هل حاربت أمريكا «داعش» وأضرابها: أين… متى… وكيف؟ – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 5 septembre 2014

سخر نقّاد الرئيس الأمريكي باراك أوباما من عبارته، غير الموفقة بالطبع، من أنّ إدارته لا تملك، بعدُ، ستراتيجية محددة لمحاربة «داعش». وثمة، لا ريب، مبررات كثيرة للسخرية من رئيس القوّة الكونية الأعظم، وقائد الجيش الأكثر جبروتاً وتطوّراً وفتكاً على مدار التاريخ؛ إذْ يعلن افتقاره إلى خطة ستراتيجية متكاملة في مواجهة تنظيم إرهابي عمره ـ في تكوينه البنيوي التنظيمي والعسكري الراهن، على الأقلّ ـ أقلّ من ثلاث سنوات. وكيف لا ينتقل الساخرون إلى درجة أعلى في النقد، إذا كانت جعبة أوباما، في هذا الملفّ وما يقترن به، سورياً أوّلاً ثمّ عراقياً بعدئذ، غاصة بمواقف الحيرة والتردد والتقلّب والتفرّج…
والحال أنّ أوباما لا يملك تلك الستراتيجية، بالفعل، وبالمصطلحات الابتدائية للمنطق العسكري الأبسط: صحيح أنّ الضربات الجوية الأمريكية، ضدّ قوّات «داعش» في العراق، يمكن أن تُلحق بالأخيرة خسائر ملموسة، كبيرة أو صغيرة، على نطاقات محدودة أو واسعة؛ ولكن أية جدوى، على صعيد «دحر» التنظيم كما تطمح واشنطن، إذا ظلّت «داعش» قادرة على الانكفاء إلى قواعدها داخل سوريا، وإعادة تنظيم صفوفها، والعودة إلى العراق مجدداً، بتكتيك الكرّ والفرّ؟ وما الجدوى، على صعيد آخر، من تسليح قوات «البيشمركة» الكردية، في كردستان العراق؛ إذا كانت المواجهات العسكرية مع «داعش» تقتصر جغرافياً على المناطق الكردية، ولا تخضع لتنسيق كافٍ بين القوّات العراقية النظامية و»البيشمركة»؟ 
من جانب آخر، ما يثير الضحك حقاً، بل القهقهة العالية، وليس السخرية وحدها؛ هو تصريح الأدميرال جون كيربي، السكرتير الصحافي لوزارة الدفاع الأمريكية، الذي اعتبر أنّ «الدولة الإسلامية في العراق والمشرق»، حسب التسمية المفضّلة لدى الإدارة، لن يشكّل خطراً على المدى البعيد: «سوف تفشل في نهاية المطاف، بل الحقيقة أنها فشلت لتوها بطرق عديدة. إنهم اليوم أشدّ وحشية، وأفعالهم كانت فظيعة، وهم لا يكسبون الكثير من الدعم. وبالتالي لا أعتقد أنّ هذا سيشكل تهديداً بمصطلح سنوات وسنوات وسنوات»!
ألا يعلم الأدميرال أنّ «داعش» تسيطر الآن، في سوريا والعراق، على أراضٍ تكاد تساوي مساحة بريطانيا؛ وتبسط نفوذها على قرابة أربعة ملايين مواطن، سوري وعراقي؛ وفرغت، قبل أيام من إسقاط مطار الطبقة، شمالي سوريا، حيث ارتكبت مذابح وحشية بحقّ الجنود السوريين، وتزحف على مطار دير الزور الذي فرّ منه ضباط بشار الأسد، وقد تتكرر فيه مذابح لا تقلّ فظاعة؟ هل نسي الأدميرال أفعال «داعش» في سنجار، بعد الموصل ومحيطها، واستمرار سيطرة التنظيم على مواقع بالغة الحساسية عسكرياً، رغم أنّ الجيش العراقي و»البيشمركة» والقاذفات الأمريكية و»خبراء» البنتاغون… اجتمعت عليها؟
الكارثي، لأنه ليس مثيراً للسخرية ولا مضحكاً، في المقابل؛ هو أنّ هذه الإدارة، على منوال سابقاتها، تتعامى عن السبب الأوّل، والأكبر والأسبق، وراء صعود «داعش» وأضرابها؛ أي أنظمة الاستبداد والوراثة والفساد العربية، التي لم تمتهن كرامة المواطن العربي وتسلبه حقوقه في الحياة والحرية والرأي والهوية، فحسب؛ بل دفعته، منهجياً وباضطراد، نحو السوداوية واليأس والمرارة والانكسار، ثمّ التطرّف والعنف والإرهاب في نهاية المطاف. وأمّا التفريع الأدهى، لهذا السبب الأوّل، فهو أنّ محاربي «داعش» هذه الأيام، وقبلها «القاعدة»، هم ذاتهم ساسة الديمقراطيات الغربية، في أمريكا وأوروبا، الذين رعوا أنظمة الاستبداد والفساد، وسكتوا عن ممارساتها ـ الوحشية، والبربرية، والهمجية… بدورها ـ تحت مبرر «الاستقرار»، وضمان المصالح القومية.
