من الذي تغير، نحن أم تركيا؟! – عريب الرنتاوي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 17 août 2011

فَرِح « المعتدلون العرب » بالانفتاح التركي المتسارع على المنطقة…وفتحوا لأنقرة الأبواب على مصاريعها بعد حرب تموز/يوليو 2006، وما سبقها وتلاها من تطورات دراماتيكية، بدأت بنجاح حماس و »إخوان مصر » في الانتخابات البرلمانية، ومرت بسيطرة حزب الله على بيروت في أيار/ مايو 2008، وقبلها سيطرة حماس على قطاع غزة في يونيو 2007، وبعدها حرب الرصاص المصهور على قطاع غزة، ومن دون أن تنتهي في الانتخابات العراقية وإحكام أصدقاء إيران وحلفائها سيطرتهم على العراق
« المعتدلون العرب » الذين لم يروا في تركيا غير « المكوّن السني المعتدل »، الذي يمكنه أن يلعب دور « المعادل الموضوعي » لدور إيران ونفوذها المتزايدين في المنطقة…سرعان ما أصيبوا بخيبة أمل كبرى، خصوصاً بعدما رأووه من مواقف تركية صلبة في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية…وتحديدا في واقعتي أسطول الحرية ومنتدى دافوس، ما جعل الطيب رجب أردوغان، يحظى بشعبية لدى الرأي العام العربي، فاقت شعبية معظم الزعماء العرب أنفسهم
والراهن أن الدخول التركي إلى المنطقة، من بوابة « النِد » لإسرائيل، لا « الخصم » لإيران، أثلج صدور « المقاومين » و »الممانعين » العرب، بالقدر الذي خيّب فيه آمال « المعتدلين » من أبناء جلدتهم….فرأينا ازدهاراً في علاقات أنقرة مع هذا المعسكر، وبدأت دمشق – قلب العروبة النابض – تتحدث عن « مجموعة دول البحار الخمس » بوصفها الحلف البديل عن معسكر الاعتدال العربي، في إشارة لتركيا وإيران وسوريا والعراق ولبنان، وبصورة تسقط عن حلف طهران – دمشق – الضاحية الجنوبية، صورته المذهبية التي استغلها خصومه أيما استغلال

لكن الأمر لن يدوم طويلاً على هذا الحال…فمع اندلاع « ربيع العرب »، انحازت تركيا إلى جانب الثورات الشعبية العربية في مصر وتونس، وفي ليبيا (بعد تلكؤ قصير)، وحثت البحرين واليمن على إجراء الاصلاحات…أزعج هذه الموقف المعتدلين العرب قليلاً، قبل أن ينقلب إنزعاجهم من تركيا إلى ترحيب متجدد بدورها عندما هبّت رياح الثورة والتغيير على سوريا، وتحركت معها أشرعة « الثورة العربية المضادة » صوب بلاد الشام هذه المرة، بعد أن كانت ضربت في غير « مطرح » في هذه المنطقة

والحقيقة أن أنقرة واكبت الثورة السورية منذ بواكيرها، بالكلمة والموعظة الحسنة في البداية، ثم بالإنتقاد والإدانة لممارسات النظام الوحشية، وصولاً إلى ممارسة الضغوط والتلويح بالمزيد منها…إلى الحد الذي بات يُخشى فيه أن تصبح تركيا، مدفوعة بجملة من الحسابات والمصالح، رأس حربة التدخل الدولي في الأزمة السورية، وهذا ما تحذر منه على أية حال، أوساط سياسية وفكرية وإعلامية تركية متزايدة…هنا، وعند هذه النقطة بالذات، تبدلت الصورة واختلفت المواقف وتباينت المواقع

« المعتدلون العرب » باتوا فرحين من جديد بالدور التركي، يحدوهم الأمل بأن ضغوط أنقرة على دمشق، يمكنها أن تفضي إلى هدم واحد من أركان « محور الممانعة » أو « محور إيران » و »هلالها الشيعي »…ولهذا ثمة رهان وتعويل وآمال عراض معقودة على دور تركيا في تقويض نظام الأسد، وبدل حلف سوريا – تركيا، نواة البحار الخمسة، الذي أطل برأسه خلال السنوات القليلة الفائتة، ليس من المستبعد أن نشهد ولادة حلف تركيا – السعودية بعد زيارة غول للرياض…أما « المقاومون » العرب، فقد عادوا إلى قاموسهم القديم في الحديث عن تركيا ما قبل العدالة والتنمية، القاموس المثقل بالمخاوف والتحذيرات من « الطورانية التركية » و »الأطلسية » المقعنة بـ »الإسلام المعتدل »…و »الإسلام السياسي المتأمرك »، إلى غير ما هنالك من توصيفات تعكس ضيق هذا المعسكر بالموقف التركي الأخير

