من الداعشية الناعمة إلى الداعشية المتوحشة – خالد الحروب

Article  •  Publié sur Souria Houria le 16 mars 2015

عوضا من أن نقرأ الداعشية من منظور الإسلام وندينها بكونها خروجا عن النص الأصلي وهي قراءة تسيدت نقدنا لـ »داعش » فإن ما صار مطلوبا هو العودة إلى النص الأصلي نفسه والتأمل في التأويلات والتفسيرات التي سادت (وتلك التي أقصيت وهُمشت) وآلت بنا نحو الداعشية.
تقودنا قراءة جريئة وغير مترددة كهذه لنتيجة أولية صادمة وهي أن الداعشية نتاج طبيعي لسيادة تفسيرات جامدة ومتعصبة للنص الديني، ظلت تنتشر أفقيا في الفضاء العربي والإسلامي طيلة قرون لكنها استعرت وتصاعدت سيطرتها خلال نصف القرن الأخير على اقل تقدير.
وقد نجحت هذه التفسيرات الموغلة في سلفيتها ونصيتها وفي اغتيالها للتنوع والتعدد في الادعاء بامتلاك الحقيقة الدينية.
اختفى من المشهد الديني في المنطقة العربية التدين الشعبي البسيط والتدين الصوفي الودود والمساحات الرمادية العريضة التي كانت تمور فيها الحياة الاجتماعية والثقافية واليومية، وأجهزت سلفية التفسير الأحادي للنص على العفويات المبدعة والعبقرية في المجتمعات والتي كانت تشتغل على تخليق صيغها ومعادلاتها الخاصة في مصالحة الدين مع الحياة، من دون تقعرات تنظيرية أو تشدق أيديولوجي، ديني أو حداثوي.
في تلك المساحات الرمادية ومن خلال تلك العفويات التصالحية سيطر التعايش التلقائي بين شرائح المجتمع أيا كانت درجة تدينها، وكانت الطائفية منطوية على نفسها في خلفية المشهد، وهو ذاته الذي لم يتصدره متدينون جدد مدججون بأفكار وآراء الإقصاء والتكفير والتفسيق وشق أخاديد عميقة وواسعة بين فئات المجتمع الواحد.
أُختصر ذلك كله إلى « تفسير واحد » للدين اتسم بالسلفية والتشدد، وادعى لنفسه الكمال و »الحق » واعتبر التفسيرات الأخرى، العقلانية والصوفية والتسامحية والتعايشية وحتى المذهبية الأخرى باطلة ومرفوضة، ولا تتصف بـ »الصلابة السلفية المطلوبة ».
يمكن وبسهولة ملاحظة الانحدار نحو الأصولية المتشددة والسلفيات المُزايدة على بعضها البعض في التطرف من خلال المقارنة بحاضر اليوم مع الماضي القريب قبل عدة عقود فقط.
هذا المشهد الذي آل نحو تشدد تفسيري صارم هو مشهد « الداعشية الناعمة » التي عششت في أوساطنا ولم نأبه لوقف زحفها الكبير، كانت تلك الداعشية تهيئ البيئة لتحولها القاتل والمتوحش والذي سوف يأتي لاحقا.
الأسوأ من ذلك أن « الداعشية الناعمة » تعمقت وتجذرت مع تعمق آليات « تديين السياسة » و »تسييس الدين » في المنطقة العربية والتي اشتغلت على مسارين متنافسين ومتصارعين: أولهما تقوده الأنظمة المنشغلة بتوظيف الدين لدعم الشرعيات السياسية، وثانيهما تقوده الحركات الإسلاموية التي عمقت من خلط الدين بالسياسة وإنتاج وضع اجتماعي وسياسي مأزوم ومتأهب للانفجار.
وفي خضم التنافس بين هذه المسارين تصاعدت المزايدة في استخدام الدين لتعزيز الشرعيات السياسية، ونتج عن ذلك المزيد من الشرعنة لخطاب التطرف والإقصاء وانتهينا عمليا إلى سيطرة خطاب الداعشية الناعمة بتنويعاته المختلفة وامتداداته في كل الاتجاهات.
اخطر تلك الامتدادات الداعشية الناعمة تمثلت في مناهج التربية الدينية التي ينكشف كثير منها هذه الأيام حتى في اكثر معاقل المؤسسات الدينية اعتدالا، الأزهر، لنجد تكفير الآخر والتسويغ لقتله ونفيه، واعتبار المختلف (سواء أكان مذهبيا داخل الإسلام نفسه، أو دينيا مع من هم خارج الإسلام) منقوص الحقوق وهدفا جاهزا للقتل والإبادة.
