضات غير رسمية أجراها مع ألون ليئيل المدير العام السابق لوزارة الدفاع الإسرائيلية، بمساعدة الوسيط السويسري نيكول لانج. ولقد تردّد أنّ أنشطة سليمان جرت بعلم الأسد، وشارون (ثمّ إيهود أولمرت، لاحقاً)، وانبثقت عنها وثيقة تقترح صيغة للسلام بين سورية وإسرائيل. وكالة سانا نقلت عن مصدر مسؤول تصريحاً يؤكد أن ‘ما يدلى به [سليمان] من تصريحات وما يعبّر عنه من آراء لا يعكس وجهة نظر سورية’، ولكن المصدر لم ينفِ أنّ الرجل زار البلد مؤخراً، و’من الطبيعي أن يقوم أو سواه من المغتربين من أصل سوري بزيارة وطنه الأم’!
وبالطبع، لم يجزم أحد أنّ سليمان ـ المقرّب من الأسد ووزير خارجيته وليد المعــــلم، كما أجمعت تقارير صحفية عديدة ـ كان ممثّلاً شخصياً أو رسمياً، إذْ أنّ في هذا الزعم (الأخرق) ما يشبه النسف المسبق لأيّ طراز من المهامّ غير الرسمية التي يمكن للرجل القيام بها هنا بالضبط: محادثات فى الظلام، أو عبر أقنية غير رسمية! غير أنّ ‘الحيثيات’، لكي لا نقول البراهين، التي اقترنت بخطاب الرجل لم تكن تُسقط عنه احتمالات الكذب وادعاء الدور وتمثيل الذات وحدها فحسب، بل تسبغ عليه مصداقية عالية مدهشة.
هذه ثلاث حكايات عن حبّ سرّي عتــــيق بين النظــــام وإسرائيل، بدأ منذ مفاوضات مبـــكرة أدارها أمثال حكمت الشهابي وفاروق الشرع ومحمد عزيز شكري ورياض الداودي، في واشنطن وشبردزتاون وكامب دافيد وعمّان واسطنبول؛ وتعاقبت فصوله، وما تزال، في أمكنة أخرى كثيرة. من الحبّ ما قتل، بالطبع، ومنه ما استتر؛ ومنه ما حرم من ملذات ‘الحوار الوطني’، أيضاً!

http://www.alquds.co.uk/?p=38597