من حلب إلى باماكو: عقيدة أوباما والحرب العالمية الرابعة – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 25 janvier 2013

من الخير انتظار مداولات الكونغرس الأمريكي، حول تثبيت رجالات إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في ولايته الثانية (جون كيري في الخارجية، وشاك هاغل في الدفاع، وجون برينان في وكالة الاستخبارات المركزية، على نحو خاصّ)؛ قبل تلمّس ملامح الحقبة القادمة، في ميادين السياسات الخارجية والدفاعية والأمنية. نعرف، مع ذلك، ودونما حاجة لانتظار تلك المداولات، أنّ ما يُسمّى ‘عقيدة أوباما’ بصدد هذه السياسات الثلاث، استقرّت في تفكير أوباما، وفي سلوك نساء ورجال إدارته، منذ مطالع الولاية الأولى.
وقبل سنة من الآن، في مؤتمر صحافي مع وزير دفاعه ليون بانيتا، بادر أوباما إلى تبيان المزيد من عناصر تلك ‘العقيدة’، وذلك حين خطا خطوة كبرى حاسمة (يعتبرها الكثيرون مجازفة، ويرى عتاة الجمهوريين أنها تهوّر غير محسوب) باتجاه إسقاط استراتيجية البنتاغون الكلاسيكية، التي ظلت مركزية وسارية المفعول منذ اعتمادها في عقود الحرب الباردة: أن يكون الجيش الأمريكي مستعداً لخوض حربَيْن إقليميتين في آن معاً. سياسة التقشف فعلت فعلها، غنيّ عن القول، وكانت التخفيضات في ميزانية وزارة الدفاع تنحني أمام مقتضيات الاقتصاد، قبل السياسة والدفاع والأمن والعقائد والستراتيجيات، خاصة وأنّ ولايتَيْ جورج بوش الابن شهدت تضخماً غير مسبوق في أرقام تلك الميزانية.
عنصر آخر أوضحه أوباما، آنذاك، وتمثّل في هذه الثنائية التي تكاد تختصر ‘العقيدة’ بأسرها، وتُراجع مفهوم ‘الحملة على الإرهاب’ كما استقرّ خلال العقد الأخير، وبعد هزّة 11/9 بصفة خاصة. أوّلاً: ‘بقدر ما نتطلع إلى ما بعد العراق وأفغانستان ـ وإنهاء بناء الأمم المترافق مع ترك آثار أقدام عسكرية هائلة ـ فإننا سنكون قادرين على ضمان أمننا عن طريق قوّات تقليدية برّية أقلّ’؛ وثانياً: ‘سوف نواصل الاستثمار في الإمكانات التي سنحتاجها في المستقبل، بما في ذلك الاستخبارات، والرصد والاستطلاع، ومناهضة الإرهاب، ومجابهة أسلحة الدمار الشامل’. والناظم، خلف هذين العنصرين، هو ‘إيضاح مصالحنا الستراتيجية في عالم متسارع التغيّر، وهداية أولوياتنا الدفاعية والإنفاقية في العقد القادم’.
لافت أنّ اختبارات هذه العقيدة ـ بمعزل عن المشاركة الأمريكية في عمليات الحلف الأطلسي ضدّ ليبيا، أو عمليات الاغتيال بطائرات من غير طيار في اليمن وسواها ـ تكاد أن تقتصر، حتى الساعة، على أفريقيا: ساحل الصومال، وأوغندا (حيث أرسل أوباما 100 ‘مستشار’ عسكري لمساعدة الحكومة في صدّ هجمات المتمردين). لافت، على نقيض هذا، أنّ إدارة أوباما ما تزال تجرجر الأقدام في المساندة المباشرة للعمليات العسكرية الفرنسية في مالي، والتي يتوجب ـ وفق منطق عقيدة أوباما ذاتها ـ أن تندرج في صيغة ‘الحملة على الإرهاب’. وطيلة قرابة سنة، أعقبت الانقلاب العسكري الذي شهدته مالي، وقام به النقيب أمادو سانوغو (خريج برنامج التدريب العسكري الأمريكي!)؛ وخلال سنوات، قبلها، شهدت انتشار وتغلغل ‘تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي’ على امتداد مناطق مالي الشمالية؛ لم ترتفع في الإدارة أي أصوات عالية، من طراز ينتظره المرء في سياقات كهذه، لإنقاذ البلد من أخطار التشدد والإرهاب والانقسام.
وقبل أن يضع ‘جبهة النصرة’ السورية على لائحة المنظمات الإرهابية (وهي، بالطبع، أقل عدداً وأضعف تسليحاً وأقصر عمراً من ‘القاعدة’ في مالي أو مناطق الساحل عموماً)، كان أوباما قد وضع قرابة 675 مليون آدمي مسلم، في الغالبية الساحقة؛ فضلاً عن بضعة ملايين من المسيحيين، المواطنين في دول عربية أو مسلمة أو مسيحية تضمّ رعايا مسلمين، على لائحة ‘الإرهاب الدولي’. وإلى جانب كوبا وإيران وسورية وليبيا المصنّفة أصلاً في عداد ‘الدول الراعية للإرهاب’، أضافت إدارة أوباما تصنيفاً جديداً هو ‘الدول الميّالة إلى الإرهاب’، فانضمت إلى اللائحة دول السودان والجزائر والعراق ولبنان والمملكة العربية السعودية واليمن والصومال، فضلاً عن أفغانستان والباكستان ونيجيريا!
