السلفية الجهادية كتكنولوجيا سياسية -ياسين الحاج صالح

Article  •  Publié sur Souria Houria le 27 août 2016

Yassin Al Haj Saleh, D.R.

تاريخ السلفية الجهادية خلال نحو ثلاثين عاماً هو تاريخ انتشارها خارج مهدها الأفغاني، وهو من وجه آخر تاريخ صعود الإسلام كتكنولوجيا سياسية على حساب الإسلام كإيديولوجية سياسية، على ما كان الأمر بخصوص الإخوان المسلمين وحركات «الإسلام السياسي».
انتشار السلفية الجهادية معاصر لنا ووقائعه معلومة. «الأفغان العرب» خرجوا من أفغانستان بعد هزيمة المحتلين السوفييت، وانهيار الاتحاد السوفييتي نفسه، وعادو إلى بلدانهم أو إلى مسارح جهاد أخرى في الشيشان والبوسنة. الجزائريون منهم شاركوا في الحرب الأهلية التي أعقبت انقلاب الجنرالات على نتائج الانتخابات التشريعية التي فازت بها جبهة الإنقاذ الإسلامية في أواخر 1991. لكن القفزة الأكبر تحققت في العراق بعد الاحتلال الأمريكي، حيث توفر العدو المحتل المناسب، الأمريكان، والطبقة السياسية الطائفية الرعناء من حكام العراق الجدد، والبيئة الاجتماعية الناقمة من السنيين العراقيين. التقاء هذه العوامل وفر للسلفيين الجهاديين بيئة توحش، عملت دولة العراق الإسلامية بقيادة أبو مصعب الزرقاوي على إدارتها وتنمية توحشها. كادت هذه الدولة تموت بعد مقتل الزرقاوي بفعل ما أثارته «إدارة التوحش» الزرقاوية من مقاومات في الأوساط السنية ذاتها، لكن صارت البيئة أكثر ملائمة لها بعد ذلك بفضل سياسات نوري المالكي الطائفية المتشددة، ولا يبدو إلا أن خلفه، حيدر العبادي، يسير على النهج ذاته.
النقلة المهمة الأخرى تحققت بعد الثورة السورية بفعل ما تعرضت له من تحطم بيئات محلية واسعة، كانت من قبل هي الأكثر تهميشاً في الدولة الأسدية. أخذت مقومات بيئة التوحش تتوفر على نحو متصاعد بعد الثورة، وتحققت قفزة في هذا الشأن مع انتصار الحزب الإيراني في دمشق في تموز/يوليو 2012، والتوسع في استخدام الطيران الحربي والسلاح الكيميائي، ثم أكثر بعد الصفقة الكيميائية الأمريكية ـ الروسية في أيلول/سبتمبر 2013. ما شهدناه في سوريا ليس ظهور القاعدة، ثم تمايز «داعش» عنها فقط، وإنما هيمنة الباراديغم السلفي الجهادي وتعممه على حركات ليست قاعدية، بل بعضها معاد للقاعدة مثل «جيش الإسلام».
وتلقى الانتشار السلفي الجهادي دفعاً قوياً إثر انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر، وفشل نهج الإخوان المسلمين.
فما الذي جرى حتى أخذت السلفية الجهادية، وهي موجة معادية للدولة والمجتمع والحياة العادية، تصعد في المجال العربي وما وراءه؟
أولاً فشل الإسلام السياسي، وهو ما تكرس نهائياً في الانقلاب المصري في تموز/يوليو2013 على ظهر احتجاجات شعبية حقيقية ضد حكم الإخوان. قبل ذلك بجيل كان هزم الإخوان في سوريا، وهزمت جبهة الإنقاذ في الجزائر في العقد الأخير من القرن العشرين، وأوضاع مقاربة في ليبيا وتونس. وفي كل الحالات لم يعرف «الإسلام السياسي» ماذا يفعل في مواجهة عنف ساحق من قبل الدول، فلا هم استطاعوا مجاراته وإحداث توازن قوى رادع للدول، ولا أمكنهم تجنبه والتفاهم مع الدول على «تعايش سلمي». واجه الإخوان الذين استخدموا الإسلام أداة في الصراع السياسي، أي كإيديولوجية سياسية، توتراً آخر لم يستطيعوا الانفلات منه في أي وقت: بين إسلاميتهم العابرة للدول وبين الأطر الوطنية لظهورهم وعملهم في بلدان بعينها، مصر، الجزائر، سوريا، وغيرها. السلفية الجهادية حلت هذين التناقضين بوضوح تام. تواجه الدول بالعنف ودون أوهام سياسية، وتنحاز انحيازاً لا شبهة فيه للأممية الإسلامية على حساب أي كيانات وطنية.