وشيئا فشيئا تسللت كل الفتاوى التي صدرت في سياقات وتواريخ محددة واستثنائية في الماضي السحيق وصارت هي من يحدد شكل العلاقة مع الآخر في واقعنا الحالي، أي في سياق وتاريخ مختلف تماماً.
النتيجة النهائية لـ »التدعوش » التدريجي والراسخ في فضائنا وثقافتنا الدينية كان تخليق بيئة مواتية لبروز « الداعشية المتوحشة » التي نراها اليوم وهي تترجم على الأرض أفكار وقناعات الداعشية الناعمة المتنامية بيننا على مدار عقود طويلة.
تتشابه « الداعشية المتوحشة » مع كل الأيديولوجيات الإبادية بشكل مُدهش من خلال التماثل في الادعاء بامتلاك منظور خلاصي ومسيحاني للعالم والكون، يفترض أن قانون الطبيعة في الأيديولوجيات الإبادية مثل النازية والقانون الإلهي في الحالة الداعشية يقر بقيادة (وأستاذية) العالم إليهما.
مثل هذا التوحش الفكري والأيديولوجي يتسم بصرامة وتعصب لا يحتمل أي نقاش ولا جدل ولا مساومة: إما أن تكون، مثلا، مع النازية (وتفوق الجنس الآري) أو تكون ضدها، وإما أن تكون مع الداعشية لأنها تمثل « الحق » الذي لا حق بعده أو تكون مع « الضلال ».
إن لم تكن مع هذه أو تلك، كل في سياقها، فأنت لا تستحق العيش وتعتبر « عائقاً » في وجه تحقيق المشروع الخلاصي والكوني وتستوجب الإزاحة والإبادة، بدم بارد وقناعة يقينية.
إنها الإبادة التي تخدم المشروع وتقود الإنسانية إلى مستقبل افضل (في فهم النازية)، وتقود العالم إلى مستقبل الخلافة وأستاذية العالم (في فهم الداعشية).
هوس الإبادة الذي استبد بهتلر والنازية تجاوز يهود ألمانيا ويهود أوروبا، وشمل كل الدول والمجتمعات التي رفضته وعارضته، فانطلق يحارب في كل الاتجاهات، شمالا وشرقا، وجنوبا وغربا، من الاتحاد السوفياتي إلى بريطانيا.
وهوس الإبادة و »تطهير الصف من المنافقين » الذي يستبد بالداعشية المتوحشة لا يستثني أحداً، إنه الهوس المُرعب الذي يسوق، مثلا، التسويغ الداعشي لعدم خوض أي معركة ضد إسرائيل، بضرورة تطهير الصف الداخلي من المنافقين، قبل خوض أي معركة مع « الأعداء »، وهذا التطهير يشمل عمليا مليارا ونصف المليار من المسلمين الذين لا يؤيدون « داعش » ويلفظونها.
في الداعشية وآلياتها وفهمها وأساليب تطبيقها للفكر المُتوحش، وتماما كما في كل أيديولوجيا إقصائية وإبادية، تنفصل الوسيلة عن الغاية بطريقة مُذهلة، لا يهم استخدام ابشع الوسائل (واكثرها تناقضا مع المبادئ الأولية) من اجل الغاية، وعليه لا تتحرج الداعشية المتوحشة من السطو والسرقة والبلطجة والمتاجرة حتى بالأعضاء البشرية، ولا تتحرج من إدارة شبكات دعارة تحت مسمى « جهاد النكاح » حتى تجذب مقاتلين مهووسين جددا من كل أصقاع الأرض ممن همشتهم مجتمعاتهم وانحط بهم الفشل الفردي. يضيع الهدف وتضيع الغاية أساسا أمام وطأة وسيطرة الوسائل وتسيدها المشهد.
بيد أن الداعشية المتوحشة لها تميزها الخاص عن مشاريع الإبادة والقتل التي سبقتها، أولها التفاخر والإعلان عن عمليات القتل والذبح على خلاف الحالات الأكثر من الإبادة حيث كان إخفاء الجريمة هدفا أساسيا.
في الحالة الداعشية يمثل القتل، وهو رقميا اقل بكثير جداً من حجمه في معظم الحالات الأخرى، استراتيجية ردع وتخويف وبث رعب في صفوف « الأعداء »، لذلك يتم الإعلان عنه بطريقة احتفالية وسينمائية مدهشة في تقنياتها ومقرفة في جوهرها.
يُنجز الذبح والحرق أمام الكاميرا، ويسيل الدم وتتخبط الأجساد بين ايدي الذباحين قبل أن تصبح جثثا هامدة، وتُرى « المقتلة » البشعة من قبل مئات الملايين من الناس.
تريد الداعشية أن « تنتصر بالرعب »، وهذا مدخل آخر يفرض علينا العودة إلى تفسير النص وتطبيقاته راهنا من منظور الداعشية المتوحشة.