ومثلما ظل « المعتدلون العرب » طوال سنوات وعقود، يشكون إيران ونزعتها الفارسية التدخلية المهيمنة في الشؤون الداخلية العربية و »هلالها الشيعي » المتمدد باستمرار…أخذ « المقاومون العرب » يشكون « الطورانية التركية » ونزعتها التدخلية المهيمنة، و »إسلامها المدني المتأمرك » الذي تسعى في نشره على عموم المنطقة، إستكمالاً لدورها التاريخي كجسر للغرب في قلب منطقتنا، وسدّ في وجه رياح الشرق والقومية العربية والشيوعية السوفياتية…وسقطت على ضفاف « العاصي » الضحلة، نظرية البحار الخمسة على اتساعها

هكذا في غضون أشهر وبضع سنوات فقط، تبدلت المواقف والمواقع والخرائط والتحالفات…وتقمّصت أنقرة صورة الملاك والشيطان في الآن ذاته…وعاد الحوار العربي التركي إلى المربع السابق لصعود الثلاثي: أردوغان – غول – أوغلو…حوار مشبع بالشكوك والتحسبات والمخاوف و »انعدام الثقة »

إن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، ونحن نتتبع هذه التبدلات النشطة للمواقف والمواقع، هو: من الذي تغيّر، نحن أم تركيا؟…هل رفعنا سقف التوقعات بعد أسطول الحرية وحادثة دافوس؟…هل انتظرنا الأتراك ليقوموا بأدوارنا نيابة عنّا، وعندما أتضح لنا أنهم ليسوا في هذا الوارد، وأن تركيا كأي دولة، لها منظومة مصالح تدافع عنها، أُصبنا كعادتنا بالصدمة والخيبة والذهول…هل كنا ننتظر « صلاح دين جديد » يظهر من أسطنبول وبلاد الأناضول، وعندما تبين أننا أمام رجل دولة، يخضع لحسابات السياستين الداخلية والخارجية في بلادها، نكصنا على أعقابنا؟…هل توقع « معتدلونا » أن تخوض تركيا حربهم ضد إيران، نيابة عنهم…وهل انتظر « مقاومونا » أن تتواطئ أنقرة معهم في حربهم ضد شعوبهم؟

تركيا دولة إقليمية كبرى، لها مصالح تدافع عنها وتوجّه سياساتها…دولة تتصرف بدرجة عالية من الاستقلالية، مدعومة بديمقراطية واقتصاد ناشئين بقوة…تركيا دولة يتعين علينا أن نتعامل معها كما هي، لا كما نريدها نحن أن تكون…تركيا ليست « جمعية خيرية غير حكومية »، أو « قوة تدخل سريع غبّ الطلب »، حتى تأتي ملبيةً لنداء هذا المعسكر أو تلك المجموعة من المعسكرات والمجاميع المحتربة في العالم العربي…لتركيا نظرة لنفسها ودورها لا تمتلكها أي دولة عربية، هي في صلب نظريتها عن « القوة الناعمة »، وهي التي تحركها للضغط على حليفها الأقرب بشار الأسد، وهي التي تحمل رئيس حكومتها ووزير خارجيتها للسفر إلى مقديشو بلاد الحرب والجوع والإرهاب والقراصنة، صحبة عائلتيهما، وكما لم يفعل أي زعيم أو « نصف زعيم » عربي، وهي النظرة التي رفعت منسوب الاهتمام التركي بالمسألة الفلسطينية، ووضعت أنقرة على سكة صدام مع إسرائيل، وخلاف مع واشنطن، لكن كثيرين منّا، لا يريدون أن يروا ذلك بموضوعية…تركيا بالنسبة لهم ستظل « مُتّهمة »حتى تجرّد جيوشها لتحرير فلسطين والجولان ومزارع شبعا، أو لتأديب إيران وحلفائها، وما لم تفعل ذلك، وحتى تفعل ذلك، قبلنا وبالنيابة عنا، فإنها ستظل « ألعوبة » بين يدي الجنرالات: جنرالاتها وجنرالات « النيتو » ؟

مركز القدس للدراسات السياسية – 14 – 08 – 2011

http://alqudscenter.org/arabic/pages.php?local_details=2&id1=4506&local_type=129&hid=1