السبب الثاني، الذي لا يتعامى عنه الغرب فقط، بل يوغل فيه أكثر، كلما اقتضت الحال؛ هو العربدة الإسرائيلية في فلسطين، وفي الأراضي العربية المحتلة عموماً، والترخيص الذي تحصل عليه إسرائيل من الديمقراطيات الغربية كلما شاءت شنّ حرب في فلسطين، أو ضدّ الجوار؛ أو كلما أرادت أن تتوسع أكثر، وتستوطن، وتصادر الأراضي، وتهدم البيوت وتقتلع الأشجار وتدمّر المرافق العامة. الألسنة في الغرب طويلة حين تنخرط في تشخيص «الإرهاب الإسلامي»، بكلام حقّ يُراد الباطل من تسعة أعشاره؛ ولكنها ألسنة قصيرة، بل خرساء بكماء، وعمياء طرشاء أيضاً، حين يتوجب التعليق على القرار الإسرائيلي الأخير، الذي قضى بالاستيلاء على 28 ألف دونم لإقامة مستوطنات جديدة في الضفة الغربية. 
خذوا ما قاله أوباما، قبل يومين فقط، بصدد ذبح الصحافي الأمريكي ستيفن سوتلوف، وكذلك حول «فلسفة» الفوارق الأخلاقية بين «داعش» وأمريكا، ويا لبؤس المقارنة أصلاً، وأوّلاً: «مثل جيم فولي قبله، كانت حياة ستيف تمثّل التضاد الحادّ مع أولئك الذين قتلوه بوحشية. يطلقون الزعم السخيف بأنهم يقتلون باسم الدين، ولكن ستيف، كما يقول أصدقاؤه، كان هو الذي أحبّ العالم الإسلامي بعمق.
قتلته يحاولون الزعم بأنهم يدافعون عن المضطهدين، ولكن كان ستيف هو الذي تجوّل في أرجاء الشرق الأوسط، وغامر بحياته ليروي قصة المسلمين من الرجال والنساء، المطالبين بالعدالة والكرامة». وأيضاً: «أياً كان ما يظنّ هؤلاء القتلة أنهم سيحققونه من وراء قتل أمريكيين أبرياء مثل ستيفن، فإنهم فشلوا لتوّهم. لقد فشلوا لأنّ الأمريكيين، مثل الشعوب على امتداد العالم، يشعرون بالاشمئزاز من هذه البربرية. سوف لن نذعن لهم».
ثمّ قارنوا، إذْ أنّ المقارنة ليست جائزة فقط، بل واجبة؛ مع ما قاله سلف أوباما، جورج بوش الابن، قبل ثماني سنوات من الآن، في «المعهد الوطني للديمقراطية»، خلال خطبة لم تجانب أسبوعية «نيوزويك» الصواب حين اعتبرتها «قنبلة عقائدية». وبعد استهلال يمزج المقدّمات الديماغوجية بنتائج تبسيطية، استخلص بوش أنّ «الراديكالية الإسلامية، مثل الأيديولوجيا الشيوعية، تحتوي على تناقضات موروثة تحتّم فشلها. وفي كراهيتها للحرّية، عن طريق فقدان الثقة في الإبداع الإنساني ومعاقبة التغيير والتضييق على إسهامات نصف المجتمع، تنسف هذه الأيديولوجيا السمات ذاتها التي تجعل التقدّم الإنساني ممكناً، والمجتمعات الإنسانية ناجحة». وأيضاً: «أياً كانت الحصيلة القادمة في الحرب على هذه الأيديولوجيا، فإنّ النتيجة ليست محطّ شكّ: أولئك الذين يكرهون الحرّية والتقدّم قد حكموا على أنفسهم بالعزلة، والانحسار، والانهيار. ولأنّ الشعوب الحرّة هي التي تؤمن بالمستقبل، فإنّ الشعب الحرّ هو الذي سيمتلك المستقبل».
وبين الاستهلال والخاتمة، ولكي لا تنقطع سلسلة التداعيات المذكّرة ببلاغة الحرب الباردة، ولكي يتمّ رشقها سريعاً على مستقبل هذه القرن بأسره؛ أعاد بوش التشديد على ما يستهويه أكثر: «إنّ الأيديولوجيا الإجرامية للإسلاميين الفاشيين هي محكّ القرن الجديد الذي نعيشه. غير أنّ هذه المعركة تشبه، في أوجه كثيرة، الكفاح ضدّ الشيوعية خلال القرن المنصرم. بن لادن يقول إنّ دوره تعليم المسلمين ما هو خير لهم وما هو ليس بخير. وما يعتبره هذا الرجل، الذي تربى في الرخاء والثراء، خيراً لفقراء المسلمين، ليس سوى أن يصبحوا قتلة وانتحاريين».
تخيّلوا أنّ الرئيس الأمريكي (الجزّار الأوّل خلف كلّ ما حاق بأهل فلسطين والعراق ولبنان من عذابات في الحقبة الراهنة) هو نصير الفقراء المسلمين ضدّ أغنيائهم؛ وليس الأغنياء من طراز حكّام أنظمة الاستبداد والفساد، بل ذلك الغنيّ الذي كان يُدعى أسامة بن لادن (أو «الخليفة» البغدادي، في شخوص هذه الأيام، إذا توجّب أن يعيد أوباما إنتاج الخطاب إياه)! ثمّ تخيّلوه وهو يبدو كمَن يزاود على بلاشفة روسيا، مطلع القرن الماضي، في التعبئة الطبقية!
.. لكي يتبدى إنْ كانت أمريكا قد حاربت «داعش» وأضرابها، حقاً؛ في أيّ يوم، في أيّ مكان!