نجوى بركات – إلى بشير هلال

Article  •  Publié sur Souria Houria le 11 mars 2015

نجوى بركات – إلى بشير هلال

مضت الأيام التي ينبغي من بعدها أن يهدأ ذاك الحريق الذي يأكل القلب، لكنه لم يهدأ.
كنتُ أنتظر أن تأتي إلى لبنان، فأودعك قريتَك التي لم تغادرك ذكرى شمسها يوماً، وأرتاح. لا بد وأن أرتاح. أن أنزع صورتك البيضاء التي التصقت بعيني، والتي تجعلني، كيفما التفتّ، أغالب هذه الغصة التي تعصر روحي. كلما طال الوقت، ونأت المسافة، جفّ الحزن، كما يجفّ عود من دون ريّ أو نور. لكنني والموت على خصومةٍ لا تنتهي، يا صديقي، منذ مات أبي وأنا بعيدة، ومتّ أنت وأنا بعيدة. بين تاريخيْ غيابكما ثلاثة أيام، لا أكثر، وبين موعد قدومي المرتقب إلى باريس ورحيلك المفاجئ، بضعة أسابيع. أسبق أن أخبرتك أني، عند بداية كل عام، أجلس في السنة، مكتومة الأنفاس، مرعوبة، مترقبة انقضاء شهر شباط اللعين بسلام، لكي أتنفس الصعداء، واثقة أن مكروهاً لن يصيب أحبّتي، إلى حين عودته بعد عام؟ كأني بذلك قد عقدت هدنة مع الموت، أن يبقى محصوراً في مدة يأتيني فيها، لو كانت مشيئته أن يأتي، ثم يتركني في حالي. لكنه، هذا العام، جاءني بفارق ثلاثة أيام، وبالطريقة نفسها جاء.
يتحايل عليّ الموت، يا صديقي، فلا يجعلني أحضره، أو أراه، حتى لا أصدّق غياب أحبتي ولا أقتنع أني لن أراهم بعد الآن. يموتون في غيابي، ويبقون يعودون إليّ، من دون هوادة، أحياء أكثر من يوم كانوا على قيد الحياة، فألوم نفسي كيف صدّقت رحيلهم، أو كيف حتى قد خطر لي. أفكر، وأنا داخل الحلم، أنه كابوس لن يلبث أن ينقطع، فأستفيق منه، على كابوس غيابهم الذي لا ينقطع.
لا أريد أن أذكر منك، عنك، شيئاً. أريد أن أبقيك في ذاكرتي كاملاً، مكتملاً، أنا التي عرفتك أكثر من نصف عمري، حين وصلتُ إلى باريس، من الحرب، غريبة وصغيرة وفقيرة، ولم تبدأ تلك المدينة تهون عليّ إلا بصداقات قليلة، على رأسها صداقتك. نصف عمري الذي أمضيته هناك، كنت أنت فيه، كما كنتَ في حيوات آخرين مثلي، دائم الحضور، والسؤال، لا تسمح لأصدقائك بالغياب، وتتوقد عيناك امتناناً وفرحاً، إذ يسألك أحدهم المساعدة. كأنك، يا صديقي، لم تكن تجد اكتمالاً لمعناك أو لحياتك، إلا باتحادك بالآخرين.
يوماً بعد يوم، وأكثر فأكثر، سوف ندرك جميعاً حجم فقدك، لأنك المحب والمبالي أكثر من طاقة أيٍّ منا على الاحتمال، أنت الذي كنت تحب كما تحب الأمهات، وتقلق وتواسي وتسامح ولا تريد اعترافاً أو مقابلاً. كنت ممن يجلسون على ضفاف الحياة، كي لا يأهلوها كثيراً فيُنقصوا على غيرهم مساحة، أو هواء. يضرمون نيران الصداقة، ثم حين تنطفئ، يمضون بخفر، مستحين من الألم والحزن اللذيْن قد يخلفونهما.
أكثر ما شغلني حين عرفت خبر مرضك، ثم موتك، هو أن أعرف إن كنت قد عرفتَ، أنا التي تعرف جيداً رعبك من المرض، والشيخوخة، والأطباء، والمستشفيات. أصابني مسّ السؤال: أتراه عاشها تلك اللحظة القاسية المخيفة القاتلة؟ ثم قرأت ما كتبتَه على « فيسبوك » ذات يوم من خريف 2012، « لا حاجة بي لشيء. فقط أن تستقر هذه الغيمة إلى جانبي في مقعد واحد. لن نكون مائلَين متعانقَيْن. سنكون فقط في المنطقة الرمادية بين حافتي كارثة. حين تلتف على روحي، سأرجوها أن تبقى الوقت اللازم لموت عادي ». لقد عانقتك الغيمة، يا صديقي، ولن يكون موتك عادياً أبداً، أيها الحالم الأنيق النبيل.
أنظر إلى ابنتي التي تسألني لم تبكين ماما؟ ولا أعرف كيف أخبرها كم أن خسارتنا عظيمة، لأنها لم تعرفك، لأنك لم تمسك بيدها الصغيرة، لتأخذها في نزهة على ضفاف النهر الفرنسي، كما كنتَ قد وعدت.
بشير، يا صديقي الغالي، لا أنساك، ما حييت. –