موت الأحياء في نفي الموت – سلام الكواكبي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 7 janvier 2017

Salam Kawakibi


6 كانون الثاني / يناير، 2017 التصنيف  

في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية التي ارتُكبت خلالها فظائع عديدة، تمتد من التدمير المنهجي للمدن، إلى الحصارات التي نجم عنها وقوع مئات الألوف من القتلى، جوعًا ومرضًا، إلى معسكرات الاعتقال النازية التي شهدت محرقة لملايين من اليهود والغجر وغيرهم، بعد هذا كله، احتاج العالم إلى معالجة هذا الماضي المقيت بجميع جوانبه الإنسانية والقانونية وحمولاته الأخلاقية. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف وتجاوز المرحلة، بأخذ الدروس والاتعاظ من التجارب، وألا يتكرر ما حصل، فقد خُطّت آلاف الكتب، ونشرت ملايين الوثائق، وعُقدت عشرات المحاكم المرتبطة بهذه المرحلة السوداء من تاريخ أوروبا الحديث، ومن تاريخ العالم عمومًا. وأحيت الدول الخارجة حديثًا من المقتلة النازية الذاكرة وخلّدتها من خلال عديدٍ من الأعمال التي ملأت شوارع المدن وجدرانها، وكان الهدف منها توعية الأجيال اللاحقة على الخطر الماحق للحرب العبثية، ولحروب التطرف العرقي او الديني.

ولقد انبرت -لاحقًا- بعض الأقلام المنفردة، أو التيارات الحزبية، أو المجموعات المتطرفة، إلى ممارسة النفي والتشكيك في كل ما جرى إيراده من حقائق وقرائن بخصوص المرحلة، وخصوصًا ما يتعلق فيها بالمحرقة اليهودية “الهولوكوست”. ونتيجة العداء المشروع لقيام إسرائيل على أراضي فلسطين، وتشريد سكانها واستيطان مدنها، فقد وقع بعض العرب وبعض المسلمين في فخ نفي قيام المحرقة، وحفّزهم في ذلك استخدام الإسرائيليين للمحرقة ذريعة مستمرة؛ لانتهاك حقوق الفلسطينيين، وقتلهم واحتجازهم وتهجيرهم.

“Négationnisme” تعبير فرنسي استنبطه سنة 1987 المؤرخ “هنري روسو”، أراد من خلاله الإشارة -أساسًا- إلى نفي حصول واقعة تاريخية، مهما كانت موثّقة، موضّحًا أنه غالبًا ما يكون الدافع نابعًا من توجه عنصري، أو من قناعة سياسية عمياء. واستخدامه الأول من هذا المؤرخ ارتبط بواقعة “نفي حقيقة الإبادة الجماعية” التي تعرّض لها اليهود إبان الحرب العالمية الثانية. في المقابل، فقد صار مفهومًا متعارف عليه، في ما يخص مجمل أعمال النفي المتعلقة بالمجازر المرتكبة حول العالم، كنفي مجزرة الأرمن التي قامت بها الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، ونفي وقوع الإبادة الجماعية التي شهدتها رواندا في تسعينيات القرن المنصرم، ونفي وجود معتقلات الموت الجماعي “الكولاغ” في الاتحاد السوفياتي المندثر، أو نفي ما ارتكبه الخمير الحمر في كمبوديا من إبادة جماعية بحق المدنيين. والقواسم المشتركة بين الذين ينفون وقوع المجازر هو استغلالهم للجدل المستمر حول بعض التفاصيل، وتشكيكهم المتكرر ببعض الأدلة، وذلك؛ لوضع مجمل الحقيقة موضع تشكيك.