وفي حصيلته المتنوعة، الديموغرافية والجيو ـ سياسية والتاريخية، لا يحيل هذا الانتقاء إلى شذرات من فلسفة المحافظين الجدد حول أنساق الوقاية من ‘الإرهاب’ عن طريق سدّ منابعه أو تجفيفها نهائياً، فحسب؛ بل هو إعادة إنتاج، مقنّعة في قليل أو كثير، لعقيدة جيمس وولزي، المدير الأسبق لوكالة المخابرات المركزية، حول ‘الحرب العالمية الرابعة المفتوحة’. وخلال حقبة غزو العراق واحتلاله، كان وولزي قد عرض عقيدته في اجتماع شهير (كشفت النقاب عنه دورية Executive Intelligence Review آنذاك)، حضره اثنان من عتاة ‘مجلس سياسات الدفاع’، هما بول ولفوفيتز وإليوت كوهين، وملخّصها ببساطة هو التالي: الحرب الباردة كانت الحرب العالمية الثالثة، وأمّا حرب الولايات المتحدة ضدّ الإرهاب، فإنها الحرب العالمية الرابعة. هي طويلة الأمد، وقد تستغرق مائة عام، وتنبسط على مستويات إقليمية وقارّية؛ كما أنّ أشكال القتال فيها لا تقتصر على العمل العسكري، بل تنطوي على مختلف أنماط التدخّل، بما في ذلك الإنقلابات العسكرية والاغتيالات الفردية؛ وأمّا العدو فيها، فهو واحد وحيد: ‘الإسلام السياسي’.
من جانبه كان ريشارد بيرل، أحد كبار مهندسي غزو العراق، قد أعلن أنّ تلك الحرب المفتوحة لن تقتصر على العراق، ولن تتوقف هناك؛ مستبعداً أيّ دور لمجلس الأمن الدولي فيها، لأنّ هذه الهيئة ‘خُلقت لإدارة نزاعات كلاسيكية، مثل دخول أفواج من دبابات البانزر الألمانية إلى الأراضي الفرنسية؛ وهي مؤسسة عاجزة عن التعامل مع المشكلات الأصعب لعصرنا، مثل الإرهاب أو انتشار أسلحة الدمار الشامل’. وبالطبع، كان ذلك التبشير بالذات هو الذي يتغنى بقرابة 1000 قاعدة عسكرية أمريكية منتشرة هنا وهناك في نحو 100 بلد على الأقلّ، نصفها لا ‘يجفف منابع الإرهاب’ بقدر ما يمنح أعداء الولايات المتحدة الفرصة تلو الفرصة لتفجير المزيد من تلك المنابع!
ومن جانب ثالث، كان السير مايكل هوارد، المؤرّخ البريطاني الأخصائي بتواريخ الحروب، قد اعتبر أنّ الصراع ضدّ الإرهاب ليس حرباً، وسخر بالتالي ممّن يتشدّقون بالقول إنها ‘حرب عالمية’، وأعاد التشديد على حقيقة مزدوجة، ليست البتة جديدة: أنّ أمريكا ترى نفسها في صفّ الخير ضدّ الشرّ، كالعادة، وأنّ خصمها الفعلي هو الإسلام المتشدد وليس أيّ مفهوم مجرّد لـ’الإرهاب’. وقد تساءل هوارد عمّا إذا كانت تسمية ‘الحرب’ تمنح الفريق الثاني، أي ‘الإرهابيين’ أنفسهم، صفة شرعية تستوجب حصولهم على الحقوق؛ مثل خضوعهم للواجبات، المنصوص عنها في المواثيق الدولية الخاصة بالحروب: من تبادل الأسرى والسماح للصليب الأحمر بتفقدهم، إلى الإدانة الجنائية جراء غتيالهم أياً كانت الوسائل المستخدمة، وأينما وقعت.
كذلك تبدو انتقائية أوباما الراهنة بمثابة ارتداد عن نظرية ‘التفاحات الفاسدة’ التي سبق أن طرحها المؤرخ الأمريكي الشهير بول كنيدي، المعروف ببصيرة ثاقبة في شؤون صعود وانحطاط القوى العظمى، ولاح أنها لقيت بعض القبول لدى فريق الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون. وكان كنيدي قد اعتبر أنّ المكسيك والبرازيل والجزائر ومصر وجنوب أفريقيا وتركيا والهند وباكستان وأندونيسيا هي دول أقرب إلى ‘تفاحات فاسدة’ سوف تُلحق الأذى بصناديق الستراتيجيات الكبرى المرسومة للقرن الراهن. أو هي، في بُعد آخر للمسألة، قطع الدومينو التي قد تودي بكامل شروط اللعبة، كما كان سيقول رجال من أمثال دوايت أيزنهاور أو دين أشيسن أو هنري كيسنجر أو زبغنيو بريجنسكي؛ أو، ثالثاً، هي ‘الدول المحورية’ كما جادل الجغرافي والستراتيجي البريطاني هالفورد ماكيندر في مطلع القرن.
