وداعاً بشير هلال – أحمد عيساوي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 28 février 2015
  • كأنه ينام في خصائص ابتدائه، كأنّ عالماً كاملاً يكنّ في تلك الجاكيت الجوخ السوداء. كأنّ الضي في طلّته هدهدة رقي في كيمياء مع الشيب الجذاب في رأسه. بقليل من سلامة الصوت وبعض من التئام أنسجة الرئة، كانت المسافة بين الكلام والصمت انحناءة قلب على بلاد. كأنّ صوته مئذنة للدمع وهفهفة للضحك في آن. كأنّ قلوباً قد اجتمعت في قلبه الواسع، الأبيض، العارف بما ترنو إليه عيوننا.

نحن الذين أحببناه قريباً وبعيداً وأضعناه حيناً فوجدناه في كل فضاء مفتوح الأفق حاضراً بالتعليق والمداخلات والهتافات، لأن كلامه انعتاق من سطوة الطغاة وانسياب كامل المعنى لهذه الذات الهادئة والصاخبة، لأنّ حنجرته الأخاذة بنغماتها ـ بين طنين الضحك وهزء المزاح وصرامة الموقف ـ لم تعد تعريفاً عن هوية فردية بل جمعاً وجموعاً من الراغبين بكسر الصمت، ولانّ زوال الغشاوة عن عيوننا بات كافياً لنمتدح نضارته وصفاء بصيرته بخجل شديد يقارب الحياء الذي فيه.

ضرب لي الموعد الأول في مقهى Le Select الذي يقع في الدائرة 14، في باريس. ولدى وصولي، قال لي: « عادةً بـ (مقهى) Daguerre القعدة ». لم أنتبه للحظات إلى أنّ هذا الشخص هو نفسه الذي يكتب على الفيسبوك، واستعدت الفكرة التي يعتقد بها جميع متابعيه الذين لم يعرفوه شخصياً: شاب مندفع في مقتبل العمر، يتكلم بجرأة غير معهودة، مرن المزاج ومتقبّل للآخرين، واسع الاطلاع والثقافة، شديد الاحترام وكبير في الأخلاق والسماحة.

وفعلاً، هذا هو بشير، مع فارق وحيد لم يصبه محبّوه الفسابكة، هو سنوات عمره التي تغيّبها أناقته ولباقة حديثه والاحترام الكبير الذي تفرضه شخصيته الكاريزماتية.

صديق السوريين الأكثر وفاء والأشد قدرة على حمل قضيتهم بنبل وذكاء وشهامة قلّ مثيلها. دائم الحضور في كلّ نهار سبت، في ساحة « شاتليه ». حتى عندما يغيب أصحاب القضية كان يأتي لأن تضامنه كان منطلقاً من المبادئ التي يحملها.

كنت أرمقه وهو مغمض العينين وآلة القلب والرئة تعاند نبضاته، فقلت له إنني هاتفته لأطمئن على صحته وهذه المرة الأولى التي يهمل اتصالاً أو رسالة، لكنه لم يحرّك ساكناً. سألته عمّا إذا كان يحب أن نلتقي مجدداً في مونبارناس فلم يجب.

خلف باب غرفة الإنعاش في مستشفى السان جوزيف في باريس، رأيت وجه أبي ورأيت الإبر المغروزة في الجسد المنهك والمصل يقطر ألماً، ورأيت يده الضئيلة التي لن تقوى على حمل السيجارة بعد اليوم؛ فتذكرت حضوره القوي ورباطة جأشه على المنبر، ومرّت في مخيلتي مقالاته في الجرائد وصورته وهو يحمل لافتة تؤيد حق الفلسطينيين والسوريين في الحرية وصورة أخرى له في « عيد الإنسانية » في خيمة اليسار الديمقراطي اللبناني في باريس خريف عام 2005.

فسلاماً سلاماً أيها الجسد المتعب، وسلاماً سلاماً أيها الملح الذي لا يفسد، وسلاماً سلاماً أيها العائد إلينا.

http://www.alaraby.co.uk/culture/3deaac29-9c76-4dc0-b3d0-931cb8fb8575