نوم الغزلان في سورية – الياس خوري

Article  •  Publié sur Souria Houria le 3 avril 2012

 

من الصعب تلخيص كتاب سمر يزبك: ‘تقاطع نيران، من يوميات الانتفاضة السورية’ (دار الآداب، بيروت)، او التعليق عليه، او الكتابة عنه. فهذا كتاب يأخذك في رحلة الى اعماق الألم، يطيح بك، ويرميك اسيرا امام فيض الكلمات التي تشبه عيون الغزلان: ‘لم أعرف كيف حدث ما حدث، وانا اسقط بين الأقدام واحاول الابتعاد، حوصرت ووجدت نفسي فجأة على الأرض، رأيت وجها نائماً، نصف اغماضة للعينين، تقول جدتي ان هذا النوم يُسمى نوم الغزلان، الناس حول الوجه النائم تتدافع. انا اقول نوم لأن الموت نوم’. (ص30).
حين تبدأ شهادة سمر يزبك بنوم الغزلان، فان هذا يعني ان ما ينتظر القارئ هو شهادة مختلفة عن وقائع الانتفاضة السورية، شهادة كاتبة غمست روحها بالألم وراحت تبحث عن الامل وسط الخراب الوحشي الذي صنعه القمع في مواجهة حلم شعب كامل بالحرية والكرامة.
‘ليس صحيحا ان الموت عندما يأتي ستكون له عيناك’، تكتب يزبك في بداية شهادتها، راسمة التوازي بين الحب والموت. كأنها ارادت ان تقول ان دم السوريات والسوريين المسفوك هو شهادة حبهم الأخيرة لوطنهم المستباح بالقمع والترهيب.
يأخذنا الكتاب في رحلته الشاقة الى مدن سورية المختلفة، شهادات تتوالى، وحكاية امرأة قررت ان تتمرد على آلة القمع الايديولوجية الطائفية، معلنة انها تصنع حريتها بالانتماء الى الثورة، وترمي جانبا المنطق الطائفي والذكوري، كي تلتقي بنفسها على تخوم الخوف والشجاعة، وقد امتزجا بشكل سحري.
انها الشهادة السورية الأولى عن وقائع الثورة او الانتفاضة، كما تسميها المؤلفة. الذاتي يمتزج بالعام، والعام يصير تجربة شخصية، والشهادات الحية تتوالى، فنعيش القمع والخوف والتحدي، ويصير القارئ جزءا من وقائع الحدث السوري، كأن سمر يزبك تدعو جميع قرائها العرب وغير العرب كي يصيروا سوريين في هذا التوق البطولي الى الحرية المشتهاة.
كتاب يستولي على قارئه، ويتـــــغلل في العينــــين. تدخل الكلمات الى اعماقنا، لتنقل لنا احتمالاتنا، وتضعنا امام هذه الثورة التي صارت كالأعجوبة. من يصــــدّق ان شعبا اعزل يستطيع ان يتابع مقاومة الوحش المعدني اكثر من اثنــــي عشر شهراً، ويواصل ملحمة صموده وسط المدن المدمرة، وامام هذه الوحشية التي تفوَّق فيها النظام على نفسه، وتجاوز فيها خيال القمع كل خيال.
مشهد شباب قرية البيضا الذين بطحوا ارضا وديسوا بالأقدام يذكّر المؤلفة بفيلم ‘كفرقاسم’، لبرهان علوية. اما السوري الذي يصرخ ‘الزيتون صاحبي’، فهـــــو الصوت الذي ينبـــــثق من اعماق الجرح السوري معانقاً الجرح الفلسطيني. منذ البداية ارتبطت في ذهني مشاهد القمع الوحشي في سورية بالمشهد الفلسطيني. صورة الشعب الذي يتحدى وهو يقف وحيدا امام عالم يتفرج على المأساة تتشابه الى حد التطابق، الاصرار نفسه، والحلم نفسه، وشباب وشابات يخيطون المستقبل بابرة الصمود والتحدي.