في المقام الثاني هناك تقدم كبير في التعرية الاجتماعية والتجريد السياسي لقطاعات متسعة من مجتمعاتنا، في العراق وسوريا ومصر وليبيا والجزائر وغيرها. لا يتعلق الأمر فقط بمركب من الفقر والهامشية وتدهور التعليم، والإذلال الاجتماعي والسياسي، وإنما كذلك بفراغ شامل في المشروع والمعنى العام. انهارت القومية العربية ولم تحل محلها مشاريع وطنية من أي نوع، فقط زعماء مؤلهون من أمثال حافظ الأسد وصدام حسين وحسني مبارك ومعمر القذافي، لا يثيرون احتراماً عند أي أشخاص يحترمون أنفسهم. وفي الخلفية، هناك انهيار عالمي لمشاريع تغيير العالم أو التحرر في العالم، بل وتراجع الديمقراطية ذاتها بفعل التقاء سياسات اقتصادية ليبرالية جديدة مع «الحرب ضد الإرهاب»، ومع مناخات ثقافة ما بعد الحداثة المعنية أكثر بالمحلي والهامشي والهويات المقموعة، والمنفصلة بقدر متصاعد عن منابع السلطة وصيغ إنتاجها وممارستها.
تحفز هذه المناخات طلباً على اليقين والتوجه السديد في العالم، تُلبّيه السلفية الجهادية على أربعة مستويات. على المستوى الفردي توفر انضباطا جسدياً وسلوكياً شديداً يبدأ من الزي ويصل إلى طريقة الكلام، ويشمل نطاق الحياة الخاصة. وعلى مستوى المنظمة توفر العصبة الأوثق تماسكاً، إطاراً من الإخوة والاعتقاد الصلب والمشروع المثير للحماس (كانت العصبة التي تلتئم حول المشروع والحماسة والرفقة من أهم ما يجتذب المناضل الشيوعي إلى تنظيمه). وعلى المستوى السياسي، تقيم تنظيماً إسلامياً للمجتمع يوفر «العزة» للمسلمين، إن عبر كونه «أصيلاً»، مبنياً على ديننا وعقيدتنا نحن، أو عبر قدرته على الحرب وإقباله عليها، خلافا لدولنا القائمة كلها، فضلاً عن أنها تتوفر على تعريف واضح جداً للعدو (الغرب اليهودي الصليبي وعملاؤه). وعلى المستوى الوجودي، أخيراً، ائتمار بأمر الله، واندراج في ما يتجاوز نطاق السياسة والدولة، والدنيا، واستحقاق لـ»إحدى الحسنيين»: النصر المبين أو الشهادة والفوز العظيم.
وعبر الوضوح والانضباط والحماس، يتصل الاعتبار الثالث (بعد فشل «الإسلام السياسي» وتصاعد الطلب على «مشروع» أو وجهة واضحة) بكون المشروع السلفي الجهادي مناسب جداً من أجل الحرب، ومتشكل عبر الحرب أصلاً. الحرب هي المفتاح في فهم الظاهرة السلفية الجهادية، وتوفر العقيدة السلفية المتخيل- المتذكر المناسب لحرب لا مناص منها في عالم اليوم، يخسر العاجزون عنها سيادتهم. ظهرت القاعدة وقت ظهر بوضوح أن دولنا لا تستطيع ان تحارب أي عدو خارجي متصور. العدو موجود ومحارب نشط في حربه. هذه واقعة أساسية في تصوري. الشرط الحربي الذي تعجز عن الاستجابة له الدول أنتج المحاربين من خارجها، وليس العكس، خلافاً لإجماع «علماني» سائد. ليس المجاهد الجوال سبب الحرب، إنه نتاجها. يصير أناس سلفيين كي يقاتلوا، بل يصير غير المسلمين مسلمين وسلفيين من أجل أن يحاربوا.