ويسرد بول كنيدي المعايير والخصائص التي تسمح بتحديد الدولة المحورية، فيشير إلى عدد السكان، والموقع الجغرافي الهامّ، والإمكانات الاقتصادية، واحتمال ولادة الأسواق الكبرى، والحجم الفيزيائي، وسواها. هذه جميعها عوامل كلاسيكية تساعد في تعريف الدولة المحورية، ولكن المعيار الأهمّ هوقدرة تلك الدولة على التأثير في الإستقرار الإقليمي والدولي، بحيث يكون انهيارها بمثابة تقويض لعدد كبير من المعادلات السياسية والاقتصادية والأمنية والإثنية والثقافية. وضمن هذا التعريف سارع كنيدي إلى التحذير من خطأين: اعتبار اللائحة مقتصرة على هذه الدول وحدها (إذ قد تتبدّل، أو بالأحرى ينبغي أن تتبدّل، اللائحة)؛ وانقلاب نظرية التفاحات الفاسدة إلى ‘مزمور’ مقدّس شبيه بنظرية الدومينو (لأنّ منظورات هذه الدول المحورية يمكن أن تتقاطع وتتباين كثيراً، في واحد أو أكثر من المعايير المشتركة).
الجزائر، مثلاً (ما دامت قد دخلت إلى لائحة أوباما، وشهدت قبل أيام عملية إرهابية كبرى، انتهت إلى نتائج مأساوية تماماً)، تشغل موقعاً جغرافياً بالغ الحساسية، ومستقبلها السياسي يحظى بأهمية فائقة في حسابات دول أوروبية حليفة مثل فرنسا وإسبانيا، والمسّ باستقرار البلد يهدد أمن حوض المتوسط بأسره، وأمن الأسواق الدولية للنفط والغاز. كذلك فإنّ انهيار النظام سوف يسفر عن تكوين قاعدة لاحتضان التيارات الأصولية العالمية، وتطوير شروط المجابهة بين الأصولية والعلمانية من جهة أولى، وإعادة صياغة العلاقة بين التيارات المعتدلة والراديكالية ضمن الحركة الإسلامية الواحدة من جهة ثانية؛ فضلاً عن امتداد الفيروس إلى الجوار ميمنة وميسرة (مصر، تونس، ليبيا، المغرب)، وفي العمق الأفريقي المسلم.
كذلك فإنّ وصول نظام راديكالي معادٍ للغرب إلى السلطة سوف يعني تهديد حاجة فرنسا وإسبانيا وإيطاليا إلى موارد الجزائر من النفط والغاز، وتهديد الإستثمارات الأوروبية الواسعة، الأمر الذي سيلحق الإضطراب بالأسواق العالمية، ويهدد المصالح الأمريكية. كذلك سوف تضطر الطبقات الوسطى العلمانية إلى الهجرة الكثيفة، وستضطرب من جديد سياسات الهجرة في دول الاتحاد الأوروبي. ولكن السؤال المشروع يُطرح، هنا، لأسباب وقائعية صرفة أولاً: هل التدخل العسكري الفرنسي الراهن في مالي يسهم في توطيد استقرار الجزائر ذاتها، أم يفضي إلى العكس، كما تشير العملية الإرهابية الاخيرة؟
والولايات المتحدة، راعية ‘الحملة على الإرهاب’، ما الذي يتوجب عليها القيام به، بين الجزائر ومالي والساحل بأسره؟
ومن حلب السورية، حيث تتمركز الكتلة الأكبر لمقاتلي ‘جبهة النصرة’؛ إلى باماكو، التي يزحف إليها مقاتلو فصائل جهادية وإرهابية شتى؛ مروراً بمواقع أخرى عديدة، هنا وهناك؛ تواصل إدارة أوباما ممارسة العقاب الجماعي بحقّ 675 مليون مواطن، ينتمون إلى دول ذات أنظمة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية مختلفة، أو غير متطابقة في الحدّ الأدنى الذي يسوّغ حشرها في سلّة أمنية واحدة. وهذه خطوة إلى وراء تلك الفلسفة الشاملة (الكاريكاتورية، كما يتوجب القول) التي اعتمدتها إدارة بوش الابن في النصّ الشهير المعنون ‘ستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية’، والذي نُشر في خريف 2002.
وهي، ثالثاً، بمثابة اعتناق ضمني لتسمية ‘الحرب العالمية الرابعة’ التي قال بها وولزي؛ بعد إعادة إنتاج المفهوم، على نحو أكثر تشدداً!

http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\24qpt995.htm&arc=data\2013\01\01-24\24qpt995.htm