جرأة هذه اليوميات التي امتدت خلال الأشهر الأولى من الانتفاضة السورية، ان الكاتبة تكتب من موقعها ككاتبة، ابنة جبلة، المطرودة من بيئتها الاجتماعية-الطائفية تواصل رحلة تمردها. لكنها تجد لهذا التمرد افقه، انه الالتحام بمشروع التغيير والنضال من اجل الحرية. لذا سوف لن تكون وحيدة حتى في تلك اللحظات الوحشية حيث تستدعى الى احد المقرات الأمنية حيث يذيقها ذلك الضابط الكبير الذي لا نعرف اسمه هوانا مضاعفا. بعد تعرّضها للضرب، والاهانة والتهديد، تؤخذ الى دهاليز التعذيب، حيث يفرضون عليها ان تشاهد شباب سورية معلقين كالخرفان الذبيحة، في زنازين التعذيب والموت. اربع مرات تؤخذ الكاتبة الى هذه الأمكنة، حيث تعيش ما تطلق عليه اسم ألم العظام الحارق. اعترف انني وانا اقرأ هذه المقاطع احسست بأن دمي يؤلمني، كأن الدم صار سائلا غريبا يتدفق في عروقي ويحرقها. وانني قررت في العديد من المرات ان اتوقف عن القراءة.
امرأة كانت تتنفس الموت مع الموتى، وتعيش العذاب مع الذين يتعرضون للتعذيب، تخاف على ابنتها، ولكنها لا تنسى انها ايضا كائن من ورق: ‘هذا صباح غريب، افيق وانا اتلّمس جلدي، كلي اعتقاد انني شخصية في رواية، اشرب قهوة، وافكّر اني افكر بامرأة سأكتب عنها، انا رواية’ (ص97).
هوس تسجيل شهادة عن الواقع تسيطر على الكتاب، فتروي وقائع جمعتها بنفسها، ووقائع اخرى استقتها من شهادات شهود عيان، والهدف هو ان تروي لنفسها اولا وللقارئ ثانيا حقائق ما جرى ويجري.
لا ادري لماذ لم تذكر سمر يزبك في كتابها اسم ذلك الجندي الذي انتحر في جسر الشغور كي لا يساهم في قتل ابناء شعبه. هذه الحكاية تستحق ان نعرف تفاصيلها ونحفرها في الذاكرة الجمعية. صحيح ان شرارة الثورة انطلــــقت من اطفال درعا الأبطال، ومن عذابهم وموتهـــــم، لكن هذا الجــندي الذي لم يجد امامه سوى موته وسيلة لايقاف المـــــوت، ورأى انه لا يمتلك سوى انتحاره كي يكون فداء لانسانيته: ‘كان سلاحه على جانبه يصل ركبتيه، وهو يؤرجحه، نظر الى بقع السماء التي تبدو من فتحة المدخل، وازداد اطلاق الرصاص، سمع صراخاً، حمل سلاحه، وضع الفوهة تحت رقبته تماما، نظر في عيني الجندي الثالث… وارتفع صوت رصاصة دخلت رقبته وخرجت من دماغه’ (ص154).
عيون الكاتبة الشاهدة تواجه حذاء الضابط بعدما طرحوها ارضا، لكنهما لا تنحنيان، تحدقان في الرماد وتنتظران ان تنجلي العتمة بالنار.
هذه قوة الكلمات، كنت اعتقد وانا اتابع وقائع الثورة السورية على الشاشات ومن خلال وسائل الاتصال الاجتماعية، ان الصورة التي تنقل الألم لحظة وقوعه هزمت الكلمة. لكنني اكتشفت وان اقرأ هذا الكتاب شيئا آخر اسمه الرائحة. الصورة لا رائحة لها، اما الكلمات التي تأتي من الأعماق فانها لا تكتفي بتصوير ما جرى، بل تنقل للقارئ رائحته. هنا لا نرى الموت بل نشمه ونتذوق طعمه ونلمسه، وهنا ايضا نمسك بالحرية التي صارت كلمة تسكب التجربة على الأوراق، وتجعل الموتى يحيون كشخوص مجبولة بالحكايات.

المصدر: http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\02qpt998.htm&arc=data\2012\04\04-02\02qpt998.htm