على أن السلفية الجهادية التي تحل تناقضات الإخوانية، تنتج تناقضها الخاص الكبير: تغذية الحماس والشجاعة الاستثنائيين، والانضباط الاستثنائي، أي الشحذ الأقصى للإرادة، وفي الوقت نفسه إلغاء الإرادة الشخصية وفرض نموذج جمعي، تسود فيه نخبة عسكرية دينية وينتظر من عموم المجاهدين الطاعة. في سوريا، هذا ظاهر اليوم: المتخيل الجهادي هو الركيزة العقدية للأفعال الحربية الأكثر جسارة وللتضحية بالنفس في سياق حرب مفروضة، لكن النموذج الجهادي لاغ جذرياً للحرية، حرية عامة المجاهدين، وحرية عموم الناس. ما يناسب للأولى، الحرب، من طرد التعدد الداخلي من النفس لمنع التردد، يؤسس للأخرى: إخماد صوت الضمير وطرد التعدد من الجماعة والمجتمع. وهو ما يذكر بالشيوعية السوفييتية وشبيهاتها في العالم في القرن العشرين: عصب متماسكة، قوية القلب، لكنها سالبة للحرية في داخلها وحيث حكمت.
الجهادية تكنولوجية سياسية بهذا المعنى: ضبط جسدي واجتماعي استثنائي، وصنع إجماع صلب داخل الشخص وداخل الجماعة. الظهور الأقصى للجهادية كتكنولوجيا سياسية يتمثل في استخدام الجسد كسلاح حرب، حيث يتغلب البرنامج العقدي المكتسب على «البرنامج» الغريزي القاضي بحفظ الذات.
هذه الاستثنائية المعادية للحياة العادية لا تقبل الدوام على ما ينبئ التاريخ البشري كله. بعد جيل الآباء المؤسس، يأتي جيل الشجعان المضحي الذي ربما نعاصره اليوم، رجال بين العشرينات الأربعينات، بعدها ربما جيل المجاهدين التابعين، وبعد حين تفتر الهمم ويتطلع الناس إلى هوامش أوسع للحياة الشخصية والجمعية. هناك منذ الآن تقارير عن فساد وامتيازات في أوساط «داعش»، لا تتصل بالمال والسلطة فقط، بل وبانتهاك بعض كبار «الدواعش» في النطاقات الخاصة لأسس العقيدة المفروضة بقسوة على الجميع.
لكن هذا التتابع الجيلي «الطبيعي» معرض للتشويش باتجاه تطاول الأمد على مستوى المخيلة على الأقل، في ظل شروط الحرب المستمرة في مجالنا، حرب تجريد الدول من السيادة من قبل القوى الدولية النافذة، وتجريد المجتمعات من السياسة على يد الدول منقوصة السيادة.
بنظرة واسعة، لدينا راهناً ثلاث تنويعات من الإسلام. الإسلام كعقيدة للمؤمنين أو كإيديولوجية اجتماعية مع بعد غيبي وروحاني، والإسلام كإيديولوجية سياسية لحزب بعينه، والإسلام كإيديولوجية للحرب وتكنولوجيا سياسية.
هناك منطق في ظهور التنويعتين السياسية والمحاربة، يحيل إلى الموقع الدوني المديد لمجتمعاتنا وللأفراد والمجموعات فيها، إلى تجريدها من السيادة والسياسة، والصفة المطلقة، الدينية عملياً، للسلطات المتحكمة بنا أفراداً وجماعات ومجتمعات، قوى السيطرة الدولية المحتكرة للحرب والسيادة الحقيقية، وقوى الطغيان المحلي المستأثرة بالسياسة.
لكن يتصل الأمر أيضا بصراع لم نخضه جدياً وجذرياً مع الديني، من أجل إدخال التعدد في النفس الإنسانية، وما يقتضيه هذا التعدد من سياسة للنفس، ومن أخلاق وفنون للعيش.