النافون من فئات متعددة، تشمل مؤرخين وباحثين وسواهم. في المقابل، فقد انفرد المؤرخون بتعبير “Révisionniste” ويعني “الاسترجاعي”. ومن يتبنى هذا “المذهب” من المؤرخين يعمل على استرجاع وقائع تاريخية؛ لنفي وقوعها. إنهم نبراس النافين وزادهم؛ لأنهم يزودونهم بحجج ـ مهما تهاوت في المنطق ـ تبدو -شكليًا- علمية ومسنودة. ويجوز طبعًا للمؤرخ، بل هو واجبه، أن يضع موضع تشكك مستمر بعض معايير الاجتهادات في فهم الوقائع التاريخية. في المقابل، فمن الملفوظ مسلكيًا وعلميًا أن ينفي نفيًا خالصًا من كل شك أو نسبية لوقائع تاريخية موثّقة. و”الاسترجاعيون” يسوقون أكاذيب ويزوّرون وقائع ومعطيات، ويشككون -أيضًا- بصدقية الشهود الذين أثبتوا الواقعة، خصوصًا من كان منهم من الناجين بعد المجازر.

في المقتلة السورية، لم تُتح الفرصة -بعد- للاسترجاعيين التاريخيين، ولكنها متاحة -وبشدة- للنافين من سوريين أو غير سوريين. وعلى الرغم من قيام عديدٍ من المنظمات الدولية الحيادية التي تُعنى بتوثيق الانتهاكات أو جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية، بتأكيد -مرارًا- أن المقتلة السورية هي الأكثر توثيقًا في تاريخ المجازر والصراعات الدولية، إلا أنه توجد فئة، ولأسباب أيديولوجية محضة، تنفي باستمرار وبإصرار ما حصل ويحصل، ومن طبيعة الأنظمة أن نفي المجازر أمرٌ تلقائي من مقترفيها، ولكنه غريبٌ أخلاقيًا من ممن ليسوا معنيين بها مباشرة، أي: من ليسوا من القتلة أو مسيلي الدماء. ولكن هذا الفصيل موجود، ويستند في نفيه إلى وسائل إعلام تتميّز بخضوعها الكاريكاتوري لسلطة المستبد أو لجهات داعمة له. ومما يتميّز به النافون هي القدرة الهائلة على المجادلة ـ وربما الوقت ـ في بديهيات الوقائع. وهم من أتباع نظرية المؤامرة، بحذافيرها المملة وبمدارسها المختلفة؛ ما دامت تساعدهم في عملية النفي.

أن يكون النافون من جنسيات مختلفة، متأثرون بعقائد تجاوزها العقل ودفنها المنطق، فهذا محمولٌ نسبيًا بالاستناد الى مبدأ الابتعاد المكاني والإنساني عن موقع الحدث وتأثير الدعاية الإعلامية، ولكن أن يكونوا من السوريين والسوريات، فيبدو الأمر بحاجة إلى تحليلٍ نفسي أكثر منه أخلاقي، مع وجوب الأخير. فبالتأكيد هؤلاء النافون يأكلون ويشربون وينامون ويحبون ويعزون بموتى الأقارب والجيران، ويدمعون لمشهد درامي في مسلسل تركي، ويربتون على أكتاف فلذات أكبادهم في الصباح، ويُقبّلون وجنات أطفالهم قبل النوم، وما إلى ذلك من أفعال تدلّ على انتمائهم إلى الجنس البشري في حالاته الطبيعية. إذن؛ فهم ليسوا مجرمين؛ حتى يثبت قضائيًا العكس، بل هم بشرٌ يعيشون غالبًا حياةً طبيعية، الأمر يصبح معقّدًا، ومن الصعب تفسيره إلا في إطار عملية تحليل نفسي جماعي، واستعادة معمّقة لمسارات تطور الجماعة الإنساني لمحاولة فهم الدوافع والممارسات المؤدية الى التمسّك بالنفي.

إن نافي المقتلة السورية بمجملها أو بتفاصيلها يريدون أن يقولوا للأحياء، ممن أنقذتهم العناية الإلهية من الموت، شبه باصقين في وجوههم، العبارة التي خطّها عالم النفس الفرنسي بوريس سيرولنيك بدقة: “موتوا، إن معاناتكم تزعجنا”.